الفصل الثاني
آلَمها رأسها. كان المشهد لا يزال حيًّا متجددًا أمام ناظريها، حتى إن باب غرفة نومها كان قد صار شِبه مفتوح قبل أن تسمع صوته. استدارت بحركةٍ سريعة، لكن لم يكن القادم سوى تيكا، تحمل صينية؛ نظرت تيكا نظرةً إلى وجهها المُتجهِّم وحوَّلت نظرها. فكَّرت إيرين في نفسها بمزاجٍ نكِد أن الاختيار قد وقع عليها خادمةً في البداية على الأرجح بسبب مهارتها في تحويل نظرها؛ لكنها لاحظت حينَها الصينية، ورائحة البخار التي تتصاعد منها، وعلامة القلق البادية بين حاجبي تيكا. فارتخى وجهها.
قالت تيكا: «لا يُمكنكِ الامتناع عن الطعام.»
فأجابتها إيرين: «لم أُفكِّر في هذا»، مُدركةً صحةَ هذا.
حينها قالت تيكا: «ينبغي ألا يدفعكِ الاستياء إلى أن تنسَي أمرَ تناول الطعام.» ثم نظرت بحدةٍ إلى سيدتها الشابة، فبدَت علامة القلق أعمقَ على وجهها.
فقالت إيرين بنبرةٍ جافة: «الاستياء».
تنهَّدت تيكا. «الاختباء. إطالة التفكير. سمِّيه ما شئتِ. إنه ليس من صالحكِ.»
فأشارت إيرين: «ولا من صالحكِ.»
تبدَّد شيء من القلق بابتسامة. «ولا من صالحي.»
«سأحاول التقليلَ من استيائي إن قللتِ من قلقكِ.»
وضعت تيكا الصينية على الطاولة وبدأت ترفع المناديل عن الأطباق. «لقد افتقدك تالات اليوم.»
«بالطبع هو مَن أخبرك بذلك.» كانت إيرين تعرف جيدًا خوفَ تيكا من كل شيءٍ حجمه أكبر من أصغر حصان قزم، ومِن ثمَّ كانت تعرف أنها كانت تترك مسافةً كبيرة جدًّا بينها وبين الإسطبلات ومراعي الماشية وراءها. «سأذهب إليه بعد حلول الظلام.» وعاودت النظرَ إلى النافذة. كان هناك الكثير من الغادين والرائحين عبْر الفِناء الممتد الذي تُطِل عليه غرفتها؛ فرأت المزيدَ من الرسل، ورَجُلَين يستبقان في سيرهما مرتدِيَين الزيَّ الرسمي لجيش الملك، وعلى ساعديهما الأيسرَين شريطةٌ حمراء تدُل على الفِرقة التي ينتميان إليها وهي فيلق الإمداد. كانت عملية تجهيز رفقة الملك استعدادًا لمسيرها غربًا تتقدَّم بوتيرةٍ مُسرعة وتتزايد حتى كادت أن تكون مذعورة. في الظروف العادية لم تكن إيرين ترى أيَّ أحد من نافذة غرفة نومِها عدا أحد رجال الحاشية بين الحين والآخر يتباطأ في سيره.
اهتزَّ فجأةً شيءٌ على الصينية، وجاء بعده صوتُ تنهيدة. «إيرين …»
فقالت إيرين دون أن تلتفت: «لقد فكَّرتُ بالفعل في كلِّ ما ستقولينه.»
