الفصل الخامس والعشرون
كان تور قد أراد أن يكون زواجه من إيرين جزءًا من الاحتفال بتتويجه ملكًا، فيجعلها ملكةً مُعترفًا بها مع اعترافهم به ملكًا، إلا أن إيرين أصرَّت على الانتظار.
قال تور في تجهُّم: «يكاد المرء يظنُّ أنكِ لا ترغبين في أن تكوني ملِكة.»
فأجابته إيرين: «يكاد يكون المرء مُحقًّا. كلُّ ما في الأمر أنني لا أريد أن تُتاح فرصة لأحدٍ أن يقول إنني تسللتُ من الباب الخلفي. لا أريد أن يقولوا إنني افترضتُ أن الجميع سيكونون مشغولين بك بحيث لن يلحظ أحد أنَّني أُنصَّب رسميًّا ملكةً في مَعرِض الأمر.»
فقال تور: «فهمت.»
أردفت إيرين: «كان أرلبيث هو مَن أخبرني أن النبيل لا يُمكنه العودة إلى التواري عن الأنظار بعدما يأخذ مسئولياته على عاتقه.»
أومأ تور برأسه ببطء. ثم قال: «حسنًا. لكني أظن أنكِ تظلمين شعبكِ.»
قالت إيرين: «عجبًا لقولك.»
لكن تور كان مُحقًّا، وإن لم يكن للأسباب التي كان سيُرجِّحها؛ فلم يكن للأمر صلة تُذكَر بالمعركة الأخيرة، ويكاد يكون بعيدًا كلَّ البُعد عن التاج. فبحلول الوقت الذي انتهت فيه أشهُرُ الخِطبة الثلاثة التي طلبتها إيرين وأُقيم الزفاف، بعد ثلاثة عشر شهرًا من وقوعِ ما أصبح يُطلَق عليه في ظروف غامضة معركة ماور، بدا أن جميع أهل دامار (ما عدا قلةً من رجالِ البلاط الضيِّقي الأفق) قد نسُوا تقريبًا أنهم كانوا قد اعتبروا ابنة ملِكهم الراحل موضعَ نفور كبير؛ وراحوا يُطلقون عليها بكل مودة «ذات الشعر الناري»، و«قاتلة التنانين». بل بدا أنهم، حتى، كانوا فرحين باحتمال أن تُصبح إيرين ملكتهم الجديدة؛ ومن المؤكد أن حفل الزفاف كان أكثرَ مرحًا وحيوية من حفل تتويج تور، وقد هلل الحشد حين أعلن تورُ إيرينَ ملكةً له، الأمر الذي أصاب كليهما بالدهشة. لكن الكثير من الأمور، التي كانت قد حدثت قبل اليوم الذي أُدخِلَ فيه رأس ماور المدينة، كان قد تلاشى من ذاكرة الناس، وفي حفل الزفاف كان أحدُهم يقول للآخر بارتياحٍ إن أمَّ الأميرة الأولى كانت ولا شك امرأةً من عامة الناس من قرية غريبة في الشمال، وأن الأميرة إيرين كانت دومًا طفلة غريبة الأطوار؛ لكنها ارتقت إلى مكانتها بطريقةٍ كانت مُرضِيةً جدًّا، وأنها بلا شك ساعدت في صد هجوم الشماليين بسيفها الغريب وتلك الحيوانات البريَّة التي كانت مولَعة جدًّا بها (كانت ثمة تعويذات أسوأ من تلك التي تُروِّض الحيوانات الضارية وتجعلها وديعة).
عِلاوة على ذلك، بينما ظلَّ تور مصرًّا على أن يبقى عَزَبًا، كان كل أمراء جيله قد تزوجوا؛ وظلت إيرين هي الأميرة الأولى، مهما كانت نقائصها.
وحين أدركت إيرين أخيرًا ما حدث، ضحِكت. وفكَّرت في نفسها: «إذن فقد أسدَى إليَّ ماور معروفًا في نهاية المطاف. هذا هو أروع انتصار حققتُه.»
