الفصل العشرون
كانت إيرين على قمةِ جبلٍ صغير من الرُّكام؛ وعن يمينها عند أسفل هذا الجبل الصغير كان هناك خرقٌ في الجدار الدائري المُحيط، وكان الخرق واسعًا بما يكفي لأن تظن أن بإمكانها على الأرجح أن تُقحِمَ نفسها خلاله. نزلت إيرين على المنحدر ببطءٍ وحذَرٍ نحو الخرق في الجدار، لكن ما تحت قدمَيها تحرَّك وانزلق، ووجدت إيرين نفسها قد وصلت إلى أسفل الرُّكام جالسةً على عقِبَيها، وقد رفعت جونتوران من غمده بيدِها السليمة حتى لا يحتكَّ بالأرض. وقفت إيرين وذهبت باتجاه الخرق، وبالفعل كان بإمكانها أن تُقحِم نفسها عبْرَه مع أنه كان ضيِّقًا بعض الشيء؛ عندئذٍ انبهر بصرُها من ضوء الشمس وارتخت ساقاها فجأة، فجلست بسرعةٍ ووضعت وجهها بين رُكبتَيها. وبينما كانت تُحدِّق في الأرض حدَّثت نفسها: «أتساءل كم مرَّ عليَّ من وقتٍ منذ أكلت شيئًا. قد يُساعدني أن أتناول طعامًا.» جعلتها هذه الفكرة البسيطة تشعر بتحسُّنٍ في الحال، وكذلك جعلتها تشعُر بالجوع. رفعت إيرين رأسها. كانت لا تزال تشعر بعدم الاتزان، وحين عادت تقف على قدمَيها جاهدةً — حيث استخدمت، بطريقةٍ خرقاء، جونتوران تُكَأَة لها — كانت رُكبتاها ترتعشان، لكنها أرجعت ذلك بانشراحٍ إلى افتقارها إلى الطعام.
نظرت إيرين حولها. وتساءلت أين هي؟ قد كان الصرح الأسود مُنتصبًا وسط سهلٍ قاحلٍ لا ينمو فيه شيء؛ والآن كانت ترى في كلِّ مكانٍ حولها أدغالًا، أشجارًا عليها نباتات مُعترشة شاسعة (لكنها لم تستطِع أن ترى نبات السوركا فيها)، وبين تلك الأشجار خمائلُ كثيفة. وقد سطع ضوء الشمس على الصرح المُدمَّر وعلى الفرجة الصغيرة التي أحدثها الركام وغطَّاها، لكن لم يستطِع الضوء أن يخترق الأوراق الكثيفة. أُفٍّ. لن تكون رحلة الخروج سلسة. وأين يُمكنها أن تجد تالات؟ انطلقت تسير حول ما بقِيَ من الصرح.
لم يكن ثمة شيءٌ سوى صخورٍ منهارة وغابة كثيفة. لا شيء آخر. لا أثرَ أيضًا على أنَّ أي شيءٍ آخر كان هنا، لكن أين هي؟ هل كان الصرح المدمَّر الذي كانت تجوب حوله الآن هو الصرح نفسه الذي كانت قد واجهته هي وتالات ووحوشها الضارية؟ أرجعت رأسها للخلف قليلًا لتنظر إلى الأعلى إلى الجدران الباقية. لم تبدُ الجدران كبيرةً بما يكفي؛ ولم تكن الصخور المنهارة كافيةً لأن تكون هي التي كان قد بُني منها ذلك الصرح الضخم والرحيب كما تذكره. تنهَّدت إيرين وفركَت وجهها بإحدى يدَيها، وعادت وسحبت يدها بسرعة؛ إذ تذكَّرت أن تلك كانت اليد المُصابة. لكن الجُرح كان قد الْتأم بالفعل؛ لم يكن ثمَّة شيء على راحة يدِها سوى ندبةٍ بيضاء محدودة. حدَّقت إيرين في الندبة وهي مُتحيرة؛ لكن كانت هناك أشياءُ أخرى أكثر أهميةً تستدعي حيرتها.