ساد الصمت. ثم التفتت إيرين في النهاية نحو تيكا، فوقفت ورأسها وكتفاها منحنيان تحدِّق إلى الصينية. كانت الأطباق من الخزف الثقيل الحسَن الأنيق، لكن كان من السهل استبدالها إذا ما كَسرت إيرين أحدَها، وكثيرًا ما كانت تفعل؛ ولم تكن تملك «الهبة» الصغيرة التي تُتيح لها تصليحها. حدَّقت إيرين إلى الأطباق. كان تور يصلح ما تكسِره حين كانت طفلة، لكنها كانت أكثرَ تكبُّرًا من أن تلتمس ذلك؛ إذ كانت قد تخطَّت بكثير المرحلةَ العمرية التي ينبغي لها فيها أن تكون قادرةً على أن تؤلِّف أجزاءَ الأطباق معًا، ثم تنظر إليها بالنظرة الملَكية الغريبة الموهوبة، فتجعلها تعود كسابق عهدها. ولم يكن كِبَرُ حجمِها ولا كونها خرقاءَ غير عادية تستطيع تكسيرَ الأشياءِ الموجودةِ معها في المكان نفسه، لم يكن ذلك ليُعزِّز طُمأنينتها ولا مزاجها الآن؛ وكأن القدَر أراد لها ألا تنسى أبدًا أنه حرَمها شيئًا كان ينبغي أن يكون حقَّها المُكتسَب بالولادة. ولم تكن إيرين شابة تتَّصف بأنها خرقاء جدًّا، لكنها في الوقت الراهن كانت مقتنعة جدًّا بافتقارها إلى التناسُق بحيث كان لا يزال بإمكانها كسرُ الأشياء بين الحين والآخر بسبب الجزع المحض.
كانت تيكا قد بدَّلت في صمتٍ الأطباقَ الملَكية الفاخرة بتلك الخزفية قبل عدة سنوات، بعدما اكتشفت جالانا أن الأطباق الملوَّنة باللَّونين الأحمر والذهبي التي ينبغي ألا يستخدمها إلا أعضاء دائرة المنزل الملكي الأسمى — والتي تضم إيرين — كانت تختفي شيئًا فشيئًا. وقد أصابتها نوبةُ غضبٍ قوية جرَّاء ذلك، وتسبَّبت في أزمةٍ وفزع لدى الخدَم كلهم بمختلِف درجاتهم، وطُردت على إثر ذلك ثلاثٌ من أحدث الفتيات الخادمات وأدناهنَّ منزلةً للاشتباه في أنهنَّ يسرقن، وبعد ذلك، حين لم يتمكَّن أحد من غض الطرْف عن حالة الفوضى التي كانت تتسبَّب فيها، وجدت وسيلةً لاكتشافِ أن اختفاء الأشياء ليس إلا نتيجة لكون إيرين خرقاء. قالت جالانا لإيرين المُتمرِّدة، في خبثٍ مُستتر يكمُن وراء كلماتها: «أيتها الطفلة المُثيرة للاشمئزاز، حتى ولو كنتِ عاجزة عن إصلاح الأشياء من حولكِ، يمكنكِ الاحتفاظ بالقِطَع لتَدعي أحدَنا يُصلحها لكِ.»
فقالت إيرين ببُغض: «كنت لأشنق نفسي أولًا، ثم أعود في هيئة شبح وأطاردكِ حتى يضنيكِ الخوف وتفقدي جمالكِ ويشير الناس في الشارع نحوكِ …»
هنا صفعتْها جالانا، وكان هذا خطأً تكتيكيًّا. ففي المقام الأول، لم يتطلَّب الأمر من إيرين سوى هذا السبب لكي تقفز عليها وتَقلِبها على الأرض، فتُصيب إحدى عينيها بكدمةٍ وتُمزِّع معظم قماش الدانتيل من الفستان المُخصَّص للخروج بعد الظهيرة المنمَّق للغاية — وبطريقةٍ ما كان أفراد البلاط الملكي والخدَم الشهود على هذا المشهد بَطيئين قليلًا في سحبِ إيرين من فوقها — وفي المقام الثاني، خرَّبت الصفعةُ وما نتج عنها محاولةَ جالانا الاضطلاعَ بدور السيدة العظيمة التي تتعامَل مع طفلةٍ وضيعة. وقد اعتبر الجميع، ومن بينهم جالانا نفسها، أن إيرين فازت بتلك الجولة. ومن بين الفتيات الخادمات الثلاث، أُعيدَت إحداهن إلى الخدمة، وأُوكِل إلى الثانية عملٌ في الإسطبلات، وهو ما كانت تُفضِّله كثيرًا، أما الثالثة، التي صرَّحت بأنها لا ترغب في أن يكون لها أيُّ صلة بالمنزل الملكي حتى ولو تسبَّب قولها ذلك في قطع رأسها بتهمة الخيانة، فقد عادت إلى منزلها في قريتها التي تبعُد عن المدينة كثيرًا.
