تمهيد
إنَّ هذا الكتاب قريب الشَّبه في أسلوبه بكتابي السابق «جولة عبر تاريخ الكيمياء» والمنشور عام ٢٠٠٠. يقوم هذا الكتاب على مجموعة الرسوم الفنية الرائعة التي وُظِّفَت على مدار السنين لتوضيح الأدوات الكيميائية، إلى جانب رموزنا المختلفة المستخدَمة للإشارة إلى طبيعة المادة وتركيبها. ويهدف الكتاب إلى الإمتاع إلى جانب الإمداد بالمعلومات. ويضمُّ الكتاب ١٨٨ شكلًا موظَّفة لشرح ٧٢ مقالًا. وقد حاولت أن أجعل هذه المقالات يسيرة الفهم لجمهور عريض من الكيميائيِّين، ومعلِّمي الكيمياء، والعلماء والمدرسين في مجالات أخرى، والمهندسين، والفيزيائيِّين، بالإضافة إلى غير العلماء المهتمِّين بالعلوم والذين يَستمتِعون بالأعمال الفنية. لا يُمثِّل هذا الكتاب استعراضًا منهجيًّا لتاريخ الكيمياء، وإنما هو رحلة أخرى من نوعٍ خاصٍّ تتضمَّن كثيرًا من الموضوعات التي لم نتطرَّق لها في رحلتنا الأولى، علاوةً على التطرُّق مرةً أخرى إلى موضوعاتٍ سبق أن تطرَّقنا لها للكشف عن رؤًى جديدة لها. تنتظم المقالات في ثمانية أجزاء مرتَّبة ترتيبًا زمنيًّا تقريبيًّا. يركز الجزء الأول على صور الجذور الروحانية والميثولوجية للكيمياء؛ الآلهة، والتنانين المجنَّحة، والساحِرات، بالطبع (هل كان الأيقونة السينمائية اليابانية «رودان» طائر عنقاء؟) والطيور الجارحة الغاضبة، والباسيليسك المخيف (أهو أفعى كوبرا تنفُثُ سُمَّها أم وحش جودزيلا؟) والأوروبروس؛ تلك الصورة المَجازية لبقاء المادة، وربما كانت أيضًا المُلهِم الحقيقي الذي استوحى منه كيكوله بِنية البنزين الكيميائية. ويَتناول الجزءان الثاني والثالث من الكتاب الجوانب التكنولوجية لبدايات علم الكيمياء. بالإضافة إلى الصور الملوَّنة الجميلة لأدوات التقطير والأدوات الكيميائية الأخرى التي كانت تُستَخدَم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثَمَّةَ صورة بيانية تفصيلية لقوة الأنتيمون (الإثمد) بوصفه مُليِّنًا؛ دواءً باعثًا على القَيء ومسبِّبًا للإسهال في الوقت ذاته. أما الجزء الرابع، فيركز على الفترة ما بين منتصَف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، حين بدأت الكيمياء تَبرز إلى الوجود كعلم. بالإضافة إلى بويل وهوك ومايو، الذين حلُّوا لغز الاحتراق والتنفس، نتناول أيضًا الحِيَل والمكائد التجارية التي أحاطت باكتِشاف الفوسفور، والتي قامت على أساس السيطرة على السوق أولًا، ثم اكتشاف ما قد يُفيد فيه العنصر الجديد. إننا نَعتبِر بيشر مؤسس أول نظرية حقيقية للكيمياء، وهي نظرية الفلوجستون. ومع ذلك، كان بيشر على الأرجح أهم روَّاد حركة التجارية في عصره، علاوةً على كونه المستشار الاقتصادي لليبوبولد الأول، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة. أما الجزء الأكبر من هذا الكتاب، فهو مخصَّص للثورة الكيميائية التي قامت خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. لا يَعرف كثيرون أن لافوازييه، الذي كان أبا الكيمياء الحديثة بلا شك، كان كذلك أحد أكثر علماء الاقتصاد تأثيرًا في القرن الثامن عشر. وفي نفس هذا الجزء نتطرَّق بإيجاز إلى إسهامات بنجامين فرانكلين المبكِّرة في للكيمياء. وفي الجزء السادس، نتعرف على نظرية دالتون الذرية بوصفها ذروة الثورة الكيميائية. ويضمُّ هذا الجزء خمسة مقالات ترصد الكيمياء في أمريكا في بداية القرن التاسع عشر. لعلَّ أحد الأشكال المفضَّلة لديَّ في هذا الكتاب هو شكلٌ لجهاز معملي أمريكي قديم (من حوالي عام ١٧٩٠) كان يُستخدم في تركيب حمض الكبريتيك، كان يجمع بين عناصر من المَزارع (الأواني الفخارية) ودكان الحداد (الكير). أما الأفكار الرئيسة في الجزء السابع، فتشمل تطوُّر تخصُّصات الكيمياء، مثل الكيمياء العضوية، والتأصيل الذي قدَّمه القانون الدوري. وعلى غرار كتاب «جولة عبر تاريخ الكيمياء»، تخفُّ التغطية خلال أواخر القرن التاسع عشر، لتُصبح نادرةً للغاية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فالنمو المطرد والضخم للأدبيات الكيميائية كان من شأنه أن يجعل التغطية المتوازنة والمُقيَّمة على نحو ملائم أمرًا مُستحيلًا، علاوةً على أننا غارقون وسط بحر من الكتب الدراسية والدراسات الأحادية الموضوع التي تتناول هذه المادة العلمية الحديثة؛ لذلك فإن الجزء الأخير (الجزء الثامن) يَتناول بعض الموضوعات الحديثة بأسلوب خفيف جدًّا، لكنه يُحاول أن يُمِدَّ القارئ برُؤية للمُستقبَل؛ تكنولوجيا النانو والتنظيم الذاتي، وكلاهما يُعَدُّ انتصارًا لقُدرتنا على فهم البِنية الكيميائية للمادة في أبسط مستوياتها.
