الفصل الرابع
سرعان ما اكتشفت تيكا مكانها؛ إذ كانت قد ظلَّت متيقِّظة تمامًا لأميرتها المشاكِسة منذ أن قامت من فراشها مُتعبة بعد النوبة التي أصابتها جرَّاء تناول نبتة السوركا. وقد ارتاعت حين اكتشفت وجود إيرين لأول مرة تحت الشجرة في حظيرة الفحل الوحشي؛ لكنها كانت تتمتَّع بإدراكٍ أكبرَ بعض الشيء مما كانت إيرين تتوسَّم فيها («كل ما تفعلينه هو الاهتياج والقلق يا تيكا! دعيني وشأني!») وبانفعالٍ شديد أدركت أن تالات عرف أن أحدًا اجتاح ميدانه ولم يُمانع. رأته يأكل أولَ قضيبِ ميك له، وحين بدأت قضبان الميك تختفي بعدئذٍ بوتيرةٍ مناسبة من الوعاء على مقعد النافذة الخاص بإيرين، لم تفعل تيكا سوى أن تنهَّدت تنهيدةً عميقة وبدأت توفِّر قضبان الميك بكمية أكبر.
كان الكتاب ذو الغلاف المُثير للاهتمام عن تاريخ دامار. كان يتحتَّم على إيرين أن تتعلم قدْرًا معينًا من التاريخ كجزءٍ من تعليمها الملَكي، لكن كان هذا الكتاب شيئًا مختلفًا تمامًا. كانت الدروس التي اضطُرَّت إلى تعلُّمها دروسًا فارغة وجافة، كانت حقائقَ من دون روح، مُقدَّمة بأبسطِ لغة، وكأنَّ الكلمات يمكن أن تُخفيَ الحقيقة أو تُعيدها إلى الحياة (وهذا أسوأ). وكان التعليم أحدَ هواجس أرلبيث الأثيرة؛ لم يشعر ملِك، من قبْله بأجيالٍ، برغبةٍ كبيرة في التعلُّم من الكتب، ولم يسبق أن كان المُعلِّمون الملكيون من ذوي الكفاءة والجودة.
كان الكتاب باهتًا بفعل السنين، وكان أسلوبُ الكتابة غريبًا على إيرين، حتى إنه تعيَّن عليها محاولةُ أن تستبين بعضَ الكلمات؛ وكان بعض الكلمات عتيقًا وغير مألوف؛ لذا كان عليها أن تُحاول أن تفهم المعنى. لكن كان الأمر يستحقُّ العناء؛ ذلك أن الكتاب أخبرها بقصصٍ مُثيرة أكثرَ من تلك التي ابتدعتْها لنفسها قبل أن تَخلُد إلى النوم في الليل. وهكذا وفيما أخذت تقرأ، تعلَّمت عن التنانين القديمة.
كانت دامار لا يزال بها تنانين؛ تنانين صغيرة، مخلوقات كريهة لئيمة الطباع بحجم الكلاب على استعدادٍ لأن تَشويَ طفلًا لتتناوله طعامًا فتبلَعه في قضمتَين لو أمكن لها ذلك؛ لكن صُدَّت هذه المخلوقات وأُعيدت إلى الغابة الكثيفة والتِّلال البرية في أيام إيرين. كانت تلك المخلوقات لا تزال تقتل صيادًا غافلًا بين الحين والآخر؛ لأنها لم تكن تخشى شيئًا، وكانت لها أسنانٌ ومخالبُ وكذلك نيران تقهر بها فريستها، لكنها لم تَعُد تُمثِّل خطرًا جسيمًا. وبين الحين والآخر كان أرلبيث يسمعُ عن أن أحدها — أو أسرة منها، ذلك أنها في غالب الأحيان كانت تصطاد في جماعات — يؤذي قريةً أو مزرعةً نائيةً، وحين كان يحدُث ذلك كانت مجموعةٌ من الرجال مُجهَّزة بالرماح والسهام — لم تكن السيوف ذات نفع كبير في ذلك؛ لأن المرء لو كان قريبًا بما يكفي ليستخدم السيف فإنه قريب بما يكفي ليحترق بنارها — تخرج من المدينة لتُجابِهَ تلك المخلوقات وتتصدَّى لها. وكان أولئك الرجال دائمًا ما يعودون بالمزيد من القصص البشِعة عن غدرِ التنانين ومكرِها؛ ودائمًا ما كانوا يعودون وهم يُطبِّبون بعضَ أطرافهم المُحترقة؛ وأحيانًا ما كانوا يعودون ينقصهم حصان أو كلب.