ربما أُطلِقَ على المعركة اسم معركة ماور لأن رَحاها دارت على ما أضحى يُعرَف الآن باسم سهل ماور. وبينما نسِيَ الناس الكثير والكثير من الأحداث التي وقعت قبل الأوقات التي مرَّت على المدينة فيما كان رأس ماور في القلعة وكأنه جوهرة ضخمة، أو على الأقل أصبحت تلك الأحداث ضبابيةً وغير واضحة إلى حدٍّ ما، تذكَّر الجميع جيدًا أن الغابة التي كانت عند أسفل طريق الملك قد دُمِّرَت بنهاية المعركة، وأن جثث الناس والوحوش وأشباه الوحوش وأشباه البشر كانت مُتناثرة في كل مكان، بجوار أجزاءٍ مكسورة من عتاد الحرب مختلطة مع الساحة الخرِبة. وتذكَّروا جمجمة ماور تندفع إلى الأسفل نحوهم — قالوا إنها كانت مُستعرةً كتنينٍ حي، وفكَّاها مفتوحان لينفُثا النار — وتمرُّ بهم في الظلام.
وفي الصباح حين استيقظوا، بدلًا من أن يجدوا تِلالًا منخفضة ومنحدرةً دمَّرتها الحرب، وجدوا السهلَ مُستويًا كسطح طاولة، ممتدًّا من عند النار التي خبت، حيث كان الناجون قد ناموا بالقُرب منها، إلى أسفل جبلَي فاسث وكار والممر الذي كانت إيرين قد توقَّفت عنده ورأت ما كان ينتظرها وجمعت جيشها وشتات نفسها. كان سهلًا صحراويًّا، ظلَّ خاويًا؛ لم يكن ينمو فيه أي شيء، عدا قلة من الأشجار الصغيرة. وأتت كائنات صحراوية لتعيش فيه، وربَّى الناس سُلالة جديدة من كلاب الصيد لتطاردَ الفرائس اعتمادًا على النظر، كما صار سكان المدينة يحبُّون تغريد البريتي البريَّة العذبة؛ والبريتي هي قُبَّرَة الصحراء. وعَمَدَ الناس إلى إقامة سباقات خيلٍ على السهل بعد مرور بضع سنواتٍ من تحديقهم إليه في قلق، وألِفَه الناسُ فلم يعودوا يَرَونه غريبًا؛ ثم أُقيمَت فيه مسابقاتٌ مختلفةٌ للمهارات، منها مُحاكاة للمعارك ومبارزات بالسيف، وأصبح السهل ساحةَ تدريبٍ أفضل بكثيرٍ من الساحة القديمة الضيِّقة خلف القلعة والإسطبلات الملكية عند قمة المدينة. كان السهل بقعةً مُفيدة لتدريب الفرسان، وأولى تور إعادةَ بناء سلاح الفرسان في جيشه اهتمامًا كبيرًا، ذلك أنه كان يتذكَّر بوضوحٍ شديد، وكذلك زوجته — وربما كانا الوحيدَين في ذلك في المدينة — ما حدَث في الأشهُر التي سبقت معركة ماور. ومن ثَم أصبحت منافسات لابرون أكبرَ حجمًا وأكثر أهمية؛ الأمر الذي كانت له مزايا عديدة؛ أما الأمر الذي كان أقلَّ فائدة وجدوى فكان نزالات تشوراكاك — مبارزات الشرف — التي شارك فيها أولئك الذين كانوا يُفرِطون في التفاخر بقدرتهم على القتال.
كان حصاد العام الأول بعد المعركة هزيلًا، لكن أرلبيث كان قد خصَّص مقدارًا من الحبوب لمثل هذا الظرف تحديدًا، ولأنَّ تَعداد أهل دامار أقلُّ مما كان عليه حين بنى تلك المخازن، مرَّ عليهم الشتاء ولم يكن أكثرَ صعوبةً من شتاءٍ يمرُّ بعد حصادٍ جيد، وإن كان الجميع قد سئموا أكلَ الثَّريد بحلول الربيع.
