الخاتمة
نختتم هذا الكتاب بمقالين لهما طبيعة شخصية إلى حدٍّ ما؛ فرغم توافُقهما مع موضوعات ظهرت مسبقًا، فإنهما لا يتناسبان بسلاسة مع التدفُّق التاريخي للكتاب. وربما يبدو وضعهما في النهاية للوهلة الأولى أحدَ أشكال الخضوع لهوى النفس وتعظيم الذات. في الحقيقة، رغم أن المقال الثاني يصف نَسَبي الكيميائي، فإنَّني لستُ عضوًا مهمًّا في تاريخ مجالنا هذا. إن المقصد الفعلي لمقال الأنساب الكيميائية هو إظهار تدفُّق تاريخ الكيمياء، وتطور التعليم، وحقيقة أنه على مستوى معيَّن توجد أهمية لهذه الصلات، وأخيرًا، الفرحة العارمة التي تُصاحب الاكتشاف. يصفُ المقال الأول ذكرياتي عن عبقري شاب يُدعى روبرت إي سيلبرجليد، خلال أوائل ومنتصَف سنوات المراهَقة. ويَتناسَب هذا مع موضوع الكتاب على مُستويَيْن؛ فالكيمياء تصف الحقيقة المَخفية. وقد أسهمَت دراسات روبرت للتواصُل بين الفراشات في كشف الحقيقة المخفية للانتقاء الجنسي في الأشعة فوق البنفسجية، وهو نطاق لوني غير مرئي لنا، لكنه على ما يبدو يُشبه إشارات النيون بالنسبة لها. تتحكَّم الصبغات الكيميائية والبِنية المادية لأجنحتها في هذه السلوكيات. لكن السبب الحقيقي لهذا المقال هو مُتعة تخيُّل شباب بعض العباقرة الذين سلَّطْنا عليهم الضوء باختصار هنا.
(١) عالِم طبيعي
هل نكتشف الموهبة العلمية الإبداعية الحقيقية عندما نشهدها في سن مبكِّرة؟ هل يجب علينا رعايتها أم يَنبغي علينا مجرَّد الابتعاد عن طريقها وتركها تنمو على نحو مستقل؟
كان روبرت قصير القامة، ويَرتدي نظارات، وكان ميئوسًا منه في فصل اللياقة البدنية. كانت وسائل دفاعه الوحيدة في باحة مدرسة بروكلين ذكاءه وحقيقةَ أنه لا يُوجد ما يدعو للفخر في ضربه. في بدايات صداقتنا أخذني وصعَدنا إلى غرفته في عمارة سكنية قديمة ومتواضِعة للغاية، وأراني مجموعته من الحشرات. وعلى عكس طريقتي العشوائية في جمع الحشرات، كان روبرت لديه مختبَر نظامي به شبكاتٌ منزليةُ الصنع، وبرطمانات لقتل الحشرات، وسائلٌ لقتلها (أخف وزنًا في الواقع — المزيد عن هذا لاحقًا)، وسائلٌ يسبب لها الاسترخاء، ولوحات تجميع ودبابيس. وكانت حشراته مثبتة بدقة باستخدام دبابيس مناسبة تمرُّ عبر بطاقات تحمل أسماءها العلمية وأماكن الإمساك بها، مكتوبةً بخط صغير للغاية لكنه جميل (المزيد عن هذا لاحقًا، أيضًا). من الواضح أن روبرت كان يُمارس العِلم على مستوى أعلى بكثير مما كنتُ أفعله أنا. طاردنا الحشرات في الحدائق النباتية في بروكلين، وعلَّمني كيف أصنع شبكة كانسة (حمالة ملابس معدنية مع ستارة دقيقة المسام). كان يُحرِّك فتحة الشبكة ذهابًا وإيابًا على طول جانب إحدى الشجيرات، ثم يضع هذه الشبكة في وضع مقلوب بحيث تُصبِح فتحتها على العشب. كانت النتائج مُثيرة؛ إذ كنا نحصل على حقيبة من الحشرات — حرفيًّا مئات الخنافس، والبَق، والقمل، ونطاطات الأوراق، والذباب، والزنابير، والنمل، كمحصول في متناول أيدينا.
كان روبرت معروفًا أيضًا بين مجموعتنا في المدرسة الإعدادية بساعة يده التي على شكل لفافة والتي اشتُهر بها. كان قد أزال قلب ساعد يد قديمة، وصنع مكانها لفافات مكتوبةً بخط صغير لكنه يتَّسم بدقة عالِم الحشرات ليغشَّ منها. لماذا لم نُبلِّغ عنه؟ أعتقد أن هذا بسبب انبهارنا بمهارته؛ فربما شعرنا بإثارة غير مباشِرة من هذا التحدِّي الجريء — وإن كان سريًّا — لإدارة المدرسة، وعلى أيِّ حال، نادرًا ما كان يَحصل على درجات جيدة. في الحقيقة، أعتقد أنه لم يَستخدِم الساعة قطُّ في الامتحانات، ولكنه كان يحتفظ بها من أجل الشعور بالأمان، تمامًا مثل الصواريخ العابرة للقارات ذات الرءوس النووية التي تظلُّ الدول محتفظةً بها حتى في حالة السِّلم.