لكن لم تكن ثمَّة بهجة في اصطياد التنانين. كان عملًا شاقًّا ومعقَّدًا ومروِّعًا، وكانت التنانين مُؤذية. ولم يكن المسئولون عن الصيد — واسمهم الثوتار، وهم الذين يشرِفون على كلاب الملك ويُوفِّرون اللحمَ للأسرة الملكية — يمتُّون لصيد التنانين بِصِلَة، وبمجرد أن تُستخدَم الكلاب لصيد التنانين، كانت تلك الكلابُ تُعَد عديمةَ القيمة لأي شيءٍ آخر.
كانت الأساطيرُ القديمة عن التنانين الكبيرة لا تزال قائمةً، وحوش ضخمة ذات حراشف، حجمها أكبر من الخيول مراتٍ ومرات؛ حتى إنه كان يُقال في بعض الأحيان إن التنانين الكبيرة كانت تطير، تطير في الهواء، بأجنحةٍ عريضة يُمكن لها أن تحجُب الشمس. كانت أجنحة التنانين الصغيرة ضامرة، لكن أحدًا لم يرَ من قبلُ أو يسمع بتنينٍ أمكنه رفعُ جسده الغليظ والقصير عن الأرض باستخدامها. كانت التنانين تضرب بأجنحتها عند الغضب والتودُّد، فيما ترفع أعرافها؛ لكن كان هذا هو كل ما تفعله بها. لم تكن التنانين العتيقة والتنانين الطائرة أكثرَ من مجرد أقصوصة.
لكن هذا الكتاب كان يتناول التنانين العتيقة على مَحمل الجِد. كان الكتاب يقول إنه رغم أن التنانين الوحيدة التي رآها البشر على مدار سنواتٍ كثيرة كانت صغيرة الحجم، فإنه لا يزال يُوجَد واحد أو اثنان من التنانين الكبيرة يختبئان في التلال؛ وأنه في يومٍ ما سيطير هذا التنين أو هذان التنينان من مَخبئهما السرِّي ويعيثان فسادًا في بني الإنسان، وذلك لأن البشر سيكونون قد نسُوا كيفيةَ التعامُل مع التنانين الكبيرة. كانت التنانين الكبيرة تعيش طويلًا؛ فكان يمكن لها أن تتحمَّل انتظارَ الوصول إلى تلك الحالة من النسيان. ومن نبرة المؤلِّف الدفاعية، كانت التنانين الكبيرة أسطورةً حتى في زمنه، حكاية تُروى في الاحتفالات، وإدامها الخمر والنبيذ. لكن إيرين كانت منبهرة مثلما كان الكاتب.
«لقد جمعتُ معلوماتي بأقصى درجات العناية؛ ويسعني الظنُّ أن بإمكاني أن أقول صدقًا إن التنانين الكبيرة العتيقة والصغيرة منها التي تعيش في يومنا هذا هي من نفس النوع. ومن ثمَّ فإن مَن يرغب في تعلُّم مهارة التغلُّب على التنانين الكبيرة لا يمكنه أن يفعل ما هو أفضل من أن يجمع من الصغار منها بقدْرِ ما يجد في أوكارها النتنة ويرى كيف تُقاتِل.»
ومضى مؤلِّف الكتاب يسرُد أساليبَ جمعِه للمعلومات، والتي بدا أنها تتألَّف من تذييل دءوب للقصص القديمة عن وسائل التنانين وطُرُقها؛ على الرغم من اعتقاد إيرين أن ذلك ربما يكون أيضًا مأخوذًا من الرواة الشفاهيين الذين يُكيِّفون التنانين القديمة على طُرُقِ التنانين المُعاصرة منها وكأنها الحقيقة من وجهة نظر المؤلف. لكنها تابعت القراءة.
كان للتنانين سيقانٌ قصيرة وثخينة تحمل أجسادًا عريضة؛ ولم تكن سريعةَ العدوِ في المسافات، لكنها كانت غايةً في البراعة، وبإمكانها أن تُوازن نفسها بسهولة على ساق واحدة من سيقانها لتستخدم أيَّ ساقٍ من الثلاثِ الأخرى في التمزيق، وذلك بالإضافة إلى ذيلها الشائك. وكانت رِقابها طويلة ومَرِنة، بحيث يمكن للتنين أن ينفُث نيرانه عند أي نقطة في محيط دائرة؛ وغالبًا ما كانت التنانين تحكُّ أجنحتها في الأرض لتنشرَ الغبار مما يزيد من ارتباك خَصمها أو فريستها.