وقد اختتمتُ هذا الكتاب بخاتمة قوامها مقالان شخصيَّان وجيزان؛ أحدهما عن صديقٍ من سنوات المراهَقة، وهو روبرت سيلبرجليد، جامع الفراشات العبقري الغريب الأطوار المشاغِب، والذي أصبح فيما بعد أستاذًا في علم الحشرات في جامعة هارفارد ملأت شُهرته الآفاق حتى وفاته في سن مبكرة إثر حادث تحطم طائرة. أما الثاني فهو مقالٌ وجيز، يتطرَّق بشكل عابر إلى أصولي الكيميائية. وعلى الرغم من أن هذَين المقالين قد يبدوان تدليلًا مفرطًا وتفخيمًا للذات، فإن الغرض منهما ليس كذلك على الإطلاق؛ إنَّ الغرض منهما هو إمداد القارئ بلمحة عن ثقافتنا العلمية؛ العلامات الأولى التي تلفت أنظار أي «عالمِ طبيعة»، والاهتمام بجذورنا العلمية الشخصية، والرغبة في الاتصال بالماضي.
لكن إلى جانب هذه الصور الفنية، حاولت أن أُضمِّن مقتطفات من مسرحيات وروايات، بل وأتجول في عوالم غامضة؛ ومن ثَمَّ سنَستمتِع بإحدى حكايات كانتربري لتشوسر. لقد قام كلٌّ من ديمتري مندلييف والملحن العظيم ألكسندر بورودين — وكانا عالِمَي كيمياء في أواسط العشرينيات من عمرَيهما — برحلة ترفيهية لحضور أول مؤتمر للكيمياء يُعقَد على مستوى العالم في كارلسروه في عام ١٨٦٠، متوقِّفَيْن أكثر من مرة ليُمتِّعا حواسهما الموسيقية؛ يا لها من فكرة مثيرة لفيلم! إنَّ كثيرًا من القراء على علم بكتاب بريمو ليفي الذي يَعرض فيه لسيرته الذاتية، «الجدول الدوري»، لكن كم عدد مَن يعرفون كتاب إدوين هربرت لويس «البرق الأبيض» (١٩٢٣)، وهي رواية تأتي أحداثها في ٣٥٤ صفحة مقسمة إلى ٩٢ فصلًا بأسماء العناصر الكيميائية مُرتَّبة وفقًا للعدد الذري لكل عنصر؟ أما الرؤية الثقافية الأشمل للكيمياء، فقد عبَّرت عنها جيدًا مسرحية «أكسجين»، من تأليف عالِمَي الكيمياء المتميزين كارل جيراسي ورولد هوفمان. بالإضافة إلى إدراج مُقتطَف موجَز للغاية من هذه المسرحية، أدرجت كذلك مقتطفًا موجزًا من مسرحية بيتر فايس «مارا صاد» التي ألَّفها عام ١٩٦٦. بل إن ثَمَّةَ قصة قصيرة محاكية لقصص لثوربر مستوحاة من رسوم عبَثية لطالب في المدرسة العليا على صفحة العنوان لأحد كُتبها الدراسية الذي يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر. وفي حين احتفظَت ببعض الفظاظة الفكاهية التي تميَّز بها عصر النهضة، وأضفت شيئًا من السخرية، فإن الغرض النهائي من هذا الكتاب غرضٌ جادٌّ؛ وهو إتاحة العلم والمتعة.