(١) رموز باطنية من الشرق والغرب
كيف نَفهم حيواتنا القصيرة للغاية، ومجالنا الدنيوي، والكون المحيط بنا؟ نحن البشر
لدينا نزعة فطرية إلى الرمزية، تحثُّنا على تمثيل الأمور الملموسة وغير الملموسة
بالأفكار والكلمات والصور والموسيقى؛ فالرسومات على جدران الكهوف تسبق عصرنا الحالي
بعشرات الآلاف من السنين. وكان ابني ديفيد يطلق على الآيس كريم، ولم يكن قد جاوز عمره
العامين، لفظة «أم-يام»، وكانت كلمة رمزية مناسِبة من طفل حديث المشي لا يزال يجهل أن
هذا الشيء كريمة مُثلَّجة لكنه بالتأكيد يُميز الأشياء ذات المذاق الطيب. وكذلك خُلِقنا
بغرائز جنسية لازمة لبقاء نوعنا، وندرك بالفطرة ازدواجية المتضادَّات، ونُصدِر ردود أفعال
إزاء الرمزية الجنسية.
1،2 وقد أدَّت هذه الغرائز إلى ظهور مجازات واستعارات لفهم الطبيعة وتحولات
المادة قبل ٢٥٠٠ عام على الأقل في آسيا الوسطى، وشرقي آسيا، والأراضي التوراتية في
الشرق الأوسط، وفي بلاد الإغريق.
3
يُظهر الشكل
١-١ رمزًا من رموز الماندالا رُسم في إقليم التبت
الأوسط خلال القرن الخامس عشر.
4 تعود أصول الماندالات إلى الهندوسية التنترية والبوذية، وهي تمثيلات لتأمُّل
الكون. والرهبان البوذيون هم مَن يُشكِّلون الماندالات في الغالب من الرمال الملوَّنة
على
مدار أيام، ثم يتأمَّلونها، ليُعيدوها إلى البحر بعد ذلك، في فعل رمزي يُعبِّر عن إثراء
حياة
المرء الدنيوية بالفكر بدلًا من مراكمة الثروات المادية الخادعة والزائلة. تتمثَّل إحدى
العناصر المِحورية للماندالا الشرقية في الدائرة التي تُمثِّل الوحدة والاكتمال. كذلك
تفصل الدوائر مجالات مثل السماء والأرض. ويُمكن أيضًا تشبيه صور الدائرة بالأفكار البالغة
القدم عن بقاء المادة. وفي موضع لاحق من هذا الكتاب، سنُقابل الأوروبوروس، وهي أفعى تُشكِّل
دائرة بجسدها من خلال الْتِهام ذيلها، حتى وهي تُعيد توليد نفسها. وفِعلُ إلقاء الرمال
التي تُشكَّل منها الماندالات إلى البحر مرة أخرى يشير ضمنًا إلى كلٍّ من بقاء المادة
ودورة
الحياة. وبطبيعة الحال، تَحمل دائرة الماندالا بداخلها مربعًا مُحاطًا بأربع بوابات
تُمثِّل الاتجاهات الأصلية (الشمال — الذي يقع ناحية اليمين في هذه الصورة — والجنوب،
والشرق، والغرب). وتقود هذه البوابات الأربع إلى دائرة داخلية تقطنها أربعة آلهة. على
الجانب الخارجي لهذه الدائرة، توجد أربع إلهات مُنتظِمة في مصفوفة رباعية متكاملة (شمال
شرق، جنوب شرق، جنوب غرب، وشمال غرب). وهذه الازدواجية الذكورية الأنثوية ممثلة كذلك
بجسدَي ذكر وأنثى (أم وأب) خارج الدوائر الأكبر في أوضاع عناقٍ جنسي. أما العناصر
الأربعة، التي يُرمَز إليها شيوعًا بمربع، فتُمثِّل في الواقع أزواج الخواص المتضادَّة؛
السخونة في مقابل البرودة، والجفاف في مقابل الرطوبة. وعليه فإن النار ساخنة وجافة،
والمياه باردة ورطبة. ويُصوِّر مركز هذه الماندالا البوداسف (أي «الكائن المستنير»)
فاجراباني ممسكًا بالصاعقة في يدٍ وقابضًا على أفعى في اليد
الأخرى.
4 ويمكن تشبيه مركز الماندالا بالعنصر الخامس
القديم، وهو الأثير.
يملك آدم ماكلين رؤيةً مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالماندالات الخيميائية الغربية.
5 يُحلِّل ماكلين ٣٠ صورة من الخيمياء الباطنية في نصوص أوروبية تعود في الأغلب
إلى القرن السابع عشر. ورغم أن كثيرًا من هذه الرسومات تضمُّ الأشكال الدائرية والمربعة
كما في الشكل
١-١، فإن ثَمَّةَ أشكالًا أخرى لا تشبه الماندالات
الشرقية إلا في الجوهر، ولكنها لا تشبهها في الشكل. على سبيل المثال، يَعتبر ماكلين
الشعار المدرج في كتاب ليبافيوس «الخيمياء» الذي يعود إلى عام ١٦٠٦ (انظر الشكل
١-٢٢ في مقال لاحق) ماندالا.
6 وبناءً على ذلك، فإن الشكل
١-٢، للفنانة ريتا إل شوميكر،
7 يحوي كذلك العناصر الجوهرية الأساسية المُميِّزة للماندالا. فنجد التراب
والماء والهواء مصوَّرة بوضوح بمجالات دائرية بينما تخترق النار هذه المجالات. وأما
الثنائيات، فمُصوَّرة بحمائم داكنة وفاتحة وتنانين أيضًا. وتشير البذور النامية في الأرض
إلى تكاثُر المعادن. وفي المقال التالي، سنعرض لمزيد من الاستعارات الملموسة للعناصر
الأربعة القديمة.
(٢) العناصر الأربعة القديمة
تُوظِّف لوحة مرسومة بالألوان الزيتية على الخشب عام ١٧٤٧ موقعة باسم يوهان فينكلر
8 (الشكل
١-٣)، بحسٍّ مبهج، رموزًا خيميائية وروحانية
ودينية مميزة لعقائد جماعة الصليب الوردي. يتصدَّر اللوحة أربعة رؤساء لأديرة رهبان ترمز
أنشطتهم إلى التراب والنار والهواء والماء. وهم مُنظَّمون بالترتيب المناسِب للخواص
المتضادَّة؛ البرودة مقابل السخونة، والرطوبة مقابل الجفاف؛ ومن ثَمَّ فالماء رطب وبارد،
والنار جافة وساخنة، والهواء (مع اعتبار البخار) ساخن ورطب، والتراب بارد وجاف:
أما صورة كيوبيد (أو ميركوريوس)، فيقول عنها عالم النفس كارل يونج إنها تُمثِّل
«راميَ السهام الذي يُذيب الذهب كيميائيًّا، ويخترق الرُّوح بسهم الحب معنويًّا.»
9 في كتاب «الاقتران الكيميائي»، يُصوَّر كريستيان روزنكروتس وقد أصابه سهم
كيوبيد بعد تعثُّره في فينوس العارية.»
9 ويحوز كلٌّ من
فينوس ورؤساء الأديرة الأربعة وعاءً يحوي الصبغة الحمراء، التي تُمثِّل عامل التحويل،
أو حجر الفلاسفة،
10 أو مرحلة أولية من الحجر.
