الفصل الثاني والعشرون
ارتحلت إيرين في حالة من الذهول الناجمة عن البؤس والمعاناة، غير واعية بالفولستزا واليريج الذين كانوا على مقربةٍ منها حول قوائم تالات، وينظرون إلى وجهها في قلق؛ وعندما حلَّ الليل توقَّفت إيرين وهي خدِرة وفاقدة للإحساس. ربما كانت ستستمرُّ في طريقِها حتى تسقط من الإعياء والتعب لو كانت تسير على قدمَيها؛ لكنها لم تكن تسير؛ ولذا عندما جنَّ الليل توقفت وجرَّدت حصانها من سَرجِه وفركته بقماشةٍ جافة. وكان تالات يتألَّم بعض الشيء؛ فذلك العدْو السريع المُفاجئ الذي بدأ به يومًا طويلًا أضرَّ بساقِهِ الضعيفة، ولهذا حلَّت إيرين الوثاق عن شيءٍ من الدهان الذي من شأنه أن يُخفِّف من التيبُّس الذي يشعر به، ودلَّكته به بقوة، بل إنها ابتسمت ابتسامةً خفيفة لدى رؤيتها تالات وهو يلوي قسمات وجهه من شعوره بالمتعة والسرور.
وحين رقدت إلى جانب النار هبَّت واقفةً ثانيةً وأخذت تذرع الأرض بخطواتها جَيئةً وذهابًا. كانت مشوَّشة الذهن من الإنهاك ومُتبلِّدة الحسِّ من التعاسة، وكانت ترتحل إلى مدينةٍ لا تعرف الحال التي ستجدها عليها؛ وإذ كانت تُفكِّر في ذلك، تذكَّرت أيضًا ومضاتٍ مما رأته عميقًا في بُحيرة الأحلام. لكن هذا أعادها إلى التفكير مجددًا في لوث، وجرت الدموع على وجهها، وبينما كانت واقفةً أمام نار مُخيَّمها، وضعت وجهها بين يدَيها وأخذت تبكي.
لن يُجدي هذا نفعًا. كانت تحمل التاج، وتحمل سيفًا مسحورًا؛ وفي طريق عودتها إلى الوطن عودةَ مُحاربٍ منتصر — وأميرة أولى جديرة بالاحترام. شعرت إيرين وكأنها أوراق شجر ميتة، جافة ومسفوعة وهشَّة، وإن كانت الأوراق الميتة ليست تعيسةً على الأرجح؛ فهي تُدفن في هدوءٍ تحت الثلج وتحرقها الشمس ويُداهمها المطر حتى تتحلَّل في سلامٍ في الأرض. وجدت إيرين نفسها تُحدِّق في الأرض تحت قدمَيها. كان يتعين عليها أن تحصل على قسطٍ من النوم.
عادت إيرين يائسةً إلى أغطيتها فوجدت فيها جسدَين مكسوَّين بالفراء. ابتسمت لها قائدةُ قطيع الكلاب وحرَّكت ذيلَها المكسوَّ بالشَّعر بحركةٍ ضئيلة؛ أما قائد قطيع القطط فنصب أُذنَيه وفتح عينَيه قليلًا. ولم يُبدِ أيٌّ منهما أدنى انتباهٍ للآخر.
فضحِكت إيرين كثيرًا حتى كادت تختنق. وقالت: «شكرًا لكما. على الأرجح سأنام في نهاية الأمر.» توسَّدت إيرين خاصرة القط، واستلقت الكلبةُ برأسها على مَعِدتها بين أضلاعها وحوضها، وطوَّقت قدمَي إيرين بذيلها. وغطَّت إيرين في نومٍ عميق من فورها؛ ثم استيقظت في الصباح وهي تحتضِن رقبة قائدة الكلاب ووجهها مدفون فيها، وكان على وجه الكلبة الكبيرة نظرةُ صبرٍ ولينٍ كبيرَين، لا شك أنها كانت تبدو عليها حين تتعامل مع مجموعة من الجِراء حديثة الولادة.