«من المعتاد في وقتنا الحاضر أن يكون اصطيادُ التنانين بالسهام والرماح الموجَّهة؛ لكن إن عادت التنانين الكبيرة مجددًا، فإن هذا لن ينفع مَن يهاجمها إلا قليلًا. وقد ضعُفت دِرعها كما تقلَّص حجمها؛ فيمكن للرُّمح المقذوف جيدًا أن يخترق جسدَ تنين صغير في أي مكان يُصيبه. أما التنانين الكبيرة فكانت لها نقطتا ضعفٍ فقط يمكن التعويل عليهما: عند قاعدة الفك، حيث يلتقي الرأس الصغير بالرقبة الطويلة؛ وخلف مرفقها، حيث منشأ الأجنحة. وكما قلتُ فالتنانين بارعة؛ فمِن المُستبعَد جدًّا أن يكون أحدُ التنانين الكبيرة من الحُمْق لدرجةِ أن يخفِض رأسه أو أجنحته فيُصبح هدفًا سهلًا. ولا يُقتَل تنين كبير إلا على يد بطل عظيم؛ بطل يُمكنه بالمهارة والشجاعة أن يقترب بما يكفي ليوجِّه ضربة قاتلة.»
«ومن حُسن حظ مَن يعيشون على الأرض أن التنانين الكبيرة لا تتناسل إلا نادرًا؛ وأن بني الإنسان قدَّموا من الأبطال ما يكفي لقهرِ مُعظمها. لكن الكاتب يعتقد وهو يفيض حماسةً أنه سيتعيَّن أن يخرج بطلٌ واحدٌ على الأقل من بين شعبِه ليُواجه آخِرَ التنانين الكبيرة.»
«ولا أدري عددَ آخرِ التنانين الكبيرة؛ قلت إنه واحد أو اثنان؛ وربما كان ثلاثة أو أربعة. لكني سأعلِّق على شخصٍ واحد بصفة خاصة: جورثولد، الذي قضى على كريندينور ورازمثيث، ومضى أيضًا يواجه مور، «التنين الأسود»، ولم يقضِ عليه. وقال جورثولد — الذي أصيب بجراحٍ مميتة — وهو يلفِظ أنفاسه الأخيرة: إن التنين سيموت مُثخنًا بجراحه هو أيضًا؛ لكن لم يتيقَّن أحدٌ من ذلك قَط. الأمر الوحيد الأكيد هو أن مور اختفى؛ ولم يرَه إنسان — أو لم يرَه أحدٌ ممن عادوا ليقصُّوا القصة — منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.»
وفي آخرِ الكتاب وجدت إيرين مخطوطةً هي أقدمُ من الكتاب حتى: بضع ورقات فقط، تكاد تكون غير مقروءة بفعل مرور الزمن عليها، مَخيطة بعناية في الغلاف. كانت تلك الصفحات الأخيرة العتيقة وصفةً لدهانٍ يُدعى كينيت. دهان مضاد لنيران التنانين، هكذا قالت المخطوطة.
كانت المخطوطة تحوي عددًا من المكوِّنات غيرِ المألوفة؛ من وقْع الكلمات ظنَّت إيرين أنها أعشاب. كانت تعرف من اللغة القديمة ما يكفي لتُميِّز مقاطعَ قليلة؛ وكانت ترجمة إحدى تلك الكلمات «الجذور الحمراء». قطَّبت إيرين؛ إذ كان ثمَّة شيء يُدعى الجذور الحمراء كان يأتي ذكره في القصائد الرعوية المُملَّة، لكنها ما برِحت تظنُّ أنه شيء ينتمي إلى الفئة الكلاسيكية المعروفة باسم الخيالية، كالحوريات والفِيَلة. قد تعرف تيكا بشأن الجذور الحمراء؛ إذ كانت تُعِد شايًا شنيعًا على نحوٍ استثنائي أو شايًا عشبيًّا لكل داء، وحين كانت إيرين تسألها عن مكوِّنات ذلك الشيء الشنيع، كانت تيكا دائمًا ما تسرُد عليها قائمةً بالأشياء التي لم تكن إيرين قد سمِعت بها من قبلُ مطلقًا. فكانت تميل إلى افتراضِ أن تيكا تردُّ عليها بكلام عبثي وحسب، لكن ربما لم تكن الحال كذلك.