11 وربما لا تُمثِّل القلاع شيئًا سوى القلاع، أو ربما ترمز إلى فرن التنور أو
فرن الفلاسفة الذي يَحمل بيضة الفلاسفة المُحْكَمة الغلق.
12 ويُمثِّل زوج الحمائم «البياض» أو اللون الأبيض الذي يَتبع مرحلة «السواد»،
أو ذلك اللون الأسود الأوَّلي الناتج من العمل العظيم؛ فبدايةً تُسخَّن المعادن
والمواد الأخرى لتكوين كتلة سوداء. وقد يُؤدي الاستمرار في التسخين عقب ذلك إلى تكليس
هذه الكُتلة فتنتج كلسًا أبيض. والآن، إذا كان ذلك الطائر الطويل الذيل المربوط بحبل
في يد
أحد رؤساء الأديرة طاوسًا، فإننا نَعتقِد أنه يُمثِّل المرحلة الثالثة من تغيُّر لون
العمل العظيم، ألوان قوس قزح. أما اللون الرابع والأخير، فهو اللون الأحمر الداكن
للصبغة الحمراء، والذي تُمثِّله في هذه اللوحة الأنابيق الأربعة الممتلئة، والتي يساوي
حجمها ملء قدح. كذلك يرمز طائر العقاب إلى هذا اللون الأحمر الداكن الأخير من العمل
العظيم، إلا أننا لا نرى طائر عُقاب يَرتفع (أو نافق) في هذه اللوحة. كذلك لا يوجد أثر
لأيِّ غربان، لذا دعونا نفترض أن الفحم أو الرماد المتصاعِد من فرن التنور يرمز إلى
«السواد».
يَجمع أتباع أخوية الصليب الوردي بين المعتقدات الدينية والباطنية والخيميائية.
13 وعلى الرغم من أن تاريخ أولى كتاباتهم يعود إلى بدايات القرن السابع عشر،
فإن أصول عقيدة أخوية الصليب الوردي تُنسَب عمومًا إلى كريستيان روزِنكروتس (مشتق من
كلمة «روزي كروس» أو الصليب الوردي)، الذي يُزعَم أنه وُلِد عام ١٣٧٨، فيما يَعتبر البعض
الطبيب والخيميائي باراسيلسوس الذي عاش في أوائل القرن السادس عشر هو المؤسِّس الحقيقي
لهذه الجماعة. ويبدو أن الخيميائي مايكل ماير كان أحد أعضاء أخوية الصليب الوردي.
14
وقد تُترجم الإشارات الموجودة في أسفل يمين اللوحة السابقة كالتالي:
- (١)
إنني أبحث هنا في الماء.
- (٢)
لا بد للهواء أن يمنحني.
- (٣)
إنني أبحث في التراب.
- (٤)
لا بد للنار أن تُسخَّر لي.
- (٥)
شيء ما هنا أيها الحمقى، هنا في الماء والهواء والتراب. ألا بحثتم في
النار بهمة؟
- (٦)
فيظهر كل ما هو كامن بداخلها فجأة.
(٣) أعداد ذات دلالات باطنية ومقدسة
ثَمَّةَ أرقام معينة بسيطة ظلَّت لقرون يُنسب إليها دلالة
15 رمزية عظيمة في الخيمياء؛
16 فالرقم واحد يُشير إلى الرب أو الله في الديانات التوحيدية، وكذا إلى المادة
الأساسية — أصل كل المواد. وأما العدد اثنان، فيدلُّ على جوهرَي الذكر والأنثى (الأضداد؛
الزئبق والكبريت) اللذَين يدخلان في تكوين كل الأشياء. أما العدد ثلاثة، فيَرمز إلى
المواد الثلاث الأساسية (الزئبق، والكبريت، والملح؛ الروح، والنفس، والجسد)، والتي
تُمثِّل بدورها الجوهر الثالث الذي زادَه باراسيلسوس (١٤٩٣–١٥٤١) على جوهرَي الذكورة
والأنوثة، ويُمثِّل أيضًا الثالوث المقدَّس (الأب، والابن، والروح القدس). وأما الرقم
أربعة، فكما ذكرنا في المقالين السابقين، فيشير إلى عدد العناصر القديمة (التراب،
والماء، والهواء، والنار)، والتي يَنطوي كلٌّ منها على سمتَين أو خاصتين متضادتين؛
السخونة والبرودة، والجفاف والرطوبة. كذلك يرمز إلى الفصول الأربعة والاتجاهات الأصلية
الأربعة وقد أدخل أرسطو عنصرًا «خامسًا»، وهو الأثير، ويُمثِّل السماوات أو الأثير
السماوي. وتُوجَد المعادن السبعة التي عرفها القدماء (الفضة، والذهب، والحديد، والنحاس،
والزئبق، والقصدير، والرصاص) يوافقها في العدد «الكواكب» المرئية (القمر، والشمس،
والمريخ، والزهرة، وعُطارد، والمشتري، وزحل)، وكذا أيام الأسبوع. وثمة الأبراج الفلكية
الاثنا عشر تُوافقُها عدة شهور السنة، والتي أَقْرن الخيميائي الإنجليزي جورج ريبلي،
كاهن
بريدلينجتون، كلًّا منها ﺑ «البوابات» أو العمليات الاثنتي عشرة القائمة على الطريق نحو
تكوين حجر الفلاسفة.
16 وقد كانت هذه المراحل
كالتالي:
16،17
(١) التكليس (تفاعُل النار مع المعادن في الهواء). |
برج الحمل. |
(٢) التخثر (زيادة الكثافة بالتبريد). |
برج الثور. |
(٣) التثبيت (تحويل مادة طيارة إلى الحالة الصلبة أو السائلة). |
برج الجوزاء. |
(٤) الإذابة (تذويب المواد أو تفاعلها). |
برج السرطان. |
(٥) التهضيم (تعريض المادة لحرارة مستمرة؛ دون غليان). |
برج الأسد. |
(٦) التقطير (ارتقاء المادة السائلة وهبوطها). |
برج العذراء. |
(٧) التسامي (ارتقاء المادة الصلبة وهبوطها). |
برج الميزان. |
(٨) الفصل (عزل السوائل غير القابلة للذوبان). |
برج العقرب. |
(٩) التشميع (تحويل مادة صلبة إلى حالة لينة). |
برج القوس. |
(١٠) التخمير (تنشيط مادة ما بالهواء). |
برج الجدي. |
(١١) المضاعفة (زيادة فاعلية حجر الفلاسفة). |
برج الدلو. |
(١٢) الإسقاط (نشاط حجر الفلاسفة الغامض). |
برج الحوت. |
يضرب بازيل فالانتاين (بمعنى «الملك الشجاع»)، والذي يُفترَض أنه وُلِد في عام ١٣٩٤،
مثلًا مُحيِّرًا في التزييف الأدبي.
18 فيبدو أن ثَمَّةَ اتفاقًا عامًّا إلى حدٍّ ما على أن الشخص الذي «حرر» أعمال
بازيل فالانتاين هو في الحقيقة شخص يعمل في مجال النشر وفي إنتاج الملح مِن غلْي الماء
المالح، ويُدعى يوهان ثولده، عاش بين القرنين السادس عشر والسابع
عشر.