كذلك استيقظت إيرين بشعورٍ من الاستعجال؛ استيقظت بشعورٍ من الاستعجال الشديد حتى إنه بدَّد شعورها بالخدَر. وقالت لتالات بنبرةٍ عالية: «عاجلًا»، فنصب تالات أُذنَيه باتجاهها ونخَر نخرةً خفيفة لاستيائه من تضييقها وثاقَ حزامه. وأكملت: «إنهم يحتاجوننا عاجلًا.»
كان تالات مُتصلِّبًا هذا الصباح أيضًا، إلا أن إيرين كانت مُنتبهةً وحريصة، فخفَّ عنه تصلُّبه. وقبل أن يَحلَّ عليهم الظلام التالي كانوا قد قاربوا على اجتياز أرض إيردثمار عن يمينهم؛ وبحلول المساء الثالث كان باستطاعة إيرين أن ترى الصدع بين قمة التلال الذي كان يُشكِّل الممرَّ نحو السهل المُشَجَّر الواقع أمام مدينتها؛ فقد كان طريق عودتها إلى الوطن قصيرًا حيث كانت وجهتها معروفة لها. وكان من المُحتمَل أن يقطعوا هذا الممرَّ يوم غد.
تلك الليلة أيضًا نام صديقاها إلى جوارها، لكن كان نومهما أقلَّ سلامًا وسكونًا؛ لأن إيرين رأت كوابيس بها الكثير من المعارك والصراخ وأنين الجرحى وأصوات أهل الشمال بِلُغتهم الشنيعة. فاستيقظت كثيرًا من نومها وهي تتفصَّد عَرقًا، وقبضتها مشدودة وأعصابها مضطربة. وفي آخرِ حُلمٍ راودها قبل الفجر سمعت صوت أرلبيث، وكان صوته منهكًا يائسًا، سمِعَتْه يقول: «ليت التاج كان بحوزتنا. لَكُنَّا …»
جاء صوتٌ آخَر بنبرة أعلى، وكان صوت بيرليث، يقول: «لو كان التاج بحوزتنا منذ البداية. لو كان التاج بحوزتنا منذ البداية لَما عانَينا بهذا السوء أصلًا.»
وقالت جالانا بصوتٍ خفيض حتى لا يسمعها أرلبيث: «على الأقل جالبة النحس ليست بيننا. نحمد الآلهة على هذا.»
حمدًا للآلهة … حمدًا للآلهة أنها ليست هنا … ليست بيننا … التاج، نبتهل إلى الآلهة، نحن في حاجة للتاج، وهو ليس هنا …
ثم استيقظت إيرين. كان الفجر يتسلَّل للتوِّ من فوق قمم الجبال. لم تكن إيرين تريد أن تستيقظ بعد؛ لأن اليوم ستكون المدينة على مرأًى منها، وكانت تخشى ما ستجده؛ تخشى أن تكون قد أتت بعد فوات الأوان؛ تخشى ألا يكون حتى التاج نفسُه كافيًا. تخشى ألا يقبلوا بالتاج من يدها. تخشى أن يعرفوا مِن وجهها مَن انتزعت التاجَ منه.
تخشى أن يقرءوا في وجهها معرفتها الآن بأنها لا تنتمي إلى دامار. ستُحب دامار طوال حياتها، وعلى الأرجح أن حياتها تلك ستكون طويلة؛ ولديها تجاه دامار واجب قد تؤدِّي بعضه إن بذلت قُصارى جهدها.
قالت لنفسها إنها لم تفكِّر في لوث.
وتبِعها جيشها من جانبَيها؛ بحر من الحيوانات ذات الشعر الأسود والرمادي والبُني المُخطط والذهبي والضارب إلى الحمرة؛ ولم يكن يسري فيها اليوم أيُّ شعورٍ بالمرح. وكانوا يوَلُّون آذانهم صوبَ وِجهتِهم وأذيالهم مخفوضة. وكانت إيرين قد أخرجت التاج من لِفافته، وفي بداية الأمر كانت تضعه مُتوازنًا على القَربوس أمامها، ثم بعد ذلك فكَّرت في إخفائه ثانية، لكنها أرادتْه قريبًا منها حيث يتسنَّى لها أن تلمسَه ويلمسَها. أخيرًا علَّقته إلى كتفِها فوق ذراعها، فأصابه الدفء في مكانه هذا حتى وجدت أنه أصبح بنفس درجة حرارة جسدها حين مدَّت يدها لتلمسَه.