سنَستعرِض بعض العلامات البارزة الأخرى في أنشطة روبرت؛ على سبيل المثال، كان يَحمل معه سائلًا خفيفًا (قاتلًا للحشرات) في كل مكان في الأيام المطيرة، وكان يرشُّ بعضًا منه على البِرَك الصغيرة، ويأمل أن يرى سيدة عجوز متدينة ترمي عقْب سيجارة مُشتعلًا في البركة، فيشهد «معجزة». وحصل على كتالوج من متجَر مُستلزَمات الزواحف في فلوريدا وتخيَّل إطلاق ٧٥٠ حرباء (مجرد ١٥ دولارًا!) في المدرسة الإعدادية. وقد «جمع» بالفعل (أنا أعتقد أنه اشترى) كمًّا هائلًا من شرانق فرس النبي، ووضعها في أماكنَ خفيةٍ في جميع أنحاء المدرسة، وكان كريمًا بما يَكفي ليُعطيني دستةً منها. لم تَفقس قط في البيئة الخبيثة التي سادَت المدرسة الإعدادية، إلا أنها فقسَت في شهر فبراير الدافئ على غير العادة في غرفة نومي، وغطَّت الجدران بمئات فرس النبي الصغير، مما سبَّب صدمة أبدية لأختي الرضيعة روبرتا.
في غضون سنتنا النهائية في مدرسة إرازموس هول الثانوية رأيتُ روبرت. كنتُ «مهتمًّا» بالرياضة، بينما أصبح هو تحت تأثير مدرِّس موهوب لمادة عِلم الحيوان. وعرفتُ من الشائعات أنه تخلَّص من ساعة اليد السيئة السُّمعة، وكان يَصنع الزرنيخ، وقدَّم طلبًا للالتحاق بكلية الزراعة جامعة كورنيل. انتقلتُ إلى مدينة إنجلوود في نيوجيرسي، في النصف الثاني من سنتي النهائية، وعندما قرأتُ أنه يُمكن العثور على حفريات على طول نهر نافيسينك، دعوته إلى عبور نهر هدسون، وركوب الحافلة إلى بلدة ريد بانك. باء بحثُنا عن الحفريات بالفشل، إلا أنَّ روبرت استطاع، بعتادِه الموجود دومًا، الإمساكَ بنحلة طنانة، وأزال إبرة اللدغ منها بدقة، وربط أحد طرفي خيط ببطن النَّحلة المنزوعة السلاح، والطرف الآخر بزر قميصه، وركب مُنتصِرًا عائدًا إلى المنزل، و«النحلة تطِنُّ» طوال الطريق. حدث هذا في ربيع عام ١٩٦٣، وكانت هذه آخِر مرة أرى فيها روبرت.
بعد نحو ١٨ عامًا أعطاني طفلاي، ديفيد وريتشل، اللذان كانا في الثامنة والسادسة من عمرهما، ذريعةً للعودة لتجربة جمع الحشرات؛ فقد اشتريتُ لهما عُدَّة جمعِ الحشرات التي أردتُها دومًا. فكرتُ في روبرت، وبناءً على حَدْسي، بحثتُ عنه في مرجع «رجال ونساء أمريكان في الكيمياء»، وعثرتُ عليه — بكالوريوس علوم، كورنيل؛ دكتوراه، هارفارد؛ كان في هذا الوقت عضوًا في هيئة التدريس في هارفارد، والمُتولي شأن مجموعة الفراشات التابعة للجامعة. كتبتُ إليه وذكَّرته بتجاربنا المبكِّرة معًا بتفاصيل موجزة (وإن كانت مؤلمة). كتب إليَّ في المقابل، وأثنى على ذاكرتي، ودعانا جميعًا لزيارته في كامبريدج. كان يُوقِّع في هذا الوقت مُستخدِمًا الاختصار «بوب». كانت عائلتي منشغلةً للغاية في هذا الوقت فلم نَستطِع قبولَ عرضه. وبعد نحو خمس سنوات بحثتُ عنه مرةً أخرى ووجدت كلمة «الراحل»، ولم أعلم إلا بعد سنوات أنه تُوفي في المياه المتجمِّدة لنهر بوتوماك.
في مرحلة المراهقة، فاز روبرت في معرض للعلوم بدراسته للتنويعات في العلامات الموجودة على أجنحة الفراشات في الأجزاء المختلفة من مدينة نيويورك. أعتقِد أن هذا التكريم كان ذا صِلَة باهتماماته العلمية، وأنا متأكِّد من أنه لم يَحصُل على أيِّ مساعَدة من والدَيه أو من أي مختبر علمي معروف. وقد أخبرني موقع معهد سميثسونيان السابق الذكر، أن روبرت ارتقى إلى درجة أستاذ مساعِد وقيِّم مساعد لحرشفيات الأجنحة في متحف علم الحيوان المقارن في هارفارد. حصل لأول مرة على منصب في معهد سميثسونيان للأبحاث الاستوائية في عام ١٩٧٦، وأنهى حياته المهنية هناك. كان أيضًا ناشطًا بيئيًّا كرَّس نفسه لحماية جزيرة لينيوم فيتا كي في فلوريدا وإدارتها. وعُرف روبرت، من بين كثير من الإنجازات العِلمية الأخرى، على وجه الخصوص بدراساته عن أهمية الأشعة فوق البنفسجية في عادات التزاوج لدى الفراشات.