إذن ما الخطوة التالية؟ كانت إيرين وحيدة — في مكانٍ مجهول — وجائعة، وكانت الشمس على وشْك الأفول. لم تكن تتطلَّع لأن تقضيَ ليلتها وحيدة في هذا المكان، وإن كان قد بدا ولا شكَّ أن لا شيء كبير الحجم بما يكفي لأن يُسبِّب لها مشكلةً بإمكانه أن يمرَّ عبر هذه الغابة، لكن دائمًا ما يكون هناك عناكبُ مثلًا. وبينما كانت تُفكِّر في العناكب خطرَ لها أنها كانت بالكاد تشعر بحِكة في صدرها؛ إذ لم تكن شديدة، وكأنها صارت عادةً بدأت ولا ترغب في التوقُّف عنها، وإن لم يكن هناك ما يستدعي فِعلها. وفكَّرت في نفسها أن لذلك مغزًى حسبما ظنَّت؛ ثم عادت ترمق راحة يدِها التي بها الندبة.
جلست إيرين وأغمضت عينَيها، وتدبَّرت أمر شيءٍ أو اثنين من الأشياء البسيطة التي علَّمها إيَّاها لوث، وفكَّرت بشأن الهواء. وتتبَّعت دوَّامات خفيَّة وتدفُّقات بالغة الصغر وهي تنجرِف من فوقها وتعود إلى ما بين الأشجار ثانية؛ وفي النهاية وجدت تدفُّقًا كان رطبًا، فتبِعته حتى غاص في الأرض، وهناك وجدت ينبوعًا. بدا الينبوع لا بأس به؛ وكان ملمسه كالماء.
فتحت إيرين عينَيها ثم نهضت واقفة. كان الينبوع، حين وصلت إليه، لا يزال يبدو كينبوع ماء ورائحته رائحة ينبوع ماء؛ فتنهَّدت، لأنه لم يكن أمامها خيار آخر. وغطَّسَت رأسها فيه، ثم أرجعت شعرها المُبتلَّ إلى الخلف وأخذت تنهل منه. ثم جلست على عقبَيها وقطَّبت حاجبيها وهي تنظر إلى الشجيرات الصغيرة. كان الينبوع الصغير يبعد عن حافة الفرجة بضع خطواتٍ وحسب، إلا أن قَطْع هذه المسافة الصغيرة كان قد تطلَّب منها وقتًا وجهدًا. فكيف لها أن تخرج من هذه الغابة؟
كلُّ شيءٍ في حينه. تذكَّرت شيئًا آخر كان لوث قد علَّمها إيَّاه، فأخذت تجمع بضعة فروعٍ صغيرة جافة وكومةً من الأوراق الميتة وأشعلت فيها نارًا بأن حملقت فيها بعينَيها، وإن كان هذا المجهود الذي بذلتْه قد سبَّب لها صداعًا شديدًا ولم تَستطِع لمدةٍ طويلة بعدها أن تُركَّز ببصرِها على شيء، وكانت النار بطيئةً في اشتعالِها وتُخرِج دخانًا كثيرًا. وطافت إيرين بالأرجاء تجمع المزيد من الفروع الصغيرة فكانت ترى الواحد منها اثنَين وكانت ترى يدَها وهي تمتدُّ لها يدَين، وكانت في عموم ذلك تُخطئ في تمييز الحقيقي منهما عن غير الحقيقي؛ لكن رغم ذلك جمعت ما يكفي من الفروع لتُبقيَ على النار مُشتعلةً طوال الليل. أو هكذا كانت تأمُل. وبدأت النار تستعر أفضل قليلًا.