وبينما كانوا ينطلِقون وقت الصبح كانت الريح تتردَّد في أُذنيها، لكنها كانت تحمل أصواتًا غريبةً وشمَّت إيرين فيها روائحَ غريبة. في نهاية المطاف كان اضطراب تالات هو ما جعلها تُدرك ما يحدث؛ ذلك أن تلك كانت أصوات وروائح المعركة.
شقُّوا جميعًا طريقهم على المسار الواسع المُستوي الذي كان يمتدُّ بين فاث وكار إلى التلال المُشجَّرة المنخفِضة أمام المدينة. حين وصلوا إلى قمة المسار نخَر تالات وأحجم، فتشبَّثت إيرين بالسَّرج وهي لا تُصدِّق ما لمحته من المنظر الذي تحتهم. ضغطت إيرين بركبتَيها بقسوةٍ على تالات فأطاعها على مضض، لكنه كان لا يزال يحاول أن ينحرف جانبًا، من أجل أن يستديرَ ويفرَّ. حتى ماور نفسه لم يكن بسوءِ ما كان يحدُث أمام أعينهم.
كانت الأشجار قد اختفت؛ حتى إنَّ التلال الوادعة بدَت مستوية، وحلَّ التدافع والطِّعان الرهيبان محلَّ الخضرة وظلال الأشجار والأوراق الوارفة. كان الشماليون هناك، بينها وبين مدينتها. كان باستطاعتها أن ترى مجموعاتٍ بشريةً صغيرة، أكبرها كانت بالقرب من باب مدينتها، تُقاتل باستماتة؛ لكن أفرادها كانوا أقلَّ عددًا وكانوا يقاتلون قتالًا دفاعيًّا؛ لأن شرفهم يُملي عليهم ذلك؛ ولأن خوفهم من أن يقعوا أحياءً في أسرِ الشماليين هو ما كان يدفعهم إلى ذلك؛ وليس لأن أملًا كان باقيًا لديهم. وكان الشماليون يعرفون هذا.
حدَّقت إيرين مصعوقةً في هذا المنظر الذي كان يدُلُّ على التمزُّق والتشرذُم، واستمعت إلى صيحات الرجال الرهيبة وإلى صوت الضربات الثقيلة، فخنقَتْها أدخنة المعركة وجعلت عينَيها تدمعان. بدا لها وكأن الغابة التي كانت تراها يوميًّا من أعلى بروج قلعة والدها لم تكن موجودةً يومًا؛ وكأن لوث حين أعادها إلى هذا الزمن كان قد أخطأ فأعاد إيرين غيرها إلى عالَمٍ غير عالَمها. وانتظرت إيرين حتى تتملَّك مشاعر الفزع لدَيها. هدأ تالات ووقف ساكنًا، كانت أُذناه تتَّجِهان نحو الأمام وكان متوترًا، لكنه كان ينتظر أوامرها؛ وكان جيشها يُحيط بها، وشَكَّل تجمعًا كبيرًا خلفها تناثر كالأمواج على جانبَي الممر الصخرِيَّين.
فقالت إيرين جهرًا، وقد أخافها ما وجدت في صوتها من هدوء: «لا بأس. ربما لن يدومَ خلودي طويلًا كما ظننت.» وثبَّتت التاج على كتِفها فأحكمت تثبيتَه، واستلَّت جونتوران الذي ومض نصلُه كله بلون أزرق؛ وتموَّج الوميض الأزرق عند المقبض، وتدفَّق على يد إيرين. وحين مسَّها الوميض الأزرق كان له وخزٌ خفيف، لكنه لم يكن مؤلِمًا؛ فظنت إيرين أن سبَبَه اضطراب أعصابها.
وقالت: «آمُل يا أصدقائي أن تُساعدوني الآن: رافقوني … إلى هناك» وأشارت بسيفها؛ فقفزت من طرَف جونتوران شرارةٌ زرقاء ووقعت على الأرض وهي تئز، فتقدَّم قائد القطط نحوها ليتفحَّص البقعة التي وقعت فيها.