18 وأيًّا من كان بازيل فالانتاين؛ فقد كان ضليعًا
في كيمياء عصره،
18 وقام بوصف اثني عشر مفتاحًا أو عملية
تُحدد ملامح العمل العظيم. (انظر الشكلين
١-٤ و
١-٥) المأخوذين من كتاب «مكتبة علم الكيمياء المثيرة»
19 لماجنيت، الذي نُشِر عام ١٧٠٢.
يُشير المفتاح الأول إلى الاقتران الكيميائي؛ إذ يرمز إلى إنتاج المواد الأولية لإعداد
حجر الفلاسفة.
20،21،22 يُمثِّل الذئب كبريتيد الأنتيمون، وهو مركب يفيد في فصل الذهب عن المعادن
الأخرى. [ثَمَّةَ شكل متعلِّق بهذه العملية ورد في كتاب مايكل ماير المنشور عام ١٦١٨
«مقطوعات أتلانتا» (انظر الشكل
١-١٧) وسنتعرَّض له بالشرح لاحقًا.]
وأما الرجل العجوز، فربما يُمثِّل كوكب زحل (معدن الرصاص)، والذي يساعد على فصل الكبريت.
يُمثِّل المفتاح الثاني الفصل المائي، فيما يصور المفتاح الثالث التنين بوصفه «المادة
الأولية»، ويشير إلى دورة تبخير وتثبيت دائرية.
22 ويرمز
المفتاح الرابع إلى الانحلال، وهو عملية تسخين بالنار، نعرفها الآن بأنها تحميص للمعادن
الخام، ينتج عنه أكسدة مُختلطة وفوضوية للكبريتيد الخام ليتحول إلى كتلة سوداء. ويُعتبر
المفتاح الخامس رمزًا لعملية الإذابة (لكن هذا بطبيعة الحالة يمكن أن يدلَّ على وجود
تفاعلات كيميائية). ويُمثِّل المفتاح السادس الارتباط؛ ذلك الاقتران الكيميائي بين
الكبريت الفلسفي (الملك) والزئبق الفلسفي (الملكة). ويُمثِّل المفتاح السابع نوعًا من
الماندالا الكيميائية،
23 وترمز إلى العناصر الأرضية الأربعة، والأثير، والمواد الجوهرية الثلاثة
التي صنَّفها باراسيلسوس. وأما المفتاح الثامن فهو مشهد بعث يُرمز إليه بغرس بذرة.
وحسبما أشار جون ريد،
16 إذا كان الانحلال (المفتاح الرابع)
يقترن بالأكسدة، فإن العملية العكسية لإعادة تخليق الفلزات أو بعثها تتطابَق مع عملية
الاسترجاع (الإعادة، أو الاسترداد) وعودة أرواحها. يُشير المفتاح التاسع إلى المواد
الجوهرية الثلاث، والعناصر الأربعة القديمة، والألوان الأربعة المتتالية في العمل
العظيم بترتيب تصاعُدي؛ الغراب (اللون الأسود، عملية الانحلال)، البجعة (الأبيض، عمليات
التكليس)، الطاوس (الأصفر أو ألوان قوس قزح)، والعنقاء الحمراء (وترمز إلى الصبغة
الحمراء أو حجر الفلاسفة). ويُمثِّل المفتاح العاشر «المواد الثلاث الأساسية»، وقد
تناوَلناها بالشرح فيما سبق.
20–22 وقد تُمثِّل الكتابة
العبرية آية في سفر المزامير، لكن ربما مع إحلال بعض حروف الكابالا محل الحروف الأصلية.
24 ويَرمز المفتاح الحادي عشر إلى عملية المضاعَفة، وأما المفتاح الثاني عشر
والأخير، فيُشير إلى عمليات التكليس، من خلال النيران الغامضة في برميل الخمر، فيما
يُرمَز إلى عملية تثبيت المواد الطيارة بأسدٍ (الكبريت) يلتهم ثعبانًا
(الزئبق).
20–22
(٤) السحر الطبيعي: تحولات المستذئبين والفلزات
في دراسة إثنوجرافية أيرلندية تعود إلى القرن الثاني عشر من تأليف جيرالد الويلزي،
نجد وصفًا لمحادثةٍ دارت بين كاهن وذئب متكلِّم في البرِّيَّة، يتوسَّل للكاهن أن يَمنح
المناولة المقدَّسة لزوجته المحتضِّرة.
25 فيستجيب الكاهن لتوسُّلات المُستذئب، ويعتمد النقاش حول ما إذا كان هذا الفعل
تدنيسيًّا من عدمه على طبيعة الكائن — هل هو هجين بحقٍّ (مثل كائن الجريفين)، أم إنسان
في
هيئة ذئب، أم أنه متحوِّل الهوية تمامًا؟ كيف لبشر أن يتحوَّل ليُصبح ذئبًا؟ ما مقدار
الإنسانية المتبقية لديه؟ هل كان الرجل «مذءوبًا» قبل أن يتعرَّض لأي تغيير؟
26 تتناول المؤرِّخة كارولين ووكر باينوم مفهومَي «الهوية» و«التغير»، وتفترض
أنه في العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر، سيطر على الثقافة الأوروبية تصوُّرٌ
مفاهيميٌّ مفادُه أن التحول الشكلي يحدث تدريجيًّا وليس
فجائيًّا.
25 على سبيل المثال، تُقارن باينوم بين رواية
العهد الجديد عن تحوُّل شاول المفاجئ من مُضطهِدٍ للمسيحيين إلى القديس بولس الرسول —
حواريِّ المسيح — بتلك الرواية التي تعود إلى القرن الثاني عشر والتي تُصوِّر تحوُّله
التطوري البطيء والمُبرَّر وهو في طريقه إلى دمشق.
25 ويُمثِّل
التحول الشكلي عملية أكثر ديناميكية وتعقيدًا من ذلك التغيُّر الإعجازي المفاجئ، أو مجرد
اتخاذ مظهر هجين ثابت. كذلك اتخذت قصص التحول القديمة، بما فيها القصص الفلكلورية عن
المستذئبين، معاني جديدة نحو نهاية القرن الثاني عشر.
25
فكانت حالات التحول الشكلي توجد في كل مكان في الطبيعة من حولنا؛ فالمادة الغذائية في
البذرة تُصبح شجرة، والطعام «يتحوَّل» إلى دم وعصارة. ومن الثقافات الشرق أوسطية أتت
عمليات معقَّدة، ذات طابع روحاني في الغالب، من أجل تغيير تدريجي للمادة، صارت فيما بعد
تُشكل مجمل الخيمياء.
كان التلاقح الفكري ناتجًا ثانويًّا محمودًا لسلسلة من الحروب الصليبية المروِّعة
بدأها
البابا أوربان الثاني في عام ١٠٩٥ ميلاديًّا لتخليص كنيسة القبر المقدس في القدس من
قبضة المسلمين.
27 وسقطت القدس في أيدي الصليبيين في عام ١٠٩٩، الذين همُّوا بذبح سكانها من
المسلمين واليهود. استمرت سيطرة الصليبيين على الأراضي المقدسة تتزايد حتى مجيء حاكم
مسلم قوي، وهو عماد الدين بن زنكي، الذي استعاد مدينة إديسا (في مقدونيا). وانهزم
الصليبيون في حملتهم الثانية في عام ١١٥٤ على يد نور الدين خليفة عماد الدين بن زنكي.