وللعشاء تناولت إيرين ماءً دافئًا، وذلك بأن ملأت الجراب الذي حملت فيه حجر التنين بالماء وعلَّقته على النار؛ وكان الماء يتقاطر قليلًا جدًّا من الجراب. ستُحاول أن تتدبَّر أمر الطعام غدًا؛ كان الجوع قد أنهكها بما يكفي، لكنها كانت منهكةً أيضًا من كل شيء آخر، وكانت الشمس قد غربت، وسرعان ما سيتحوَّل الغسَق إلى ظلامٍ دامس. رقدت إيرين وقد صنعت لنفسها وسادةً غير مُريحة من صخرةٍ ما، وقد شدَّت قطعةً من سترتها نحو الأعلى لتقي أُذنَها. رقدت هامدةً كالصخور التي ترقد عليها، من دون أن تتمتَّع بطاقةٍ حتى لكي تحاول إيجاد بقعةٍ مريحة أكثر؛ لكن كانت أفكارها لا تزال تجوب أنقاض الجبل الأسود وتنبش في الركام. ربما بإمكان لوث أن يشرح لها بعض ذلك، لكنها أحجمت عن فكرة أن تراه ثانية، أو أن تسأله. أثارت الغابة كدرها؛ إذ كانت في حاجة لأن تجد طريقةً لتخرج منها؛ كان وجود الغابة أكثرَ من مجرد مُعضلة فلسفية — وكذلك كان انعزالها. أين تالات؟ بإمكانها أن تُصدِّق أن حلفاءها الآخرين قد تلاشوا وتبدَّدوا بنفس الطريقة التي ظهروا بها؛ ولم تفهم إيرين لماذا لحِقوا برَكْبها في المقام الأول. لكن ما كان تالات ليترُكها. ليس بإرادته على الأقل.
ثم راودتها أسوأ فكرة على الإطلاق: لقد انتهى أمر أجسديد، أو على الأقل يبدو أن أمره قد انتهى؛ لكنها أخفقت رغم ذلك؛ فقد انتهى أمر تاج البطل أيضًا.
تقلَّبت إيرين وهي راقدة وحدَّقت في السماء. لم يكن بها قمر، لكن النجوم أضاءت بشدة في وجهها. وفجأة أدركت إيرين أن أجسديد نفسه لم يكن حقيقيًّا بالنسبة إليها؛ كان شعورها بالرعب حقيقيًّا بما يكفي، وكذلك كان ذُعرها الشديد من وجهه؛ وكانت تعرف أنها ذهبت إلى معركةٍ فرصةُ انتصارها فيها أقلُّ من فرصة انتصارها حين واجهت ماور. لكن الشيء الذي كان يُعينها والحُلم الذي كان يُحرِّكها هو تاج البطل. لم يكن للأمر علاقة بدمِها أو بحقِّها الشرعي باعتبارها وريثةً لأمِّها، لم يكن للأمر علاقة بثأر شخصي؛ بل كان شغلها الشاغل هو فكرة إعادة التاج إلى المدينة، وتقديمه إلى أرلبيث وتور. كانت واثقة — وإن لم تكن قد فكَّرت في ذلك بوعيٍ منها — أنه كما ينقضي هلاك دامار بهلاك أجسديد، كذلك ينقضي أمر التاج المفقود. لم يكن أحد يعرف بشأن أجسديد؛ ولم يكن أحد ليُصدِّقها لو قصَّت القصة، ولم يكن بإمكانها أن تقصَّها؛ إذ ماذا بإمكانها أن تقول عن النبوءة، عن صِلة القرابة التي جعلتها الندَّ الوحيد المُمكن؟ ماذا ستقول عن خالها؟
لكن حقيقة أجسديد لم تكن مُهمة، أو كانت مُهمةً لها هي وحدَها. أما التاج فكان مُهمًّا، ولربما كانت لتقصَّ قصَّتَه: أنها انتزعته ممَّن كان يستحوذ عليه، لتُعيده إلى مدينتِها، لتُسلِّمه إلى ملِكها. لكن في الواقع، ورغم كلِّ ما تكبَّدته، لم تُحقِّق شيئًا. لو ذهبت إيرين إلى المدينة الآن — لو عادت إلى وطنها — لكانت كعودة كلبٍ هارب إلى صاحبه، مُنكَّس الرأس يجرُّ أذيال الخيبة، وأقصى ما يَأمُل فيه أن يجد الصفح والغفران.