دهان مضاد لنيران التنانين. إن كان يؤتي مفعولًا، فيمكن لشخصٍ واحد أن يتصدَّى وحدَه لتنينٍ بأمان؛ ليس تنينًا كبيرًا بالطبع، لكن على الأرجح أن «التنين الأسود» لقِيَ حتفَه مُثخنًا بجروحه … لكنه سيتصدى للتنانين الصغيرة التي كانت تُمثِّل مصدر إيذاء كبير. في الوقت الراهن كان النَّسق المُعتاد أن تُهاجَم التنانين بالسهام وما إلى ذلك من بعيدٍ، بعددٍ من الرجال يكفي لصُنع دائرة حول واحدٍ أو مجموعة منها، بحيث إذا هجمت على أحدٍ يمكنه أن يفرَّ لينجوَ بحياته فيما يُمطرها مَن هم على الجانب الآخر من الدائرة بالسهام. لم يكن بوسع التنانين أن تجريَ مسافاتٍ طويلة، وعادةً ما كانت العشيرة الواحدة منها تهجم جميعها في نفس الاتجاه. وحين لا تفعل ذلك كانت الخيول تموت.
كانت إيرين تجلس تحت الشجرة المُريحة بالقُرب من بحيرة تالات معظمَ أوقاتِ ما بعد الظهيرة عدةَ أسابيع حين اكتشفت وصفة الدهان المُضاد للتنانين. جعلها هذا تفكِّر كثيرًا، وكانت مُعتادة أن تمشيَ بخطواتٍ سريعة وهي تفكِّر. كانت سيطرة نبتة السوركا تنفكُّ عنها ببطء، وفي حين لم يكن بإمكانها السيرُ بخطواتٍ سريعة، كان بإمكانها أن تسيرَ على مهلٍ من دون عصاها. فكانت تسير الهوينى حول بحيرة تالات.
كان تالات يتبعها. وحين كانت تتوقَّف، أو تُمسك بفرع شجرة لتوازن به نفسها، كان يتحرك بعيدًا عنها بخطوة أو بضع خطوات وينزل بأنفه إلى الأرض ويضع بين شفتَيه ما يجده. وحين تتابع سيرَها، كان يرفع رأسه ويتبعها. وفي عصر اليوم الثالث مذ أن اكتشفَتِ الوصفة كانت لا تزال تسير بخطواتٍ سريعة، ليس لأنها بطيئة التفكير وحسب، لكن لأن ظلَّها ذا الأرجل الأربع الذي يجرُّ ساقه الخلفية خدعَها. ففي اليوم الثالث حين مدَّت يدَها لتُثبِّت نفسها في مواجهة الهواء، تسلَّلت رقبة حصان تحت أصابعها الممدودة. فتركت يدها تسقط برقةٍ على عُرفه، وعيناها مُتجهتان للأمام، متجاهلةً إيَّاه؛ لكن حين خطَت خطوة أخرى للأمام، فعل مثلها.
بعد ذلك بيومَين أحضرت مِحَسَّة وبعض الفُرَش إلى مرعى تالات؛ كانت تلك تخصُّ كيشا، مُهرَتَها، لكنها لن تفتقدها. كانت كيشا هي المَطيةَ المثالية لأميرةٍ يافعة؛ إذ كانت ممشوقة الجسم ورقيقة وأجملَ من قطيطة. كما كانت مُختالة بنفسها بقدْر جالانا، وكانت أحب الأشياء إليها هي المواكب الملكية، حيث تتزيَّن خيول الدائرة الأولى كلها بالذهب والشراريب. عِلاوة على ذلك كانت أفراس الأميرات تحظى بشرائطَ تُجدَل في أعرافها وذيولها، وكان ذيل كيشا طويلًا وناعمًا جدًّا. (لا شكَّ في أنها ستغضب من تفويتها تحيَّة الخيَّالة في زفاف جالانا وبيرليث.) لم تجفُل كيشا من قبل من الرايات المرفرفة وذيول السَّرج المُخملية؛ لكن إن حاولت إيرين أن تمتطيَها في الريف، كانت كيشا تجفُل عابسة من كل ورقة شجر، وتظلُّ تحاول الاستدارةَ والانطلاق نحو المنزل. كانت إحداهما تكره الأخرى بشدة. وكانت جالانا تمتطي أختها الكبرى روكا. وكانت إيرين تؤمن أن روكا وكيشا تثرثران سويًّا في الإسطبل ليلًا عن سيدتَيهما.