حينها ارتأت إيرين أنَّ الوخزة التي أصابتها ربما لم تكن بسبب اضطراب أعصابها في نهاية المطاف.
وهزَّت إيرين السيف فتلألأ الوميضُ الأزرق حتى أضاء الجوَّ من حولها، وكذلك تألَّقت به الهوة من تحتها، ولمعت به عينا قائد القطط وهو ينظر إليها؛ وبطريقةٍ ما، سهَّل لها هذا الوميضُ الرؤيةَ؛ ذلك أن إيرين استطاعت أن ترى بوضوحٍ تام كيثتاذ عند ذؤابة جونتوران، ورأت أرلبيث على صهوته؛ وبدا أن الضوء الأزرق يستقرُّ حوله أيضًا، وذلك عند نقطة بعيدة على هذه الأرض الغريبة والمُخيفة. وبيَّن الضوء تور أيضًا، ليس ببعيدٍ عن مَلِكه؛ وتساءلت إيرين أين موقع حامل اللواء؛ لأن غياب حامل اللواء هو ما جعلها غير واثقة في أن من رأته كان بالفعل والدَها؛ لكن لم يكن أمامها مُتسع من الوقت لتفكِّر في هذا الأمر الآن.
قالت إيرين: «اسمعوني»، فالتفَتت إليها أعينٌ كثيرة برَّاقة. وأكملت: «لا بد أن يذهب التاج إلى يد أرلبيث أو تور وحدهما. وليس إلى أحدٍ آخر. سأعطي أحدهما إيَّاه إن استطعت»، وابتلعت ريقَها واستطردت: «وإذا ما أخفقت، أو إذا ما فارق أيٌّ من ثلاثتنا الحياةَ في هذه المعركة، فلا بد أن تحملوه بعيدًا عن هنا، بعيدًا عن دامار؛ إلى أبعدِ ما يمكن لأقدامكم أن تحملكم.» تردَّد صدى صوتها غريبًا، وكأن الوميض الأزرق عكَسَه أو ركَّزه، أو جعله مُتماسكًا؛ وفجأةً لم يُساورها أدنى ريب بشأنِ جيشها، وحلَّ عليها إحساسٌ كبير بالارتياح، وما يُشبه الفرحة.
فقالت: «هيا بنا. أفضل كثيرًا أن أُوصله بنفسي.»
ورفعت جونتوران ووثب تالات نحو الأمام وانتشرت قطط الفولستزا وكلاب اليريج من حولها؛ فكان أول مَن ذاق أسنان جيش إيرين من الشماليين قد وقع فريسةً لقائدة الكلاب، وأما الثاني فطار رأسه بضربةٍ من جونتوران، وأما الثالث فسقط فريسةً للقط الأسود الكبير.
لم يكن لدى الشماليين مُستَطلِعون يُراقبون الجبال؛ إذ لم يكن لديهم أي سبب يدفعهم لأن يظنوا أن من الضروري أن يُراقبها أحدهم، فأقوى مَن في دامار كانوا مُحاصرين في المدينة أمامهم، والقليلون الباقون المُتناثرون في المدن الصغيرة والقرى الجبلية كانوا مرعوبين بما يكفي من عمليات النهب التي نفَّذها الشماليون بحيث يمكن التعويل على أنهم سيُلازمون منازلهم وهم يرتجفون رعبًا. عِلاوة على ذلك، كان القادة الشماليون يستطيعون سماعَ أعدائهم من مسافةٍ بعيدة، وبإمكانهم أن يعرفوا من أيِّ مكان سيأتون، مثلما كان باستطاعة بيرليث أن يُحوِّل حَفنة من الهواء إلى باقة زهور في حفلٍ راقص في البلاط الملكي.