ومع حلول عام ١١٨٧ وقعت القدس في قبضة صلاح الدين الأيوبي ابن أخي نور الدين، وسقطت
معها كل معاقل المسيحيين في الأرض المقدسة تقريبًا. وشُنَّت حملة صليبية ثالثة في العام
١١٨٩، وحقَّقت نجاحات عسكرية كبيرة. وعلى الرغم من أن الملك ريتشارد الأول (ريتشارد قلب
الأسد) فشلَ في بلوغ القدس، فقد وقَّع معاهَدة سلام في عام ١١٩٢ مع صلاح الدين الأيوبي.
غير أن هذه الاتفاقية سُرعان ما انهارت وشُنَّ المزيد من الحملات الصليبية، بما فيها
حملة
الأطفال الصليبية المُحزنة التي شُنَّت في العام ١٢١٢، واستمرت هذه الحملات حتى حوالي
عام ١٢٧٠ مع خسارة لويس ملك فرنسا للحملة الثامنة والأخيرة.
ومن آثار العمل الإنساني التي جلبَتْها الحملات الصليبية إلى أوروبا الممارسات الطبية
لجابر بن حيان، والرازي، وابن سينا، وتصديق الدوائر الثقافية في ظاهرة التحول الشكلي
—
أو تحوُّل الفلزات — الخيميائية. و«جابر» هو اسمٌ يعود إلى القرن الرابع عشر، ونُسِبَ
إليه عدد من الأعمال، يُمكن نسْب أجزاء منها إلى عالِم الفيزياء والخيميائي جابر بن حيان
الذي عاش في القرن الثامن الميلادي (٧٢١–٨١٥ تقريبًا)، والذي وُلِد في الجزيرة وتلقَّى
تعليمه في العراق كما نعرفها اليوم. ويَنسِب البعض مبدأ أنَّ الفلزات كافة تتكوَّن من
مزيج
من الزئبق والكبريت إلى جابر بن حيان.
28 ويُقال إنَّ كتاب «نهاية الإتقان»، الذي كان من الأعمال المؤثرة في القرن
الثالث عشر، والذي يُنسَب إلى «جابر» (أو مَن يشير إليه مؤرِّخو علم الكيمياء ﺑ «جابر
الزائف» تجنبًا للالتباس) قد وصَف إجراءات لتمييز الفلزات وتنقيتها.
29 الشكل
١-٦ مأخوذ من أوائل الكتب المطبوعة التي
استعانت بالأشكال المصنوعة من الصَّفائح النحاسية ويزعم أنه صورة جابر (جابر الزائف أم
جابر بن حيان؟) في المعمل.
30 أما ابن سينا (أبو عليٍّ الحسين بن عبد الله بن سينا، ٩٨٠–١٠٣٧)، فكان
طبيبًا فارسيًّا عُرف بسعة المعرفة والتبحُّر في العلم. وقد نُسِبَ إليه أيضًا أعمالٌ
تعود إلى أوائل عصر النهضة، ويُشير مؤرخو الكيمياء إلى مؤلِّف هذه الأعمال بابن سينا
الزائف.
29 الشكل
١-٧ مأخوذ من
مخطوطة تعود إلى القرن الحادي عشر، ويُزعم أنه يُظهر ابن سينا وهو في خضمِّ تحضيراته
الطبية.
يَنطوي التحول — بحسب الأستاذة باينوم — على التغيُّر من شكل إلى آخر، مع الإبقاء
على
سمة أو جانب مُشتركين.
25 على سبيل المثال، تروي
باينوم
26 رواية الشاعر أوفيد عن عقاب الإله زيوس للملك
لايكون، الذي كان يُمارس الاستبداد والظلم على رعاياه، وحاول أيضًا قتل زيوس. وعلى الرغم
أن لايكون قد تحوَّل إلى ذئب شكلًا وموضوعًا
26،31 (الكلمة اليونانية «لايكوس» تعني «ذئب»):
إنه يتحوَّل إلى ذئب، ولكنه يَحتفظ ببعض من آثار شكله السابق، فله نفس الشعر
الرمادي، ونفس الوجه الحاد الملامح، ونفس العينين المتلألئتين، ونفس المظهر
البربري المتوحش.
تَذكُر باينوم أن «التعطُّش للدماء والتلذُّذ
بالقتل»26 — ما يُمكن القول بأنهما «جوهر شخصية الذئاب»
— كانتا سمتين مشتركتين بين الملك لايكون والذئب.
إنَّ فكرة أن الفلزات يُمكن أن تتحوَّل فيأخذ بعضها أشكال بعضٍ فكرة غريبة علينا
تمامًا في
عَصرنا هذا. ومع ذلك، من المهم أن نتذكَّر أنه منذ مئات السنين، لم يكن يوجد مفهوم حقيقي
للعناصر، وكانت الفلزات تُوجد بوجه عام في حالات مختلفة من النقاء. فكانت السبائك،
كالبرونز (الذي يتكون من النحاس والقصدير)، ومركب البيوتر (الذي يتكون في إحدى تركيباته
من الرصاص والقصدير) تَحتفِظ على نحو سَلِس بالخواص الفلزية؛ فيما يُعدُّ شكلًا من التحول
أو
التغيُّر بإيقاف الحركة. وقد دلَّلت الطبيعة الجوهرية للفلزات — اللَّمعان، وقابلية الطرق،
والقدرة على التوصيل الحراري — على وجود جانب مشترك (أو مادة مشتركة)؛ ألا وهو «ماهية
الفلزية». وعليه، فلدينا يوهان يواكيم بيشر — الذي عاش في القرن السابع عشر — الذي كان
يعتقد أن كل الفلزات تحتوي على الزئبق،
32 فيما ذكر كيميائي آخر مُهمٌّ من نفس الحقبة، وهو يوهان كونكل، أنه قد استخلص
الزئبق من كل الفلزات.
33 ويا لسحر ذلك الزئبق، بجوهره الفلزي المتطاير الخارق لأي معدن؛ فالزئبق
يذيب الذهب وفلزات أخرى، بحيث تتغيَّر طبيعتها ومظهرها تمامًا عند التملغم. ويَعمل تسخين
الملغمة على تقطير الزئبق وإعادة الفلز إلى حالته السليمة، إن لم يكن أكثر نقاءً. ولك
أن تتخيَّل أن كثيرًا من عيِّنات الفلزات «النقية» تحتوي على بعض من شوائب الزئبق نتيجة
لتاريخها؛ ومن ثَمَّ يكون استخراج بقايا زئبق من عيِّنة مختلَطة غير نقية من الذهب أمرًا
معقولًا إلى حدٍّ ما.
يُبيِّن الشكل
١-٨ الصورة الجميلة الرائعة التي زيَّنت صدر الطبعة
الإنجليزية الأولى — التي نُشرت عام ١٦٥٨ — من كتاب «السحر الطبيعي» لجيامباتيستا ديلا
بورتا.
34 نُشر الكتاب بدايةً باللغة اللاتينية في أربعة «مجلدات» عام ١٥٥٨، زادت إلى
عشرين مجلدًا عام ١٥٨٩، ونُشرت منه طبعات عديدة باللغات الإيطالية والفرنسية
والهولندية، بالإضافة إلى الترجمة الإنجليزية. بل يزعم بورتا نفسه وجود ترجمتين
بالإسبانية والعربية من الكتاب.