لكن حلَّ عليهم الربيع، فعاد النشاط إلى الناس، وشعر معظمهم بأنهم عادوا إلى سابقِ عهدهم، فخرجوا يحرثون الأرض أو يُرمِّمون متاجرهم أو يرعون ماشيتهم وممتلكاتهم بسماحةٍ وطِيب نفس. أما مَن بقوا منهم في المدينة أثناء الشتاء، ليُطبِّبوا جِراحهم ويستعيدوا عافيتهم، فقد عادوا إلى قراهم وبدءوا رحلةً طويلة لإعادة إعمارها، وجرت معظم أعمال البناء في مرح وسرور. وأرسل تور وإيرين المساعدةَ أينما أمكن لهما، فكانت بعض القرى الجديدة أجملَ (وأفضل تصريفًا) مما كانت عليه في السابق القرى القديمة.
وفي أحد أيام الشتاء التالي للمعركة، وبينما كانت إيرين تتجول هائمةً في حديقة الباحة المركزية للقلعة، شعرت أنه كان ثمة شيء غير موجود عند البوابة التي كانت قد دلفت منها. فقطَّبت وهي تُحملق فيها حتى تذكَّرت ما هو: كانت نبتة السوركا الكبيرة ذات اللون الأخضر الزيتي قد اختفت. فحملقت حولها في كل البوابات لتتأكد من أنها لم تُخطئ النبتة، لكنها لم تكن موجودة، فمضت تبحث عن تور، وسألته عما حلَّ بها.
هزَّ تور رأسه. «لم تَعُد هناك أي نبتة سوركا، في أي مكان. ذات يوم، ربما قبل أسبوعين من معركة ماور، اختفت جميعها. وقد رأيت هذه وهي تختفي؛ أتى الدخان من العدم، لكنه عندما انقشع كانت نبتة السوركا قد أصبحت هيكلًا متفحمًا. كان أمرًا غريبًا جدًّا، وكان الجميع مشغولين بأمورٍ غريبة أخرى كان دائمًا ما يتضح أنها غير سارة، حتى إننا أخرجنا بقايا جذورها ودفناها.»
قال أرلبيث «إن تلك كانت إشارةً أوضح من أن نتجاهلها، حتى لو لم نكن نعلم ما تعنيه، وهكذا لم نحمل رايةً في الأيام الأخيرة من حصار المدينة.» ثم قَطَّب. وتابع قائلًا: «يبدو أن نبتة السوركا كانت شيئًا من الأشياء التي لم يَعُد أحد يتذكَّرها بوضوح. وهي ليست بالشيء الذي أريد أن أُذكِّر الناس به؛ فنحن على الأرجح أفضلُ حالًا من دونها. لن يكون هناك مزيد من حالاتٍ مُشابِهة لِما فعل ميرث بنفسه.» ثم ابتسم لها.
فقالت إيرين بانفعال: «ولا المزيد من الحالات المُشابِهة لِما فعلته إيرين.»
أما مَن فقدوا أعزَّاء كُثرًا لهم فقد مكثوا في المدينة بعد حلول الربيع؛ كانت كاتاه قد فقدت زوجها، فطلبت هي وأطفالها الستة أن يمكثوا في قلعة الملك، حيث نشأت. وقد سُرَّ تور وكذلك إيرين بإجابة طلبها؛ لأن القلعة كانت فارغة عليهما قليلًا؛ فلم يكن أرلبيث وحدَه من رحل، وإنما أيضًا ثورني وجيبيث وأورين، وآخرون كُثر. ووجدت إيرين في كاتاه الموثوقة والعملية نفعًا وجدارة جعلاها فذَّةً في تحديد الدعاوى والالتماسات التي تحتاج إلى اللِّين والهوادة في قراراتها الملكية بشأنها، وتلك التي يمكنها أن تتجاهلها. قالت كاتاه المسكينة، التي افتقدت زوجها: «لقد وجدتُ شغفي وهدفي. كان مقدرًا لي أن أصبح مستشارةً ملكية.»
قالت لها إيرين: «كان مقدرًا لك أن تُصبحي القوةَ الدافعة الخفية وراء العرش. سأحجبكِ بستارٍ مُخملي ويمكنكِ أن تهمسي لي بما أقول للناس وهم يدخلون عليَّ.» فضحِكت كاتاه، كما كان مُتوقعًا أن تفعل.