تنهَّدت إيرين. كانت الحياة أسهلَ حين كان هدفها المنشود هو قتل جالانا بيديها المجرَّدتَين. وقد استمرَّت إيرين بالطبع في استخدام الأوعية الفاخرة حين كانت تتناول الطعام مع أفراد البلاط الملَكي؛ وحين كانت أصغر سنًّا، لحُسن الحظ، كان من النادر أن تُجبَر على فعلِ ذلك، حيث لم تكن تتناول الكثيرَ من الطعام، لكنها كانت تجلس متصلبةً ومتأهبة طَوال الأمسيَّة (كانت حملقة جالانا فيها، والتي تُشبِه حملقةَ الأصلة، من مسافةٍ بعيدة على الطاولة العالية تُساعد على ذلك). لكنها على الأقل لم تكسِر شيئًا كذلك، وكان بالإمكان إقناعُ تيكا دائمًا بأن تُحضِر لها عشاءً مُتأخرًا كلما اقتضت الحاجة. وكانت تُحضِره في آنيةٍ خزفية.
رفعت إيرين ناظرَيها إلى تيكا، التي كانت لا تزال واقفةً بلا حَراك خلف الصينية. «تيكا، آسفة لكوني مُتعَبة. يبدو أنه ليس باستطاعتي التوقُّف عن ذلك. إنه شيء يجري في دمي، مثل كوني خرقاء، مثل كلِّ شيءٍ آخر بداخلي مُختلف عن المعتاد.» ثم سارت نحو العجوز واحتضنتها، فرفعت تيكا نظرَها وابتسمت ابتسامةً خفيفة.
«أكره أن أراكِ … تتنازعين مع كل شيءٍ بهذه الطريقة.»
ارتفعت عينا إيرين دون إرادة منها إلى السيف العتيق المجرَّد من النقوش والمعلَّق فوق رأس سريرها المُرتفع المُغطَّى بالستائر.
«تعرفين أن بيرليث وجالانا مَقيتان لأنهما بغيضان …»
قاطعَتْها إيرين ببطء: «أجل. ولأنني الابنة الوحيدة للساحرة التي سحَرت الملك وجعلته يتزوَّجها، ولأني هدفٌ سهل للغاية.» ثم قالت قبل أن تحظى الأخرى بفرصة مقاطعتها: «تيكا، أتظُنِّين أن جالانا هي مَن أخبرتني بتلك القصة أولًا؟ ما برحتُ أحاول أن أتذكَّر متى سمِعتها للمرة الأولى.»
فتساءلت تيكا، حريصة على أن تكون حيادية: «قصة؟» كانت حريصةً دومًا على أن تكون حيادية بشأن والدة إيرين، الأمر الذي كان أحدَ أسباب استمرار إيرين في سؤالها عن أمها.
«أجل. إن أُمي سحَرت والدي لتنجبَ منه وريثًا يحكم دامار، وأنها ماتت قانطة حين عرفت أنها أنجبت بنتًا وليس ولدًا، حيث إنهم دائمًا ما يَجدون طريقةً يتفادون بها السماحَ للبنات بأن يَرِثن.»
هزَّت تيكا رأسها بنفاد صبر.
قالت إيرين: «لقد ماتت.»
«تموت النسوة أثناء المخاض.»
«لكن ليس الساحرات، غالبًا.»
«لم تكن ساحرة.»