أغلقت عينَيها ونامت خدرةً من شعورها بالإخفاق؛ لكن بعد وقتٍ قصير من منتصف الليل، حتى نومها هذا تكدَّر. بدت الأرض وكأنها تهتزُّ من تحتها، وسمِعت هديرًا كهدير صخورٍ تسقط بعيدًا؛ لكن ربما كانت تحلُم فحسب. لاحقًا عرفت إيرين أنها كانت تحلُم، ذلك أنها رأت وجوهًا لم تلتقِ بها من قبل قطُّ في يقظتها.
رأت فتاةً حزينة الوجه تجلس إلى بِركة. وكانت الجدران البيضاء من حولها شاهقة الارتفاع وكأنَّ السحاب قد استقرَّ على قِمَمها؛ ومن خلفها درجاتٌ منخفضة تُفضي إلى بابٍ مفتوح، ومن خلف ذلك حجرة. ولم يكن هناك أبواب في الجدران الأخرى، وكانت الأرض المُنبسطة حول البِركة مُغطاةً بأحجارٍ بيضاء عريضة. سقط شَعر الفتاة الأسود الطويل للأمام وهي تُحدِّق في الماء الهادئ، وترسَّخت نظرةُ الحزن أكثرَ على مُحَيَّاها. ثم رأت إيرين في حُلمها بستانًا آخرَ محاطًا بسور، لكن كان الماء فيه يتلاعب من نافورة، وكانت الجدران فيه من الفسيفساء الأزرق؛ وفي البستان وقفتِ امرأة شابَّة طويلة ذات شعر أصفر، أطول من إيرين نفسها بمقدار شبر، وإلى جوارها وقفت قطة فولستزا خضراء العينَين. ثم رأت رجالًا ثلاثة يقفون عند سفح جبل، على نتوءٍ صخري صغير، يُواجهون خَرقًا أو ثقبًا في صدر الجبل. كان رجل ضخم الجثة منهم له شَعر أسود رقيق يُحدِّق في الخرق بتعبيراتٍ تنِمُّ عن العناد، وكان رفيقه أشقرَ الشعر يقول: «لا تكن أحمقَ. تُومي. استمِع إليَّ.» وكان الرجل الثالث يافعًا داكن البشرة ذا بِنيةٍ ضعيفة، وبدا مُستمتعًا لكنه قال: «ليو، لا بد أنك أكثرُ حكمةً وتعقُّلًا من أن تدخُل معه في جدال بلا طائل.»
بدا أنَّ أصواتهم جعلت إيرين تستفيق من نومِها بعض الشيء، ذلك أن أحلامها قد أصبحت أكثرَ تشابكًا وتشوُّشًا، ورأت وجوهًا من دون أن تكون على يقينٍ إن كانت قد تعرَّفت على تلك الوجوه أم لا، ثم تحسَّست الفراش الوعر تحتها ثانيةً، وبدا لها وكأن الأرض قد انضغطت بصورةٍ غير متساوية تحت إحدى كتفَيها وإحدى وَرِكيها، ثم تقلَّبت فانغرس فيها حجر كانت واثقةً أنه لم يكن موجودًا من قبلُ في أسفل ظهرها فآلمها. ورغم ذلك لم تستطِع أن تفيق من نومها، وبعد ذلك، فتحت عينَيها وهي تشهق وقامت جالسة؛ كان الصبح قد حلَّ، وكانت النار قد انطفأت؛ لم تكن قد انطفأت فحسب، بل كانت مُبعثرة، وكأن شخصًا لا تتأثَّر يدُه بالنار قد أمسك بها ونثر جُذَاذَاتٍ منها في كل اتجاه؛ أو كأن الأرض قد تموَّجت من تحتها.
وكانت الغابة قد اختفت.