كان لدى كيشا عشرات الفُرَش. وطوت إيرين بعضها في قطعةٍ من الجلد وخبَّأتها في إحدى ثنايا الشجرة التي تقرأ عندها قرب البِركة.
كان تالات لا يزال يأخذ الأمر على محمل كرامته كثيرًا أن يُقرَّ كَم كان يُحب أن يُعتنى به؛ لكن كانت أذناه تميلان إلى أن تتدلَّيا، وتلتمِع عيناه وترتخي أجفانهما وتلتوي شفتاه حين تحكُّ إيرين جسدَه بالفُرَش. كانت شعراتٌ بِيضٌ تتطاير كعاصفة ثلجية؛ لأن لون تالات كان قد استحال إلى الأبيض في السنوات التي تلت إصابته بالعرج.
قالت إيرين بعد بضعة أيامٍ تُحاول أن تبدوَ غير مكترثة: «هورنمار، هل تظن أن ساق تالات لا تزال تؤلِمه حقًّا؟»
كان هورنمار يحكُّ جسد كيثتاذ، فحل أرلبيث الكستنائي اليافع، بقطعة قماش ناعمة. ولم تكن ثمة ذرةُ غبار في أي مكانٍ على جلد الحصان. نظرت إليه إيرين في نفور: كان صحيحًا ومتناسقًا ومتألقًا وبهيجًا وكفؤًا، وكانت هي تُحب تالات. نظر هورنمار إلى ابنة أرلبيث مفكرًا. كان كل السُّيَّاسِ الآن يعرفون علاقة الصداقة الخاصة بينها وبين الفحل الأعرج. كان هورنمار مسرورًا لكلٍّ من تالات وإيرين، لأنه كان يعرف أكثرَ مما كانت تأمُل عن الحال الذي كانت عليه حياتها. وكان في قرارة نفسه أيضًا يشعر بالقليل جدًّا من الحسد؛ فقد كان كيثتاذ حصانًا رائعًا، لكن تالات كان فيما مضى أفضلَ منه. والآن كان تالات يولِّي وجهه بأذنَين مُسطَّحتين عن صديقه القديم.
ثم قال بنبرةٍ محايدة: «أرى أنها لم تَعُد تؤلِمه كثيرًا. لكنه اعتاد عدمَ الاتكال على تلك الساق، وعضلاتها ضعيفة، ومُتيبسة أيضًا، من الجرح.» ثم أخذ يحكُّ بضعة إنشات أخرى من عُرف كيثتاذ. وقال: «يبدو تالات بحالة جيدة هذا الفصل.» ثم رمق إيرين بنظرةٍ خاطفة فرأى الدم يتدفَّق إلى وجهها، وأشاح عنها ثانيةً.
قالت: «أجل، إنه يزداد بدانة.»
تنهَّد كيثتاذ ونفض ذيلَه نفضةً سريعة؛ كان هورنمار قد ربط ذيله حتى لا يصفعه على وجهه. واستدار هورنمار حول رِدفي الفحل وبدأ يعمل على جانبه الآخر؛ وكانت إيرين لا تزال تتكئ على سور الإسطبل تشاهد. وأخيرًا قال هورنمار بحذر: «قد تُصبح حال تالات أفضلَ بعض الشيء من حاله السابقة. لكنه لن يتمكَّن أبدًا من أن يحمل، مثلًا، وزن رجل.»
فقالت إيرين: «أوه»، وهي لا تزال غير مكترثة. كان لدى كيثتاذ بقعةٌ سوداء على أحد كتفَيه؛ فركَت إيرين البقعة بإصبعها، فالتفت إليها كيثتاذ برأسه ونكزها بأنفه. داعبتْهُ لحظة، ثم انسلَّت مُبتعدةً في هدوء.