كان الشماليون قادرين على ذلك. لكن لم يكن لدَيهم معرفة مُسبقة باقتراب إيرين منهم، ومع أنهم لم يكونوا جبناء، كانوا يعرفون الكثير عن السِّحر وعن هِبة الكيلار أكثرَ مما كان يعرف أهل دامار؛ وقد أرعبتهم مفاجأة هذا العمل البطولي أكثرَ من مجرد وجود إيرين. ولذا لم يُهرعوا نحوَها على الفور كما كان ينبغي لهم أن يفعلوا، ولو أنهم فعلوا لمزَّقوها إربًا وانتصروا في المعركة وظفروا بدامار مُلكًا لهم إلى الأبد. لكنهم لم يفعلوا. انعطف الشماليون بوحوشهم التي يمتطونها — كان بعض تلك الوحوش يُقارب في شكله الجياد، لكن معظمها لم يكن يُشبهها بتاتًا — وحاولوا أن يبتعدوا عن طريقهم أكثرَ مما حاولوا أن يشتبكوا معها ويختبروا قوَّتها.
لكنَّ عامةَ الجنود الشماليين كانوا أكثرَ خوفًا. إذ رأى هؤلاء أن قادتهم لم ترُقهم هذه الشعلة الزرقاء التي كانت تُبهر أبصارهم إن اقتربت منهم كثيرًا وتُمزِّق أطرافهم الموصولة بغرابة بأجسادهم الغليظة؛ ولذا تزاحَم هؤلاء في هروبهم من ذلك الخطر بغض النظر عن طبيعته؛ وأخذ الضوء الأزرق يتموَّج من مركز انطلاقه أبعدَ وأبعدَ وانتشر حولهم في كل مكان. كان أغلب الهجوم من أسنانٍ تنقضُّ على حناجرهم، وسرعان ما كانت دماؤهم البُنية والأرجوانية تُخضِّب الضوء الأزرق الأثيري بطيفٍ داكن؛ وأحيانًا كان الهجوم يأتيهم من فوقهم في شكل حوافر جواد حربٍ كجلد السياط؛ كانت صرخات احتضارهم تتردَّد في آذانهم، وكذلك كانت تتردَّد معها نبرةُ صوتٍ عالية لم يسمعوها من قبل، وإن كانت تُخالطها الزمجرةُ الحادة للقطط الجبلية ونُباح قطيع كلاب اليريج المُرعب وصيحات جواد حربٍ صاخبة.
بهر الضوءُ الأزرق عينَي إيرين أيضًا، لكنه كان إبهارًا من نوعٍ مفيد؛ لأنه كان يُقسِّم حركات الشماليين المُرتبكة إلى دوائرَ وأقواس يمكن لإيرين أن تُقدِّر مداها وإيقاعها بدقةٍ بحيث تعرف أين يُمكن لها أن تُسلِّط عليهم جونتوران وهم يُحاولون الهرب. لم تُفكِّر إيرين في أعداد مَن قتلت منهم وشوَّهت؛ لم تكن تراهم إلا عقباتٍ يتحتَّم عليها أن تتخطَّاها حتى يتسنَّى لها أن تنضمَّ إلى قومها مجددًا. لم يكن كافيًا لها أن تتركهم يتفرَّقون وحسبُ من أمام حوافر تالات الساحقة؛ إذ بدت رغبتهم في ذلك شديدة؛ لأنهم كان يُمكنهم عندئذٍ أن يُضيِّقوا الخناقَ عليها ثانيةً من خلفها؛ وهكذا أخذ جونتوران يسقط عليهم ثم يعلو، ويسقط عليهم ثانيةً، وكانت عينا إيرين الساطعتان بلونٍ أزرق تتبعانه في ذلك وتنظران نحو الأمام إلى حيث كان أهل دامار يخوضون معركةَ صمودهم الأخيرة. كان أمام إيرين علامةٌ واحدة تُرشدها في طريقها، كانت العلامة هي أحد الأحجار المُنتصبة الطويلة التي تشير إلى آخِرِ امتدادٍ لطريق الملك أعلى التل، الذي كان يؤدي إلى المدينة؛ كان ذلك الحجر هو أحد الأحجار الأربعة التي لا تزال مُنتصبة. لكن لم يَعُد باستطاعة إيرين أن ترى تور أو أرلبيث. ولم تجرؤ كذلك أن ترفع عينَيها لتنظر؛ إذ كان أمامها أولئك الذين وقفوا ليعترضوا طريقها، حاول هؤلاء أن ينتزعوا أحشاءَ تالات إذا ما أمكنهم ذلك حتى وهم يبتعِدون عن طريقها، أو أن يَرموها بخِنجرٍ مسموم من ظهرها؛ فلم يكن بإمكان إيرين إلَّا أن تتوخَّى الحذر وتنتبه. واكَبَها جيشها في تقدُّمها؛ وكان أفراده يخترقون صفوف الشماليين عبر رقعة كبيرة؛ وكانت إيرين ترى بين الحين والآخر من زوايا نظرها جسدَ قطة أو هيئة كلب رشيق يندفع تجاه قائدٍ مشوَّه أو جندي شمالي ممسوخ؛ لكن في تلك اللحظة كان يتعيَّن عليها أن تُصوِّب جونتوران من فورها من أجل توجيه ضربةٍ أخرى. وكانت تسمع في أذنيها همهمة عالية، مع أنها كانت لا تزال تسمع صرخات الشماليين المبحوحة، والأصوات الخشنة الذميمة التي تُمثِّل كلمات اللغة التي ينطقون بها.