تنهَّدت إيرين، ونظرت إلى يدَيها الكبيرتَين المخطَّطتين بخطوط غليظة من الجلد والمصابة بندوب قديمة من السيف والدرع وشَقِّ طريقِها عبْر الأغصان المتشابكة في الغابة خلف تنانينها — «قاتلة التنانين» — ومن السقوط من فوق صهوة تالات الوفي. «لا شكَّ أن مِن شأن المرء أن يظنَّ أنها لم تكن ساحرة من الحال التي كانت عليها ابنتها. فلو كانت أمي المسكينة قد رُزِقَت بصبيٍّ وتبيَّن أنه مِثلي، ما كان ذلك لينفعها بشيء.» صمتت إيرين وأطالت النظرَ والتفكير في آخرِ ندباتها التي كان سببُها حرقًا أصابها، حيث لعقها تنينٌ ولم يكن الدهان موزعًا بالتساوي عليها. «كيف كانت أمي؟»
بدت تيكا مُستغرِقة في التفكير. ونظرت هي الأخرى نحو سيف إيرين ورماحها لقتل التنانين، لكن إيرين كانت واثقةً جدًّا من أنها لم تكن تنظر إليهم، ذلك أن تيكا لم تكن تحبِّذ هوايتها باعتبارها أميرةً أولى. «كانت قريبة الشَّبَه منكِ كثيرًا لكنها كانت أصغر حجمًا — كادت أن تكون ضعيفة البنية.» ثم ارتفعت كتفاها. «ضعيفة البنية جدًّا بحيث لم تكن تستطيع أن تحمل بطفل. ورغم ذلك كان الأمر وكأن شيئًا بداخلها يتآكل؛ كانت ثمَّة نار خلف تلك البشرة الشاحبة، مُستعرةً على الدوام. أظن أنها عرفت أنها لا تملك من الوقت إلا القليل، وأنها كانت تقاتل لتكسِب ما يكفي من وقتٍ لتكون حُبلى بطفلها.»
عادت تيكا للتركيز على الحجرة بعينيها، وأبعدت ناظريها سريعًا عن رماح التنانين. ثم قالت: «كنتِ طفلةً قويةً وجميلةً منذ وُلِدتِ.»
«أتظنِّين أنها سحَرت أبي؟»
نظرت إليها تيكا مُقطِّبة. وقالت: «لماذا تسألين سؤالًا سخيفًا هكذا؟»
«أُحِب سماعكِ تروين القصص.»
ضحِكت تيكا رغمًا عنها. «في واقع الأمر. لا، لا أظن أنها سحَرت أباكِ؛ ليس بالطريقة التي تقصدها جالانا وجماعتها على أيِّ حال. لقد أُغرِمَت به، وأُغرِمَ بها؛ وهذا إن شئتِ من السِّحر.»
كانتا قد خاضتا هذا النقاشَ من قبل؛ خاضتاه مراتٍ كثيرة مذ أصبحت إيرين كبيرةً بما يكفي لتتحدَّث وتطرح الأسئلة. لكن على مرِّ السنين كانت تيكا في بعض الأحيان تنطِق بجملةٍ أو صفةٍ إضافية فيما تطرح إيرين الأسئلة نفسَها، وهكذا ظلَّت إيرين تسأل. لم يكن لدَيها أدنى شكٍّ في أنه كان ثمَّة لغز. لم يكن أبوها يناقش أمرَ والدتها معها مطلقًا، عدا إخبارها إنه لا يزال يفتقدها، وقد وجدت إيرين هذا مطَمئنًا إلى حدٍّ ما. لكن لم تستطِع إيرين قطعًا حسْم رأيها بشأنِ ما إن كانت حقيقة اللُّغز معروفة للجميع عداها، وأن تلك الحقيقة قاسية جدًّا فلا يُمكن الحديث عنها، خاصةً لابنة مصدر اللغز، أو إن كان اللغز مجهولًا للجميع ومِن ثمَّ كانوا يُلقون باللوم عليها لأنها تُذكِّرهم به دون توقُّف. إجمالًا كانت تميل نحو الاحتمال الأخير؛ فلم تستطِع أن تتخيَّل شيئًا أبغضَ من هذا بحيث تتورَّع جالانا عن استخدامه ضدَّها. وإن كان ثمَّة شيء مريع بهذا القدْر، فلن يقدِر بيرليث على مقاومة التوقف عن تجاهلُها فترةً طويلة بما يكفي ليفسِّره.