لقد كنتُ محظوظًا لتأثري بهذه العبقرية الوليدة في هذه المرحلة المبكِّرة من حياتي، وظللتُ أحاول طوال اشتغالي بالتدريس في شبابي العثورَ عليه مرةً أخرى.
(٢) منحدر من أنابيب اختبار فالوب؟
(٢-١) سؤال طال انتظاره
أشعر بالخجل من الاعتراف بأنني كنتُ في الخامسة والخمسين من عمري عندما بحثتُ أخيرًا عن نَسَبي الكيميائي. إلا أنَّ الأمر خطئي بالكامل؛ فقد تلقَّى «والدي الكيميائي»، بيير لازلو — الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه ووقَّع عليها في جامعة برينستون — تعليمَه في فرنسا، وتعرَّض لبضعة انعطافات غير تقليدية نوعًا ما في دراساته العليا، ولم يتحدَّث فعليًّا قطُّ مع مجموعتنا البحثية عن أصله الكيميائي، ولم نكن نحن فضوليِّين بالقدْر الكافي لنسأله. إلا أنَّ زيارة بيير لنيوهامشير في أكتوبر عام ٢٠٠١، وفَّرت بعض لحظات الاسترخاء، فطرحتُ السؤال أخيرًا: «مَن كان «جدي الكيميائي»؟» أخبرني أنه كان إدجار ليديرر، في السوربون في باريس، وهو عالِم كيمياء عُضوية ورائد في الاستشراب. عرَّفني بيير أيضًا على هوية مُستشار ليديرر — ريتشارد كون في هايدلبرج.
في هذه الليلة، دخلتُ على الشبكة العنكبوتية العالَمية واكتشفتُ في غضون دقائق أن كون، الذي حصل على جائزة نوبل، أنهى رسالة الدكتوراه الخاصة به تحت إشراف ريتشار فيلشتيتر، الذي حصل على جائزة نوبل عام ١٩١٥، وأن فيلشتيتر درس تحت أدولف فون باير، الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٠٥، والذي درس بدوره مع أوجست كيكوله. غمرني الفرح لعثوري على هذا التاريخ «العائلي» المُميز، وكنتُ فخورًا باكتشافي للصفات العائلية في نفسي. كان كيكوله أحد رواد الكيمياء العضوية التركيبية؛ فكان أول مَن اكتشَفَ أن الكربون يُكوِّن أربع روابط، وأن البنزين، الجزيء العطري الأساسي، يتكون من حلقات سداسية. ولطالما اعتبرتُ نفسي عالِم كيمياء عُضوية تركيبية، ونشرتُ مقالات عن المركَّبات العطرية و«الخاصية العطرية». حتى إنه كان يُراودني أحيانًا «حُلم الثعبان»، رغم أنه لم يكن بنفْس نفع حُلم كيكوله. ومن بين إنجازات باير العديدة كان وضعه لأول نظرية تشرَح القدرة التفاعُلية العالية للجزيئات العضوية ذات الإجهاد الزاوي، مثل البروبان الحلقي. وقد شاركتُ، مع صديقي القديم جويل إف ليبمان، في تأليف كتاب «الجزيئات العضوية المجهدة» في عام ١٩٧٨، ونشرتُ أبحاثًا أخرى في هذا المجال البحثي؛ ولذلك، كان هذا الاكتشاف السريع للسلالة الكيميائية المُميزة هذه — التي تعود إلى منتصَف القرن التاسع عشر (المزيد عن هذا فيما يلي) — مصدرَ بهجة على وجه الخصوص لشخصٍ تعرَّض تراثُه العائلي الفعلي قبل القرن العشرين للتدمير فعليًّا، ودُفن وسُوِّيت به الأرض في بعض القرى اليهودية في شرق أوروبا ووسطها.
(٢-٢) من ألمانيا إلى فرنسا وإلى أمريكا: ملحمة في القرن العشرين
(٢-٣) ارتباك وخداع
نرى في العلاقة بين فيلشتيتر وأينهورن مثالًا على مشكلة تنشأ أحيانًا في أبحاث الأنساب هذه — مَن «يُنسَب إليه الفضل» في ظهور عالِم شهير — مستشار رسالته العلمية أم العقلية التي كان لها تأثير فعلي؟ ويزداد هذا صعوبة مع تعمُّقنا أكثر في الماضي. وماذا عن مشرفي ما بعد الدكتوراه؟ لماذا لا يُمكِن اعتبارهم «آباءً»؟ فربما من المنصف القول إنَّ المشرف على الأطروحة هو أوَّل مَن يرصد العقبات التي تظهر في المختبر الكيميائي للعالم المبتدئ، ويُقدِّم له الرعاية حتى يصل إلى مكانة كيميائية مرموقة.