ولم تكن كاتاه هي الوحيدةَ التي لم يُبْرِئ مرور الزمان جِراحها. فقد أصبح شَعر جالانا رماديًّا في أول شتاء بعد المعركة، وبحلول الربيع الثاني كان قد استحال أبيض. صارت أكثر هدوءًا وبطئًا، ومع أنها لم تكن تُبدي لملكة دامار الجديدة أيَّ مشاعر محبة، إلا أنها لم تُسبِّب المزيدَ من المشكلات، ولم يكن لها في ذلك رغبة.
وإذ كانت كاتاه مستشارةً أمينة ومُجدَّة في عملها، أمكن لإيرين أن تتدبَّر تخصيص بعض الوقت لمطاردة التنانين — التي كانت أعدادها قد تناقصت كثيرًا منذ هزيمة الشماليين — وتعليم عدد، أصبح كبيرًا فجأة، من الشباب والشابَّات ما تعرفه عن صيد التنانين. وضمن جملة أمور أخرى، اكتشفت إيرين ما كانت تعرفه منذ البداية، وهو أنها كانت تملك جوادًا فائقًا. فلم تكن الجياد تُحِب أن تُدهَن بالكينيت، وكان ردُّ فعلِ معظمها تجاهه أسوأَ من ردِّ فعل تالات في أي وقتٍ مضى؛ ثم كانت هناك حقيقة أن إيرين لم تكن تملك أدنى فكرة حيالَ ما ينبغي أن تُخبر به تلاميذها بشأنِ ما يتعيَّن أن يفعلوه بالزمام بينما يُحاولون تسديدَ رماحهم على تنين. وبطريقةٍ أو بأخرى بدأت دروس إيرين في صيد التنانين تتحوَّل إلى دروس فروسية، فكانت أولًا تُعلِّم تلاميذها الركوبَ من دون رِكَاب، ثم تُعلِّمهم لاحقًا الركوب من دون زِمام. وباستخدام أسلوب التجريب والخطأ درَّبت مجموعة من الجياد الصغيرة على أن يُلازموها كما كان تالات — وذلك لكي تُثبِت لنفسها بقدْر ما تثبِت للآخرين أن هذا الأمر ممكن مع الجياد الأخرى — وتعلَّمت أن تُميِّز بين الجياد التي يُمكنها أن تتعلَّم ما تريد أن تُعلِّمها إياه، وبين الجياد التي لا يُمكنها ذلك. وسرعان ما شاع عن ملِكة دامار أن لها نظرةً ثاقبة في الجياد، فكان الناس كثيرًا ما يلتمِسون رأيها بشأن أمهارهم.
وكان هورنمار قد أُصيب بجرحٍ بالِغٍ في جنبه، وكان أكبر سنًّا من الملك الذي كان قد خدمه، وقد أوهنته وفاة أرلبيث بقدرِ ما أوهنه جرحه. فتحتَّم عليه أن يتقاعد من عمله وهو كبير السُّيَّاس؛ لكنه ظلَّ يعيش في القلعة، وبناءً على طلبٍ منه سُمِح له بأن يتولى رعايةَ صديقه القديم تالات. وما كان من إيرين إلا أن امتَنَّت لذلك؛ فقد كانت كثيرةَ الانشغال الآن بحيث لم يكن بمقدورها أن ترعى تالات بنفس الوتيرة التي كانت معتادة إياها، ومع ذلك كانت تغبِط مَن يتولى رعايته مكانها. لم تكن إيرين ترغب مُطلقًا أن تتركه لأحد السُّيَّاس العاديين، مهما بلغت مهارته وجدارته.
أما تالات نفسه فعاد إلى سابق عهده من الخُيلاء والمرح بعد عدة أسابيع من الراحة، وكان يأكل قضبان الميك وكأنه لا يشبع منها قَط، لكنه بدأ في آخِر الأمر يشعر بتقدُّمه في العمر، فكان يتعيَّن على إيرين أو هورنمار أن يُطارداه بعصًا ليحملاه على استخدام ساقِه الضعيفة في الأيام التي لم تكن إيرين تملك فيها وقتًا لتمتطِيَه. لكنَّ ساقَه كانت قويةً بما يكفي بحيث إنه بعد أحد عشر شهرًا من تقديم بضع أفراس بعنايةٍ له في مرعاه، كانت تُولَد له مِهارٌ ذات صفات مُستحسنة. كانت مِهارُه كلُّها ذات عيونٍ متألقة ونابضة بالحركة من أول نَفَسٍ لها، وكان هورنمار وإيرين حريصَين كلَّ الحرص على من يئول إليهم التعامُل مع هذه المِهار؛ وقد كبُرت تلك المِهار ودُرِّبت على أن تكون بلا لِجام كوالدها، وكان كثيرٌ منها يتَّسم بشجاعة والده.