35 أما كتابه «التقطير» (١٦٠٨)، فيبدأ بعبارات تقدير وعرفان له باللغات
العبرية، واليونانية، ولغة الكلدو، والفارسية، والإيرلية، والأرمنية، بالإضافة إلى لوحة
مرسومة رائعة للمؤلف.
36 بالمثل، تُمجِّد الصورة الموضحة في الشكل
١-٨ في ذات
بورتا؛ إذ تضعه، فيما يبدو، جنبًا إلى جنب مع العناصر الأربعة القديمة، وعلم الأكوان
الفلكي، وروحَي الفن والطبيعة اللذَين يُشكِّلان أساس «السحر الطبيعي». في الواقع، كانت
لبورتا (من ١٥٣٥–١٦١٥ تقريبًا) اهتماماتٌ عِلمية واسعة النطاق، لا سيما بالفيزياء.
وغالبًا ما يُنسب إليه تصميم «الكاميرا المظلمة»، ووضع تصميم لمحرك بخاري. علاوة على
ذلك، ألَّف بورتا «بعضًا من أفضل الأعمال الكوميدية الإيطالية في
عصره.»
36 ومع ذلك، فإن قدرًا كبيرًا من محتوى كتاب
«السحر الطبيعي» مُستقًى من كتاب «التاريخ الطبيعي» للكاتب الروماني القديم بليني، الذي
كان لديه إيمانٌ شبه تام هو الآخر ﺑ «السحر
الطبيعي».
35
وفيما يلي مقتطفان مقتضَبان من «المجلد الخامس من كتاب السحر الطبيعي»، الذي يتناول
علم الخيمياء، موضحًا كيفية تبدُّل الفلزات فيما بينها وتحوُّل أحدها إلى الآخر»:
37
عن الرصاص وكيفية تحويله إلى معدن آخر
اعتاد الكتَّاب القدماء المُلمُّون بطبيعة الفلزات تسمية القصدير بالرصاص
الأبيض، وتسمية الرصاص بالقصدير الأسود، مما يشير ضمنًا إلى تآلف الخواص
الطبيعية لهذَين المعدنين، وأنهما يَتشابهان كثيرًا؛ ومن ثَمَّ قد يسهل تحوُّل
أحدهما إلى الآخر. ولذلك فليس من الصعب إطلاقًا أن تُغيِّر القصدير إلى الرصاص.
تحويل الرصاص إلى قصدير
يُمكن تحقيق ذلك فقط من خلال غسل الرصاص؛ فإنك إذا غسلت الرصاص بالماء عدة
مرات؛ أي إنك إذا صهرته، بحيث تزول منه المادة الأرضية الغليظة، فإنه سيتحول
إلى قصدير بكل سهولة؛ إذ إن نفس الزئبق الذي جُعِل منه الرصاص مادة نقية رقيقة
أول مرة، قبل أن يلتقط هذه المادة الأرضية التي تجعله ثقيلًا للغاية، يظل
موجودًا في الرصاص — حسبما لاحظ جيبروس؛ وهذا هو السبب وراء أصوات الصرير
والطقطقة التي عادةً ما تَصدُر عن القصدير، والتي تُميِّزه على نحو خاص عن الرصاص؛
ومن ثَمَّ حين يفقد الرصاص تلك الغلظة الناتجة عن المادة الأرضية، التي غالبًا
ما تزول بالانصهار، وحين يُصدِر الرصاص صوت القصدير، الذي يستطيع الزئبق أن
يتفاعل معه بسهولة، لا يُمكن حينئذٍ التفرقة بين الرصاص والقصدير؛ إذ يتحوَّل
الرصاص إلى قصدير.
لاحظ بعض النقاط المثيرة هنا؛ فالزئبق مشترك ما بين القصدير والرصاص،
وإزالة الشوائب الأرضية من الرصاص هو سلسلة من العمليات المؤدية إلى التحوُّل؛ ومن ثَمَّ
فإن عملية تحول الرصاص إلى قصدير تحوي الجوانب الأساسية لعملية التحول الشَّكلي ما بين
المستذئبين والبشر، مع الاحتفاظ بسِمَةٍ مشتركة بينهما؛ ألا وهي «ماهية الفلزية» التي
يُضفيها الزئبق على الفلز. والنقطة المثيرة هنا هي أن إثبات هوية المعدن ليس في الكثافة،
أو نقطة الانصهار، أو التفاعلية الكيميائية، وإنما في الأصوات الصادرة عنها خلال عملها
الميكانيكي!
(٥) ألبرت الكبير و«ألبرت الصالح»
نحو نهاية العصور الوسطى (حوالي ٥٠٠–١٤٥٠)، جمع المفكرون الأوروبيون مجموع المعارف
التي كتبها القدماء، ودمجوها مع المعارف التي اكتسبوها من الحضارات الإسلامية إبان
الحملات الصليبية، وبدءوا في تطوير طرقٍ للبحث كان من شأنها البدء في تحديد ملامح العلم
الحديث. وكان أحد أبرز الشخصيات التي شاركَت في هذا الأمر ألبرتوس ماجنوس (حوالي
١٢٠٠–١٢٨٠ ميلاديًّا).
38 وُلِد ماجنوس في شوابيا (الواقعة في جنوبي غرب ألمانيا)، وتلقَّى تعليمه في
جامعة بادوا، وهناك تعرَّض لأول مرةٍ للمعتقدات الدومينيكية واعتَنَقها. وبعد ترسيمه
أسقفًا، أُرسِل ألبرت إلى الدير الدومينيكاني في جامعة باريس في وقت ما قبل عام ١٢٤٥.
وهناك تعمَّقَت قراءاته في النصوص العربية وكتابات أرسطو، وبدأ في شرح علم الفيزياء
القديمة وغيرها من العلوم، وكتابة مُلخَّص للمعرفة الإنسانية. وكان معروفًا أيضًا بلقب
«ألبرت الكبير» حتى في حياته.
38 أُعلن ألبرتوس قديسًا في
عام ١٩٣١، وأعلن قديسًا شفيعًا للعلوم الطبيعية بموجب مرسوم بابوي في عام ١٩٤١. وكان
القديس توما الأكويني أحد طلاب ألبرت في جامعة
باريس.
38
نُسِبَ العديد من الكتب خطأً إلى ألبرت الكبير، والقليل جدًّا من هذه الأعمال يبدو
أنها مُستقاة فعليًّا من كتاباته الأصلية.
39 الشكلان
١-٩ و
١-١٠ من الطبعة
المصورة الصادرة عام ١٥١٨ من أحد أعماله الأصلية القليلة عن الخيمياء وعلم الفلزات.
40،41 يصور الشكل
١-٩ خيميائيًّا يُجري عملية تقطير. والشكل
١-١٠ من آخر صفحة في الكتاب — وهي مفقودة في أغلب النسخ —
وتتضمَّن قصيدة عن الخيمياء من ستة أبيات.
41
كان استدعاء اسم ألبرتوس ماجنوس أو حتى ذكر إشارات مثيرة للاهتمام تدل ضمنيًّا على
وجود صلة بذلك العبقري المبجل الذي عاش في القرون الوسطى وسيلة فعالة لبيع الكتب. وفي
الشكل
١-١١(
a)، نرى صفحة عنوان من
نسخة معادة طباعتها في القرن التاسع عشر من «كتاب السحر الطبيعي المذهل» الذي كتبه
«ألبرت الصغير» أو «ألبرت بارفوس»، والذي نُشِر للمرة الأولى في عام ١٦٦٨.