كانت تيكا قد التفتت عائدة إلى الصينية وصبَّت كوبًا من المالاك الساخن، وقدَّمته لإيرين التي جلست متربِّعةً على فِراشها، فكان قِراب السيف المتدلي يمسُّ مؤخَّر عنقها.
«لقد أحضرتُ قضبان الميك أيضًا لأجل تالات، حتى لا تحتاجي إلى الذهاب إلى المطبخ إن كنتِ لا ترغبين في ذلك.»
ضحِكت إيرين. «أنتِ تعرفينني معرفةً حقيقية. فبعد نوبة الاستياء، أتسلَّل إلى الإسطبلات بعد حلول الظلام — حبذا لو كان بعد وقت النوم — وأتحدَّث إلى حصاني.»
ابتسمت تيكا وجلست على الوسادة المُطرَّزة باللونَين الأحمر والأزرق على الكرسي المجاور لفراش إيرين (كان التطريز من صُنْعها هي وليس من صُنْع إيرين). «لقد أمضيتُ وقتًا طويلًا في تربيتكِ، على مرِّ تلك السنين الطويلة.»
أقرَّت إيرين قائلةً: «سنين طويلة جدًّا» وهي تمدُّ يدَها نحو ساقٍ من التوربي. «خبريني عن أمي.»
أخذت تيكا تفكِّر. وقالت: «أتت ذات يوم إلى المدينة سيرًا. بدا أنها لم تكن تملك شيئًا سوى الرداء الطويل الباهت الذي كانت ترتديه؛ لكنها كانت طيبة، وكانت تعامِل الحيوانات معاملةً طيبة، وأحبَّها الناس.»
«حتى تزوَّجها الملك.»
أخذت تيكا شريحةَ خبزٍ داكن وقسَّمتها إلى نصفَين. «كان بعضهم يحبُّها حتى عندما تزوجها الملك.»
«أكنتِ تُحبِّينها؟»
«ما كان الملك أرلبيث سيختارني لرعاية ابنتها لولا ذلك.»
«هل أشبِهُها إلى هذا الحد الذي يقوله الناس؟»
حدَّقت فيها تيكا، لكن شعرَت إيرين أن مَن كانت تيكا تنظر إليها هي والدتها. «أنتِ تُشبهين أمكِ كثيرًا لو كانت صحيحة وقوية ولم يُصبْها أذًى. لم تكن والدتك بالغةَ الجمال، لكنها كانت … تأسِر الأنظار. أنتِ أيضًا كذلك.»
فكَّرت إيرين في سريرتها، في أنها تأسِر نظر تور، ولهذا تكرهها جالانا بحماسٍ أكبرَ مما كانت ستفعل في أي حالٍ آخرَ. إنها أغبى من أن تدرِك الفارقَ بين ذلك النوع من الحب وحب الصَّديق لصديقه الذي يعتمد على علاقةِ الصداقة تحديدًا، أو حُب ابن المزارع لدجاجته الأليفة. أتساءل إن كان بيرليث يكرهني لأن زوجته كانت تتطلَّع إلى أن تتزوَّج تور، أم فقط لأسبابٍ صغيرة سطحية تخصُّه. «إنما ذلك بسبب الشَّعر البرتقالي السخيف وحسب.»
«ليس برتقاليًّا. إنه بلون اللهب.»
«النار لونها برتقالي.»
«أنتِ ميئوس منكِ.»
ابتسمت إيرين رغم امتلاء فمِها بالخبز. «أجل. وإضافة إلى ذلك، من الأفضل أن يكون المرء ميئوسًا منه؛ لأن …» وهنا اختفت الابتسامة.