وفي اليوم التالي، امتطَت فحلَها الأعرج. مشَّطته أولًا، وحين انتهت، وضعت من يدِها أدوات الاعتناء بالخيل معًا في كومة. مرَّرت إيرين إصبعها على إحدى وجنتَيه العريضتَين؛ أما تالات، الذي لم يعترض على شيءٍ قليل من الاهتمام الإضافي، فأسند أنفه على بطنها حتى تُمسِّد وجنتَه الأخرى بيدها الثانية. بعد لحظة عمَدت إلى جانبه الأيسر ووضعت يديها على حَارِكه وخاصرته، واتكَّأت عليهما. كان أصغر من معظم جياد الحرب الملكية، لكنه كان لا يزال أطول جدًّا من أن تعتمد على يدَيها في أن تَحمِلا قدرًا كبيرًا من وزنها لتمتطيَه. حرَّك الجواد أُذنَيه لها. فقالت: «حسن.» وضعت إحدى يدَيها على كتفه وتبِعها هو نحو صخرة كانت قد اختارتها قبل عدة أيام لهذا الغرض. وطئت إيرين على الصخرة، ووقف تالات في هدوء فيما مررت هي ببطء إحدى ساقَيها من فوق ظهره.
كانت الآن جالسةً عليه. ولم يحدُث شيء. وقد قالت لنفسها بِنَزَق، ما الذي كان من المفترض أن يحدث؟ لقد جُعِل للركوب فيما كنت لا أزال أتعلَّم المشي. كانت تلك هي المرة الأولى.
نصب تالات أذنيه للخلف نحوها، وكان رأسه محنيًّا وكأنه شعرَ بالشكيمة في فمه مجددًا. دفعته إيرين برجلها دفعًا رقيقًا، فسار مبتعدًا عن حجر الركوب؛ وسار على قوائمه الثلاث وجرَّ الرابعة. كان أكبرَ مما تَوَقَّعَتْ، وآلمتها ساقاها من امتدادهما على ظهر جواد الحرب العريض. وكانت كتفاه تحت يدَيها مُتيبِّستَي العضلات، فلم يكن تالات يفعل شيئًا طَوال ما يزيد على عامَين سوى الوقوف في حقل.
امتطته إيرين كلَّ يوم بعد ذلك. في البداية كان امتطاؤها إيَّاه يدوم جولةً واحدة حول مرعاه، وكان مبدأ الجولة ومنتهاها عند حجر الركوب؛ ثم صارت الجولةُ بعد ذلك جولتَين وثلاثًا: وهو يسير على قوائمه الثلاث ويجرُّ الرابعة. كان يسير حين تعتصِر بطنه بساقَيها، ويمضي يمنةً أو يَسرة حين تصدمه بخارج ركبتِها صدمة خفيفة؛ وبعد بضع محاولات أدرك أنها ترغب في أن يتوقَّف حين تدفع بعظام مؤخرتها في ظهره. وكانت تُمرِّر يدَيها كل يومٍ على ساقه المصابة بعد أن تنزل من فوق صهوته: ولم يكن بها سخونة أو تورُّم أو ضعف. وذات يوم ضربت الندبة الطويلة القبيحة بقبضة يدها وقالت: «جيد جدًّا، آمُل ألا تؤلِم حقًّا»، ثم عادت تعتلي صهوته ولفَّت ساقَيها حوله حتى انطلق في هرولة ثقيلة وأذنه تنتفِض من المفاجأة. سار ستَّ خطوات وهو يعرُج ثم تركتْه يتوقَّف. وخزَتها الدموع في عينَيها، وأطعمته قضبان الميك في صمت، ثم غادرت مُبكرة في ذلك اليوم.
ومع ذلك عادت عصر اليوم التالي، لكنها بدت مُتجهِّمة، وحاولت أن تمسك بكتابها بعد أن اعتنَت به. لكنه مضى كما هو متوقَّع منه إلى حجر الركوب ووقف يرقُبها حتى إنها تنهَّدت، وامتطت ظهره ثانيةً وبساقَيها جعلتْه يتقدَّم للأمام. لكنه بدأ يهرول من فوره هرولته الثقيلة، وفي نهاية الخطوات الست لم يتعثَّر ويتوقَّف، بل باعد مدى خطواته بعضَ الشيء في جرأةٍ أكبرَ قليلًا؛ وقطع ربع المسافة حول الحقل، ثم نصف المسافة؛ واعتدلت إيرين جالسةً على صهوته فهمدت خطواته إذعانًا منه وصارت مشيًا، لكن بدا لها من مظهرِ أُذنيه أنه يقول لها: أترين؟ في ذلك اليوم بزغ في قلب إيرين لأول مرة أملٌ صغير لكنه قوي.