وعبْر ساحة القتال، بالقُرب من المدينة، وقف جنود دامار المحاصَرون ينظرون ليعرفوا سببَ هذا الذُّعرِ الذي ظهر فجأةً في صفوف الأعداء. رفعوا أنظارهم واجتهدوا في التحديق لأن ما رأوا كان موجًا أزرقَ يندفع نحوَهم، عند ذُروته كائنٌ أبيض رفع قائمتَيه الأماميتَين عاليًا ليشقَّ طريقه. إلا أن سطح الموج الأزرق كان أكثرَ شبهًا في تموُّجه بظهور حيواناتٍ ذات شعر من كونه تموُّج ماء، وكان الكائن الأبيض المنتصب جوادَ حرب، وسيفًا يتوهَّج بلهبٍ أزرقَ في يد الفارس المُمسِك به؛ لم يكن الفارس يحمل ترسًا ولا يتدرَّع، لكنه كما بدا لم يكن في حاجةٍ لأيٍّ منهما؛ ذلك أن الشماليين كانوا يفِرون من أمامه وكانت سرعة سيفه وحدَها هي ما يوقف هروبهم فكان يُقتِّلهم وهم يولُّون الأدبار.
صهَل الجواد الأبيض بضراوةٍ ونبحت كلاب اليريج، وصرخت قطط الفولستزا بصيحات الصيد الحادة، وكان الجيش الأزرق المُندفع نحوهم يقترب منهم أكثر فأكثر؛ ووجد بعض جنود دامار أنفسهم مرعوبين من هذا العون الذي لم يَطلبوه، وتساءلوا بشأنِ ما ينوي الفارس على الجواد الأبيض فِعله بهم بعدما يكون قد شقَّ طريقَه حتى يصل إليهم؛ فلم يكن ثمة شكٌّ في أنه يقترب منهم أكثرَ فأكثر، وكأن وجهته هي بوابات المدينة؛ ولم يكن كذلك ثمة شكٌّ في أنه سينجح في الوصول إليها.
لكن صدرت من تور صيحةٌ مكتومة. «هلمُّوا إليَّ! أسرعوا!» واستحثَّ فرسه المتعبة دجيث على التقدُّم إلى الأمام، فأمدَّتها حماسته بطاقة جديدة. «اتبعوني! إنها إيرين!»
لم يتبعه سوى قِلة منهم؛ لكن كان من المُستحيل تحديد ما إن كان سبب ذلك أنهم كانوا مُنهكين أو بهم صمَم أو خائفين من ذلك الشيء الأزرق، أو خائفين من أن ذلك الشيء الأزرق ربما يكون هو الأميرة إيرين؛ لكن أحد أولئك الذين تبِعوا تور وكانوا قريبين منه كان الرسول الذي جاء إلى الملك فيما مضى بأخبار الاستيقاظ الشنيع للتنين ماور.