42،43 (لقد استخدمت اسم «ألبرت الصالح»؛ لتجنُّب أي خلط محتمل بألبرت الكبير،
ولأن ذلك قد يكون أقل إهانةً من «ألبرت الصغير»). ورغم ما يقال عن أن هذا الكتاب
«مجموعة معروفة من الغرائب والمستحيلات المتعلقة بالسحر»،
43
فإن حقيقة أن الكتاب أعيدت طباعته على مدى قرنين ليسَت بالشيء المُنتقِد بالتأكيد. كم
دار
نشر سواء، كانت جامعية أو تجارية، يُمكنها أن تطالب بإصدار كتاب حقَّق أعلى مبيعات كهذا؟
الأشكال
١-١١(
b)،
١-١١(
c)،
١-١٢(
a–d) تُصوِّر الآلهة في عربات النصر، ممثِّلين
المعادن الستة القديمة إلى جانب الذهب: فينوس (النحاس)، جوبيتر (القصدير)، ساتورن
(الرصاص)، ميركوري، لونا (الفضة)، ومارس (الحديد).
وفيما يلي وصفة ألبرت بارفوس لصناعة معجون الأسنان:
44
خذ دم تنِّين وثلاث أونصات من القرفة، وأونصتين من الألومنيوم المكلسن؛ اسحق كل
ذلك ليُصبح مسحوقًا ناعمًا للغاية، ونظِّف به أسنانك مرتين يوميًّا.
إنها لنصيحة سليمة وتركيبة جيدة؛ لكن من أين لك بذاك المكون الأول؟
(٦) من حكايات كانتربري عن الخيمياء
هل كان أعظم شعراء إنجلترا جهبذًا حقيقيًّا، أم أنه كان مجرد بارعٍ في كتابة الأبيات
المقفَّاة؟ تتضمن «حكاية خادم القُمُّص» لجيفري تشوسر (١٣٤٠–١٤٠٠ تقريبًا) معرفة
مفصَّلة بالعمليات الخيميائية،
45 حتى إنَّ إلياس أشمول
46 أدرج هذا العمل في كتابه «أدب الكيمياء الإنجليزي» — الذي نُشر عام ١٦٥٢ —
بين أعمالٍ أخرى لآخرين من «أشهر الفلاسفة الإنجليز الذين كتبوا «طقوس الهرمسية» في
لغتهم القديمة الخاصة.»
47 ويُظهر كلٌّ من الشكلين
١-١٣ و
١-١٤
رسومًا من كتاب «أدب الكيمياء الإنجليزي». في الشكل الأول، يناول الخبير الأعظم أسرارًا
متعلقة بالخيمياء للخيميائيِّ الشاب قائلًا: «تناول منحة الرب مختومةً بالخاتم المقدس.»
48 أما الشكل التالي، فيُظهر معملًا مُمَوَّلًا تمويلًا جيدًا يجري فيه العمل
على قدم وساق، في إشارة إلى أن الخبير الشاب قد أَوْلى اهتمامه بالفعل للحصول على مشورة
أكاديمية جيدة. وقد بات ناجحًا بعد سنوات في الحصول على المعونات والمنح، ويتقدم بخطًى
وئيدة نحو الترقي واعتلاء المناصب.
بحسب ما أشار خبير بحجم جون ريد، فقد «عاش تشوسر ذاته حياة مُكرَّسة لعمل لا جدوى
منه
بسرَّائها وضرَّائها.»
49 ونُضيف إلى هذه الأدلة المفصَّلة ذلك الدليل القاطع، ألا وهو مجموعة من
المخطوطات يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر في مكتبة كلية ترينيتي بجامعة دبلن بعنوان
«جيفري تشوسر وأعماله»، والذي يصف إجراءين خيميائيين للحصول على حجر الفلاسفة متبوعَين
بقصيدة في وصف الإكسير.
45
ومع ذلك، تُشير أبحاث جاريث دونليفي الدقيقة إلى أن هذه المخطوطات منحولة نُسبت إلى
تشوسر خطأً.45 فقد كانت الأعمال المنسوبة خطأً لجابر بن حيان، وألبرت الكبير، وأرنولد دي فيلانوفا،
وهرمس نفسه أساليب شائعةً لجذب الانتباه
خلال عصر النهضة. يُشير دونليفي إلى أنه في حين أن تشوسر ربما كان مُلمًّا بجوانب عامة
من الخيمياء، فإن التفاصيل الواردة في «حكاية خادم القُمُّص» قريبة الشبه بكتابات
أرنولد دي فيلانوفا.45؛ ومن ثَمَّ فإنه مُتشكِّك بشأن اشتغال
تشوسر بالخيمياء، لكنه يُشير إلى أن المخطوطة نفسها ربما كانت مملوكة في فترة ما لمكتبة
جون دي، الذي كان منجِّمًا، وعالم رياضيات، وخيميائيًّا خاصًّا للملكة إليزابيث
الأولى.45
والآن، عودةً إلى «حكايات كانتربري». تُهيِّئ مقدمة «حكاية خادم القُمُّص» المشهد.
القُمُّص، عالم دين، وفي هذه الحكاية يَشتغل كذلك بالخيمياء، يكون مسافرًا بصحبة خادمه
أو مساعده حين يلتقيان جماعةً من المسافرين على الطريق. يقوم مُضيف مجموعة المسافرين
بطرد القُمُّص، ويحكي الخادم المملوك ذو الوجه الرمادي الداكن من شدة الفقر، والذي
يتعرَّض لأسوأ استغلال من سيده، قصةً مريرة وساخرة عن الخدع الخيميائية. ويبدو القُمُّص
شبه «مدَّع» (فقد كان باحثًا جادًّا عن الحجر، لكنه ضل الطريق)، ونصف دجال.
عرض القُمُّص أن يُحوِّل مادة الزئبق الخاصة بأحد القساوسة إلى معدن الفضة الثمين
باستخدام مسحوق إسقاط غامض. وكان القُمُّص، في الواقع، قد وضع أونصةً من الفضة الخالصة
في ثقب في قلب كتلة من الفحم، وسدَّ الثقب بالشمع المسود. ويصف الخادمُ إغواءَ
القُمُّص للقسيس كالتالي:
ستشهد الآن بعين رأسك
أنني سأحوِّل هذا الزئبق إلى فضة.
حقًّا لن تلبث أن ترى ذلك على مرأى عينك.
سأصنع منه فضةً نقيةً جيدة،
لا تختلف عما في كيس نقودك أو كيسي.
يُخرج القُمُّص مسحوقه الغامض:
لديَّ مسحوق كلَّفني كلَّ غالٍ ونفيس،
سوف يأتي بالخير كله، فهو أساس
حيلتي، التي سأريك إياها الآن.
يقف القسيس الجشع والساذج مراقبًا، بينما يُخرج القُمُّص بوتقته
ويضعها في النار. فيصبُّ القسيس فيها الزئبق الذي يحمله ويُضيف القُمُّص بعضًا من مسحوقه،
ويقول الخادم بكلمات مريرة:
نزولًا على مشيئة ذلك القُمُّص اللعين
وضع القسيس مادته تلك على النار،
ثم نفخ في اللهب، وجلس مُنتبهًا إليها كل الانتباه،
ليُلقي القسيس في هذه البوتقة
مسحوقًا، لا أعلم إن كان مصنوعًا من
الطباشير، أم التراب، أم الزجاج،
أو ربما من شيء آخر، لا قيمة له.