فقالت تيكا بلهفة: «عزيزتي، لا يمكن أن تكوني قد صدَّقْتِ أنَّ أباكِ كان سيسمح لكِ بالذهاب مع الجيش. قِلَّة من النسوة يفعلن ذلك …»
فقالت إيرين بحدَّة: «ولهنَّ جميعًا أزواج، ولا يذهبن إلا بتصريحٍ خاص من الملِك، وشريطة أن يُتقِنَّ الرقص بقدْر إتقانهنَّ ركوبَ الخيل. ولم تركب امرأةٌ مطلقًا بجوار الملِك منذ أن تعلَّم الرجالُ على يد إيرينا، إلهةِ الشرفِ والنار، صناعةَ سيوفهم. من شأن المرء أن يظن أن إيرينا كانت يمكن أن تتمتع بإدراكٍ أفضل. أظنُّ أننا جميعًا كنَّا سنظل نركب إلى جوارِ الملوك لو كنَّا لا نزال نستخدِم المقاليعَ والأغاني السحرية. كانوا في حاجة لأصوات النسوة من أجل أن تُجْدي الأغاني نفعًا …»
فقالت تيكا في حزم: «ما تلك إلا أسطورة جذابة. فلو كان الغناء يُجدِي نفعًا لظلِلْنا نستخدمه.»
«لماذا؟ لربما ضاع ذلك مع التاج. على الأقل كانوا سيُسَمُّونني كوبكا أو مارلي أو … أو جالانا أو شيئًا من هذا القبيل. شيئًا يُقدِّم لي تحذيرًا منصِفًا.»
«لقد أطلقوا عليكِ اسم والدتكِ.»
فقالت إيرين: «إذن لا بد وأنها كانت دامارية.» وكانت تلك المسألة أيضًا محلَّ جدال قديم. «إيرينا كانت دامارية.»
قالت تيكا: «إيرينا دامارية بالفعل، وهي إلهة. لا أحد يعرف من أين أتت في البداية.»
ثم ساد الصمت. توقَّفت إيرين عن المضغ. ثم تذكَّرت أنها كانت تأكل، فابتلعت الطعام، وتناولت قضمةً أخرى من الخبز والتوربي. «لا، لا أظن أني حسبت مطلقًا أن الملك كان سيسمح لابنته الوحيدة، التي هي دون المستوى بطريقةٍ ما، أن تركب الخيلَ لتدخل معركةً محتملة، حتى ولو كان التعامل مع السيف هو الشيء الوحيد الذي برعت فيه بدرجةٍ قليلة؛ ورقصها ليس مرضيًا قطعًا.» ثم نخرَت. وأردفت: «تور مُعلِّم جيد. لقد علَّمني بصبرٍ كما لو كان من الطبيعي لابنة الملِك أن تتعلَّم كل ضربة سيفٍ عن ظهرِ قلب، وأن تتدرَّب على كل مناورة حتى تحفظَها العضلاتُ نفسها؛ ذلك أن لا شيء يستيقظ في دم ابنة الملك ليُوجِّهها.» ونظرت إيرين إلى تيكا بعينَين مُحمرَّتَين، وهي تتذكَّر مجددًا كلمات بيرليث وهو يُغادر القاعة ليلة أمس. «ليس من السهل قتلُ التنانين يا تيكا.»
فقالت تيكا بنبرةٍ صادقة: «ما كنتُ لأرغب في أن يتعيَّن عليَّ قتل تنين.» كانت تيكا خادمةً وراعية، وكانت تُعِد الحليبَ المُخمَّر وتحيك الرُّقع في القماش، وهي ساخرة ومواسية وصديقة، ولم تكُ ترى شيئًا جميلًا في سيفٍ جيدِ التوازن، كما كانت ترتدي دومًا التنانيرَ الطويلة الكاملة والمآزر.
انفجرت إيرين ضاحكة. «أجل، لستُ مندهشةً من ذلك.»
فابتسمت تيكا في ارتياح.