عرفت إيرين أن ذراعها قد أُنهِكَت، لكن لم يبدُ أن لذلك أهمية؛ كان جونتوران يَجذُّ رقاب الشماليين وأعضاءهم الحيوية بنصلِه الباتر ولا يفعل شيئًا سوى أن يسحب ذراع إيرين معه. ثم سمِعت إيرين اسمها يُنادى، فهزَّت رأسها؛ إذ كان يُخيَّل إليها بعض الأشياء؛ لكنها سمِعته يُنادى ثانيةً. وخطر لها أن الصوت المُنادِي كان يُشبه صوت تور، وأنه ربما لا يُخيَّل إليها، فبحثت حولها وكان تور هناك بالفعل. كانت صفوف كثيفة من الشماليين لا تزال تفصِل كلًّا منهما عن الآخر، وحتى حينما تلاقت أعيُنهما، كان ينتصِب بينهما أحد الوحوش التي يمتطيها الشماليون، كان الوحش مُرقَّطًا باللون الأصفر وله حوافرُ مُتشعبة وآذان قطة، ورأت إيرين القائدةَ العوراء تتعلَّق برقبته، وآخرَينِ من قطيعها يَثِبان ليعقرانه من خاصرتَيه. سقط الوحش يرفس خاضعًا وعاجزًا، وجذبت الملكة راكِبَه من فوقه ولم تشاهد إيرين أكثرَ من ذلك؛ ثم هبَّ تالات ووثب جانبًا، وأثخن جونتوران في أجساد الشماليين؛ وفي لحظةٍ تاه تور عن ناظرَيها.
نادت إيرين باسمه هذه المرة، وأخيرًا سمِعته يُجيبها؛ كان الآن عن جانبها، لكنها حين دارت بتالات في ذلك الاتجاه بدا أن رحى المعركة تجذبه بعيدًا عنها. حينها اهتزَّ التاج الذي كان معلقًا بكتفها طوال هذا الوقت فانفصل عن كتِفها وكأنه فعل ذلك بمشيئةٍ خاصة به، ثم تدحرج على ذراعِها وسقط على مقبض جونتوران فكان لذلك صوت رنين.
صاحت إيرين ثانية: «تور!» وبينما كان يُدير وجهه إليها طرحَت التاج من فوق المقبض نحو طرَف السيف فجرى التاج على النصل ثم قذفت بتاج البطل من فوق بحر الجنود الخبيث الذي يضطرب بينهما.
توهَّج جونتوران كشهاب بينما كان التاج يجري على طول نصله، وبينما كان يدور مندفعًا في الهواء اشتعل بدوره فصار نارًا حمراء كشمس الظهيرة أو كشَعر مشعوذ؛ وفي ذهول رفع تور سيفه وكأنه يُحيِّي به، فتعلَّق التاج بطرفه وأخذ يدور حوله مُحدثًا صوتًا ثم سقط مُطوِّقًا معصمه. كان بإمكان أي جنديٍّ شمالي أن يقتُله في تلك اللحظة؛ فقد أسقط تور تِرسه وكانت ذراعُه التي تحمل السيف ممدودةً بلا حَراك وهو يُحدِّق إلى التاج الأحمر المُتوهِّج وهو يتدلَّى من ذراعه الأخرى. لكنَّ الشمالِيِّين كانوا خائفين من التاج أيضًا؛ كانوا قد رأوا ما يكفي من الأضواء الغريبة، وكانوا يعرفون بالفعل أن اللهب الأزرق مُهلِك. وقد ألقى الفارس على الجواد الأبيض هذا الشيء من السيف الأزرق المُهلك.
صرخت إيرين بأعلى صوت: «إنه التاج، ألا ترى؟ الْبَسْه!»
رفع تور نظره ثانيةً؛ كانت إيرين قد صارت قريبةً منه الآن، ثم أصبحت بجواره، واصطدمت ساقُها في رِكاب تور بقوةٍ فتألَّمت لذلك بينما كان تالات يتبختر ويتظاهر بأنه أعلى من الحصان الآخر. سحبت إيرين ذراع تور نحو الأسفل وحرَّرت سيفَه من بين أصابعه، وأخرجت التاج من مِعصمه؛ بعد ذلك سحبت رأسه للأسفل نحوها وضغطت على صدغَيه بالتاج.