وها هي خدعة القُمُّص:
هذا القسيس المخادع؛ تخطَّفته الشياطين:
أخرج من جعبته قطعةً من فحم الزان،
كانت مثقوبة ببراعة شديدة،
وفي الثقب وضع أونصة من برادة الفضة،
50
ثم سد الثقب بحِرفية
بالشمع، لئلَّا تنفرط منه برادة الفضة.
أخذ القسيس يُراقب النار بجدِّيَّة، فيما يصرف القُمُّص انتباهه إلى ما يحدث بالإشارة
إلى أنَّ قِطع الفحم المحترقة بحاجة إلى إعادة ترتيب على الموقد، ثم قدَّم له قطعةً من
القماش ليَمسح وجهه المبلَّل بالعرق. وما إن أُضيفَت كتلة الفحم المثقوبة الوسط، حتى
توهَّجت النيران توهُّجًا شديدًا؛ لينضمَّ القُمُّص بعد ذلك إلى القسيس ليَجرعا شرابًا.
وحين
يعود إلى النيران، يجد القُمُّص قطعة الفضة قد تكوَّنت فيُخرجها ويُقدِّمها للقسيس
الفرِح.
ثم تقع واقعةٌ أخرى؛ إذ يترك القُمُّص المحتال القسيس فعليًّا يُجري عملية التحويل
بنفسه. فيُعطي للقسيس عصا تقليب مجوفة، ولك أن تُخمِّن أنها كانت محشوَّة بأونصة من الفضة
المغلَّفة بالشمع المسودِّ. والآن، كان مسحوق الإسقاط يعمل تأثيره، دون أي تدخُّل من
جانب القُمُّص، لصالح القسيس نفسه. ثم يأتي القُمُّص بعملية أخيرة؛ إذ يُحوِّل النحاس
إلى فضة، تاركًا القسيس في نشوة من فرط الجشع المشوب بالفرح:
من كان أشد فرحًا من ذلك القسيس الأحمق؟
كان أكثر فَرِحًا من طائرٍ فرحٍ بطلوع النهار،
وأشد بهجةً من بلبل مُبتهج بموسم الربيع؛
لم يكن أحد أشد لهفة منه للغناء والطرب،
بل كان أكثر حماسًا من امرأة تُنشِد أناشيد الربيع.
دفع القسيس للقُمُّص أربعين جنيهًا، وهو مبلغ ضخم، مقابل أن يُعطيَه سرَّه (بما في
ذلك
المسحوق على حدِّ اعتقادي). لاحظ انعدام ثقة تشوسر في رجال الدين الذين كانوا يُعتبرون
شيوعًا فاسدين خلال عصر النهضة؛ ففي هذه الحكاية، يوجد رجلَا دين، أحدهما فقير عديم
الأمانة، والآخر ساذج فاحش الثراء.
يُمكننا أن نسمع القُمُّص وهو يقول للقسيس مودِّعًا إياه: «أعطيك ضمانًا باستعادة
كل
ما دفعت لي من مال! وإذا جئت إلى كانتربري في أي وقت … حاول أن تعثر عليَّ.»
(٧) سفينة الحمقى
في عام ١٤٩٤؛ أي قبل حوالي ٢٠ عامًا من الإصلاح البروتستانتي، نشر سيباستيان برانت،
51،52 الشاعر الألماني وعالم الإنسانيات، كتاب هجاء شعري طويلًا بعنوان «سفينة
الحمقى». وقد وصف بأنه «رجل ذو قناعات دينية راسخة وأخلاقيات صارمة، تصل إلى حد الاحتشام.»
53 يتخيَّل الكتاب مجموعة من «الحمقى» يُظهرون أعرافًا وتجاوزات ترُوق لقرَّاء
ذلك العصر من خلال التقليل من شأن أنماط شخصيات يَسهُل تمييزها. كانت السفينة المُحمَّلة
بهؤلاء الحمقى متَّجهة إلى «ناراجونيا»، أرض الحمقى. كانت لغة الكتاب سهلة الفهم، وكانت
الرسوم المطبوعة بالقوالب الخشبية (بعضها يَحتمل أن يكون لألبريخت دورر)
54 مُمتِعة وجذابة. وقد نُشر من الكتاب ستُّ طبعات في حياة برانت (وكانت أول طبعة
باللغة الإنجليزية في عام ١٥٠٩)، مع ظهور عديد من الطبعات الإضافية منها الأصلي ومنها
المزيَّف خلال عام ١٦٢٩.
55 وقد «أعيد اكتشاف» الكتاب مرةً أخرى بعد قرنين ونُشِرت منه طبعة في عام
١٨٣٩، وتوالت الطبعات على مدار القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين.
لم يكن برانت الذي اتَّسم بالتشدُّد يحمل تقديرًا كبيرًا للمُتع الحسية التي كانت
يسيرة
المنال في شوارع بازل، وقد عبَّرت مقدِّمته لقصيدته الخمسين «عن المتعة الحسية» عن
احتقاره الذي يَعكِس استقامته:
56
فالأغبياء بالشهوات نفوسهم ممتلئة،
ولا يَملكون قدرةً على الإبداع ولا مهارة،
وبالنسبة لكثيرٍ منهم، فإن نهايتهم باتت محتومة.
وكانت «الموسيقى الليلية» الرومانسية ممنوعة كذلك — بحسب مقدمة
القصيدة رقم ٦٢ «عن الغناء للمحبوب في الليل»:
57
وذاك الرجل الذي يُغازل محبوبته،
ويغنِّي أغنية في الليل،
يستدعي بذلك قضم الصقيع ولسعاته.
هكذا، لا متع حسية ولا أغانٍ في الليل في شوارع بازل! وليس من
المتوقَّع أن يكون برانت مُتفتِّح العقل، أو يتمتَّع بحسِّ الفكاهة حين يتعلق الأمر بممارسة
الخيمياء كذلك، وهو كذلك بالفعل. ومن ثَمَّ، نجد في الشكل
١-١٥58 الخيميائيين يرتدون قبَّعات الأغبياء (يا للعار!) ومقتطفًا من القصيدة
١٠٢:
59 «عن الزيف والخداع» (ها هو مكنون صدر برانت يتكشف!):
وليتنا لا ننسى الحديث
عن خيميائنا الخادعة،
تغدق بثمار من الذهب والفضة الخالصَين،
لكنهما في المغارف مختبئين.
ها هي حيلة قُمُّص كانتربيري العتيدة المتمثِّلة في «إخفاء الذهب في المغرفة أو عصا
التقليب». وإني لأتساءل عما إذا كان برانت يتحدث عن خبرة ودراية، أم أنه شهِد فقط
الاحتيال على القساوسة الأثرياء وهؤلاء الآخرين ممَّن يَسهُل خداعهم.
(٨) أول موسوعة حديثة
ظهر ذلك الرسم التوضيحي المتَّسم ببساطة لا تخلو من التأنُّق، والذي يُظهر خيميائيًّا
يقوم على أتونه، فيما يظهر وراءه جهاز التقطير، والذي يظهر في الشكل
١-١٦، في الطبعة الأولى من كتاب «اللؤلؤة الفلسفية» الذي نُشِر عام ١٥٠٣.