أما الكلاب الملكية فقد زادت وكَثُرَت، ومَن اختار من كلاب اليريج وقطط الفولستزا أن يمكث مع سيدتِه خُصِّص له مأوًى، مع أن باب الدَّرج الخلفي الذي يُفضِي إلى جناح إيرين القديم دائمًا ما كان يُترَك مفتوحًا. ومع أن الثوتار (مُربِّي الكلاب) كانوا في بادئ الأمر متخوفين جدًّا من إجراء أيِّ تهجينٍ متعمَّد، إلا أنه لوحظ أن بعضَ الإناث الملكية كانت تلد جِراءً أطولَ وأكثر شَعرًا مما يمكن لأي سلالةٍ ملكية ورسمية أخرى أن تنتجه؛ ومن عمليات التهجين تلك جاءت في نهاية المطاف الكلابُ الصحراوية الطويلة الساق. وبعد أن كبُرت بضعة أجيالٍ من صغار القطط وأنجبت مزيدًا من القطط، أصبحت قطط الفولستزا أكثرَ تقبلًا لأن يكون لها أسياد من البشر غير إيرين، وأن تصطاد بالأمر، في معظم الحالات على الأقل. فحتى القطط المُروَّضة كانت لها عقول وأمزجة خاصة بها.
لم يمنع حصول قائدة كلاب اليريج — والتي أصبح اسمها الآن كالا — على مأوًى خاص بها من أن تضع أول جرائها على فراش إيرين وتور. قالت إيرين، حين رأتها هي وجِراءها: «يا إلهي»؛ إذ كانت خمسة جراء بديعة ومعها كالا التي كانت في غاية الابتهاج. «تيكا ستسلخكِ حية.» أما تيكا التي كانت بعيدةً كلَّ البُعد عن أن تسلخ أحدًا على قيد الحياة فقد تبنَّت أحد الجِراء وأسمَتْه أورشا تيمُّنًا بزهرةٍ برية صغيرة وردية اللون، وكبُر الجرو ليُصبح حيوانًا ضخمًا، أكبرَ حتى من أمِّه، وكان له نظرة لئيمة مُمَيَّزة وخِلقة لينة كفِراش من الريش.
ولم يكن قد مرَّ على تور ثلاث سنوات وهو ملِك حتى أُطلِقَ عليه لقب «العادل»، وذلك لحكمته المتَّسِمة بالإنصاف؛ حكمة قيل إنها لا تَفتُر أبدًا، وكانت بادية في عينَي الرجل الذي لم يكن قد بلغ الأربعين من عمره بعد. كانت إيرين تعرف من أين جاءت تلك الحكمة المتأصِّلة؛ لأنها كانت قد رأتها أول مرةٍ عصرَ اليوم الذي قال لها فيه إنها ينبغي أن تكون ملكة، اليوم الذي طلب فيه الزواج منها؛ نفس الوقت الذي لم يسألها فيه عن لوث. وتمنَّت إيرين ألا يُصيبها الفتور يومًا تجاه مشاعر تور نحوها: تور، الذي كان أعزَّ أصدقائها طوال حياتها، وأحيانًا كان صديقها الوحيد. ربما كانت ذكرى الرائحة العفنة التي كانت مصاحبة للقنوط الذي بثَّه ماور قد جعلتها أيضًا كثيرةَ النسيان؛ إذ بدأت تحسب البحيرةَ الفضية الشاسعة مكانًا زارتْه في أحلامها فحسب، والرجل الطويل الأشقر الذي عرفته يومًا ما، كائنًا من تلك الأحلام؛ لقد راح الجزء الخالد منها في سُبات عميق حتى يتسنَّى لها أن تُحب وطنَها وزوجها.