•••
أكلَت إيرين بضعة قضبان من الميك قبل هبوط الظلام وتمكَّنت من أن تتسلل خلسةً من القلعة باستخدام السلالم الضيقة الخلفية التي لم يكن أحدٌ آخر يستخدمها، ودلفت إلى أكبرِ الحظائر الملَكية التي تُحفَظ فيها خيولُ الدائرة الأولى. كان يروق لها أن تتظاهرَ بأن الرجال والنساء الذين يتعهَّدون الخيول على الدوام، أي السُّيَّاس، لم يلاحظوها في كل مرة تتسلَّل فيها في ساعةٍ غير معهودة من الليل لتزور تالات. كان يمكن لأي أحدٍ آخرَ ممن يحملون الدمَ الملكي أن يحرص على ألَّا يراه أحد لو أراد ذلك؛ أما إيرين فلم يكن بمقدورها إلا أن تتسلَّل على أطرافِ أصابعها في الظلام، حين يكون ثمَّة ظلام، وتخفِض صوتها؛ ورغم ذلك كانت تعرف أن وجودها كان ببساطة معروفًا وكان مسموحًا لها أن تمرَّ. تقبَّل السُّيَّاس أنها حين تأتي بهذا الهدوء فإنها ترغب في أن يتركوها وشأنها، وكانوا يحترمون رغباتها؛ وكان هورنمار، وهو السائس الخاصُّ بالملك، صديقَها. عرف جميع السُّياس ما فعلته من أجل تالات؛ لذا حقيقة أنهم كانوا عطوفين معها بتجاهلهم لها كانت تؤلمها أقلَّ مما تؤلِمها تصرفاتٌ مشابهة تجاه نقائص الأميرة الأولى في أماكنَ أخرى من البلاط الملكي.
كان تالات يتساءل عما حَلَّ بها على مدارِ ما يقرُب من يومَين، وكان عليها أن تُطعمه آخرَ ثلاثة قضبان من الميك قبل أن يُسامحها؛ راح تالات يتشمَّم سائر جسدها، من ناحية لكي يطمئن إلى أنها لم تكن تُخبِّئ أيَّ شيءٍ آخر يُمكنه تناوله، ومن ناحيةٍ أخرى ليطمئن إلى أنها عادت إليه فعلًا. ثم فرك وجنتَه في حزن على كمِّها ورفع عينه معاتبًا إيَّاها.
كان تالات يُقاربها في العمر؛ إذ كان حصان والدها حين كانت صغيرة. تذكَّرت إيرين الحصان الرمادي الداكن المُرقَّط برقط سوداء لامعة على كتفَيه وخاصرته، وعينَيه الداكنتَين المتحمِّستَين. كانت زينات الملك تبدو جيدةً عليه خاصةً: زمامًا وعِذارًا أحمرين، وحاشية حمراء للسَّرج، ودرعَ صدرٍ عريضًا أحمرَ به ورقة شجر ذهبية مطرَّزة عليه؛ ورقة شجرة السوركا، شعار الملك، ذلك أن واحدًا فقط من ذوي الدمِّ الملكي بإمكانه أن يلمس ورقةَ السوركا ولا يموت من نُسْغِها.
لقد أصبح جلُّ الحصانِ أبيضَ الآن. وكلُّ ما بقي من شبابه كانت بضع شعرات سوداء على عرفه وذيله، وأطراف أُذنَيه السوداء.
«لم يهجرك أحد؛ لا تحاول حتى أن تجعلني أظن ذلك. فأنت تحصل على الطعام والماء، ويُسمح لك يوميًّا بأن تخرج لتتمرَّغ في التراب سواء أتيتُ أم لم آتِ.» ثم مرَّرَت يدَها على ظهره؛ لا شك أن أحدَ تابعي هورنمار قد مشَّطه تمشيطًا جيدًا، لكن تالات كان يُحب أن يُدلَّل كثيرًا؛ لذا جلبت إيرين الفُرَشَ وأخذت تمشِّطه ثانيةً فيما مدَّ عنقه وأخذ يلوي قسمات وجهه بما ينِمُّ عن الاستمتاع. وقد هدأت إيرين وهي تفعل ما تفعل، وتلاشت من رأسها ذكرى المشهد في القاعة، وهدأت حالتها المزاجية التي كانت قد سيطرت عليها طوال اليومين الماضيين وبدأت تتبدَّد كالغمام في وجه الريح.