رمشت إيرين بعينَيها، لكن الغابة لم تزل غير موجودة. كانت إيرين في وسط التلة التي كانت قد عبَرتها لتصِل إلى الصرح الأسود، وإن كانت الأرض تنحدِر من تحت مجلسها انحدارًا طفيفًا لكن لا لبس فيه، وحتى مسافة بعيدة نحو الجبال المُحيطة، ولم تكن إيرين قد صعدَت التل لتصِل إلى جرفِ أجسديد. كان الجو رائقًا وبديعًا والسماء صافية، واستطاعت أن ترى عَرض التلة من جميع الاتجاهات؛ كانت تلال دامار على الجانب المُقابل أبعدَ قليلًا من الجبال الشمالية المجهولة الاسم. في خوفٍ مُفاجئ هبَّت إيرين واقفة على قدمَيها، والتفتت ونظرت حولها، لكن الجبل الأسود كان لا يزال رُكامًا؛ لم يكن يتعيَّن عليها أن تصعد كل هذه الدرجات ثانيةً، ولا أن تُجابه مرةً أخرى مشعوذًا له وجه يُشبه وجهها.
كانت قد خطَت بضع خطواتٍ في اتجاهٍ غير مُحدَّد حين ارتطم بها شيء أسودُ طويل فأسقطها مُمدَّدةً على الأرض. وكانت قد بدأت للتوِّ تتحسَّس جونتوران بصورةٍ محمومة حين تعرفت إلى ذلك الشيء الأسود؛ كان القط الأسود القائد، وكان على ما يبدو مسرورًا كثيرًا لرؤيتها. كانت قائمتاه الأماميتان فوق كتفَيها وكان يفرُك وجهه ذا الشعر الأسمر والمخْملي في وجهها، وكان يُخرخر بصوتٍ عالٍ بما يكفي لأن تظنَّ أن خرخرته كافية لأن تُسقط ما بقِيَ من الصرح على رأسيهما.
وأخيرًا تركها تجلس، مع أنه ظلَّ في حِجرها. تحسَّست إيرين الأماكن التي سقطت عليها من جسمها ونظرت إليه نظراتٍ حادة. وقالت بنبرة عالية: «تلقَّيتُ ما يكفي من الكدمات من قبل»، فكانت مثوبة ذلك أن سمِعت صهيلَ تالات المُدوِّي، وظهر تالات نفسه حول حافة الصرح. ثم جاء خببًا وتشمَّمها في شوقٍ وتلهُّف، فربَّتت على صدره وأبعدت القط عن حِجرها حتى يتسنَّى لها أن تقف، وأطلق تالات تنهيدةً عميقة تنِم عن ارتياحه بعدما قامت. فالمرة الأخيرة التي وجدَها فيها بعد معركةٍ لم يكن لقاؤهما بهيجًا. ونفر تالات في قميصها وجذبت هي أُذنَيه، والتفَّ القط الأسود بين ساقَيها وكذلك بين قائمتَي تالات الأماميتَين، وقالت إيرين: «جاء غيابي بفائدة: لقد أصبحتما صديقَين.» عندئذٍ تركهما القط وتبختر مُبتعدًا. فضحكت إيرين.
ثم تبِعته هي وتالات وسرعان ما وصلوا إلى مكان بقية القطط الكبيرة، وكانت الكلاب البرية هناك أيضًا، وفي حين كان كِلا المعسكرين مُلتزمًا بفريقه، كان لدى إيرين إحساسٌ قوي بأن بينهما وئام وثيق، إن لم تكن صداقة بالضبط.
كانت قطط الفولستزا وكلاب اليريج مُستلقية وسط أكوامٍ من الأنقاض بالقُرب من ظلالِ آخرِ ما بقي قائمًا من الجدران؛ لكن كانت إيرين واثقةً من أنها دارت حول بقايا الجبل الأسود دورةً كاملة في اليوم السابق، ولم ترَ أثرًا لأصدقائها. هبطت إيرين المنحدرَ نحوهم، فأتت نحوها قائدةُ قطيع الكلاب تلوِّح بذَيلها الطويل تلويحًا لا يكاد يكون ملحوظًا. فمدَّت إيرين يدَها في تردُّد فأخذتها قائدة القطيع بين فكَّيها في تردُّد أيضًا. وقفت إيرين ساكنةً فيما نظرت إليها عين زرقاء ضيقة، وبادلتها إيرين النظر. لوَّح الذيل ثانية، ثم تركت قائدة القطيع يدَ إيرين وغادرت مهرولة، ثم أعطت أوامرَ خَفِية إلى أفراد قطيعها؛ إذ تبِعوها جميعًا؛ والتفَّت الكلاب حول حافة جبل الأنقاض مبتعدةً عن إيرين، ثم اختفت.
هنا شعرت إيرين أنها مخذولة قليلًا. هل انتظروا فقط لكي … لكي يعرفوا مَن انتصر في المعركة؟ أكانوا سيعرفون لو أن أجسديد كان قد قتلَها، ويفرُّون لينشروا تلك الأخبارَ المشئومة للآخرين من أمثالهم، أو ربما لكلِّ مَن عاش في البريَّة في غاباتهم وجبالهم؟ لم تكن إيرين قد عرفت لماذا أتَتْها هذه الحيوانات في بداية المطاف، لكنها بعدما تسنَّى لها أن تعرف المزيدَ عن النوع الضار من العزلة، كانت مسرورةً برفقتهم لها؛ وكانت ببساطة سعيدةً لأنها وجدتهم هنا ثانية بعد أن غطَّت في النوم ليلة أمس وهي وحيدة ومرهقة، من دون أن تفكِّر فيما يتجاوز حقيقةَ أنهم أصدقاء لها وأنها اشتاقت إليهم. لكن لم تُظهِر القطط إشارةً على أنها سترحل؛ وتالات كان موجودًا على الدوام.
خلعت إيرين عن تالات سَرجه، وكانت مسرورةً أنه لم يكن يُعاني تقرحاتٍ تحته؛ ثم فتحت إيرين خُرجَها ومضغت قطعةً صغيرة من طرَف قطعة لحم مُجفَّفة وصلبة كانت قد أحضرتها معها. وكانت مَعِدتُها مسرورة لذلك، لكنها قرقرت طلبًا للمزيد. نظرت إيرين حولها ثانيةً وهي تتَّكِئ على كتِف تالات الصلبة. ولم تجِد سوى الأرض الجرداء كما كان الأمر من قبل. ثم انخفضت عينُها إلى بقايا نارها المُقوَّضة. وفيما يتجاوز المنطقة التي جابَتْها إيرين ليلة أمس لم يكن ثمة أشجار أو حطب على مرمى البصر حتى الحافة الخضراء للتلال التي تحُدُّ دامار. فقالت جهرًا وكأنها تُخاطب أيًّا مَن كان يستمع إليها: «لا بأس. على الأقل بإمكاننا أن نرى إلى أين نتَّجِه من أجل أن نعود الآن.»
وبينما كانت تقول كلامها هذا، أتى كلب من كلاب اليريج يهرول من حول حافة الصرح المدمَّر نحوها ثانية، ثم تبِعه كلبان أو ثلاثة آخرون. حاولت إيرين أن تكتم السعادة المفاجئة التي بدت عليها حين رأت الكلاب تعود إليها؛ لكن حينها ظهرت قائدة قطيع الكلاب ثانية، ولوَّحت برأسها مرة لتَلفِت انتباه إيرين، ولم يكن من إيرين إلا أن ابتسمت. كانت قائدة القطيع تُمسِك بشيءٍ في فمها، وكان الكلب البُني الصغير إلى جوارها يحمل شيئًا هو الآخر. تباطأت قائدة القطيع بعض الشيء فجاء رفيقها إلى إيرين أولًا؛ كان له طوق جميل قوي وعينان بلون النحاس، ووقار أقلُّ من قائدَتِه بكثير؛ ذلك أنه راح يهزُّ ذيلَه في حماسة وأرخى أُذنه وهو يقترب منها. وأسقط الكلب ما كان يمسك به على الأرض عند قدمَي إيرين: كانت حلْقةً مُتفحِّمة من أوراق نبتة السوركا. كانت الحلقة شديدة السواد والجفاف حتى إنها لم تكن لتعرفها لولا البريق الأحمر الذي كان بها: إنه حجر التنين، لا يزال مثبَّتًا بشدة في مكانه. انحنت إيرين لتلتقِطه فيما أسقطت قائدة القطيع ما كانت تحمله: كان تاج البطل.