60،61 يُمثِّل هذا الكتاب «أول موسوعة حديثة ذات أهمية»،
62 وقد طُبِعَ بعد أقل من خمسة عشر عامًا من طباعة يوهان جوتنبرج أول كتبه في
عام ١٤٥٥. يعكس كتاب «اللؤلؤة الفلسفية» المنهج الجامعي في نهاية القرن الخامس عشر.
ويُغطي الكتاب القواعد اللغوية، والمنطق، والبلاغة، والموضوعات الرياضية، والفلك،
والموسيقى، والولادة، والتنجيم، والجحيم.
63 فيما يُغطي المجلدان ٨ و٩ موضوعات كيميائية، من ضِمنها عملية
التحويل.
62 كان جريجوريوس رايش — مؤلف ذلك الكتاب —
رئيسًا لدير الرهبان الكرتوزيين في فرايبرج وكاهن اعتراف لماكسيمليان
الأول،
63 الإمبراطور الروماني المقدَّس (١٤٩٣–١٥١٩)،
الذي رسخ هيمنة أسرة هابسبرج الحاكمة في أوروبا.
64
(١٠) من هو أثانسيوس كيرشر؟ وما السبب وراء تلك الفظائع التي تقال عنه؟
الأشكال من
١-٢٨ إلى
١-٣٠ من كتاب «الكون الخفي»
89 (١٦٦٥) من تأليف أثانسيوس كيرشر (١٦٠٢–١٦٨٠)، الراهب اليسوعي الذي بدأ
حياته المهنية في فورتسبورج لتنتهي في كلية اليسوعيين في روما.
90 لقد كان شخصًا على درجة عظيمة من العلم ودرجة مُذهِلة من السذاجة في الوقت
ذاته. ويجدر بنا أن نذكِّر القارئ بأن العالِمَين البارزَين بويل ونيوتن، اللذين عاشا
في
القرن السابع عشر، كانا يصدقان في الخيمياء إلى حد السذاجة. كما يروق لي أن أرى في
شخصية يوهان بابتيست فان هيلمونت الذي وُلِد في منتصف القرن السابع عشر نصف عالِمٍ ونصف
عالِمٍ زائف.
91 وقد ألَّف كيرشر مجلدات؛ إلا أن المؤرخ العلمي جون فيرجسون يقول عنه:
92
كان كيرشر رجلًا واسع — بل غزير — المعرفة، وغزير السذاجة والمعتقدات
الخرافية والثِّقة في آرائه أيضًا. وما من أحد في هذا المجال المعرفي بأسره قد
تفوَّق عليه في عدد الأعمال وضخامتها، وانعدام الفائدة منها.
يضم كتاب «الكون الخفي» مجموعة ضخمة من المعلومات التي تصف كيمياء التعدين، وكيمياء
الفلزات، والكيمياء الدوائية، بالإضافة إلى الكيمياء المفيدة للفنانين
والحرفيين.
90 أما الشيء الأبرز — من وجهة النظر
التاريخية — فهو عدم إيمانه بالخيمياء المشروحة في كتاب «الكون الخفي». ربما لا عجب في
أن بويل قد «اعترض على دفع ٤٠ شلنًا مقابله.»
90،93
يبين الشكل
١-٢٨ تصويرًا فلكيًّا صرفًا لوصف الجسم البشري من
منظور الكون الأكبر (الماكروكوزم) والكون الأصغر (المايكروكوزم)، وعملياته التي تُمثِّل
الكون الأكبر. وفيما يَلي العلاقات
94 التي يَطرحها في الكتاب: الشمس تعني القلب، والقمر يعني المخ، والمشتري يعني
الكبد، وزحل يعني الطحال، والزهرة يعني الكُليَتَين، وعُطارد يعني الرئتين، والأرض تعني
البطن، والأوردة تعني الأنهار، والمثانة تعني البحر، فيما تُمثِّل الأطراف السبعة
الرئيسية المعادن السبعة القديمة.
أما الشكل
١-٢٩، فيقال إنه ﻟ «أتون لصناعة الأدوية» في كلية
اليسوعيين في روما، رغم أن بارتينجتون يؤكد أنه قد «أُطلِق عليه هذا الاسم كذبًا لإخفاء
وظيفته الحقيقية.»
90 وإن المرء ليتساءل ما إذا كان ذلك
الجهاز، الأشبه بكائنٍ فضائي محمَّل بصغاره التي تخرج من بيضها للتوِّ، له وجود حقيقي
من الأساس أم لا. وأعترف أن أحد أجهزة التقطير المبيَّنة في الشكل
١-٣٠ تذكرني بالذئب الذي أرضع رومولوس وريموس؛ جزء من أساطير روما
القديمة.
(١١) سحر غير طبيعي: الساحرات وعصي التقليب العظمية
تعود أساطير الساحرات إلى آلاف السنين، وهي حاضرة في جميع الحضارات تقريبًا في أشكال
مختلفة اختلافًا بالغًا.
95 وقد ازدادت أساطير الحضارة الغربية المتعلِّقة بالسحر تطورًا مع انتهاء
الحملات الصليبية واستجلاب كل الأمور المتعلقة بالكيمياء، والفلك، وكل المعتقدات
الباطنية الأخرى من بلاد المسلمين. وفي السنوات الأولى من أوروبا النهضة، كانت الساحرة
على الأرجح شخصًا لم يتواءم داخل النظام الراسخ في قرية صغيرة؛ ومن ثَمَّ كانت يُعتقد
أنها تسبب حالة من عدم التناغم.
95 قد ترفض عائلة من عائلات
القرية ذلك الشخص المنبوذ، الذي كان في بعض الأحيان رجلًا أو امرأة عجوزًا في حاجة إلى
المساعدة في جمع الحطب على سبيل المثال؛ ذلك النوع من المساعَدة المُتوقَّع الحصول عليه
في
أي مجتمَع ذي نسيج مترابط. وبعد أسبوع، قد يَمرض أكبر أبناء هذه العائلة فجأة وتولد
ساحرة. ويُمكن أن يكون انتقام الساحرة أكثر هولًا؛ كأن يتدفَّق فيضان طبيعي يستمر «خمسين
عامًا». غير أنه في وقتٍ ما خلال القرن الخامس عشر، كانت الساحِرات يُتهمْن بأنهنَّ قرينات
الشيطان،
95 وأن مُمارساتهنَّ ما هي إلا مظاهر للشر الصرف؛
ولذا كانت المُحاكمات والإعدامات هي العلاج الوحيد. انتقلَت هذه المعتقَدات إلى العالم
الجديد مع أتباع المذهب البيوريتاني وكان لها أبلغ الأثر في مدينة سالم في ماساتشوستس،
حيث أقنعت حكايات السحر الأسود، التي كانت ترويها جارية من الهند الغربية تدعى تيتوبا،
ثلاث فتيات يافعات بأن بهنَّ مسًّا من الشيطان.
96 وقد أسفرت حالة الهستيريا التي تسبَّبت بها هذه الواقعة عن إقامة «محاكمات
الساحرات» التي عُقِدت لنحو ٣٠ امرأة بين شهرَي مايو وأكتوبر من عام ١٦٩٢. وكان التعذيب
أسلوبًا منطقيًّا خلال «حالة الطوارئ» تلك، فيما حُكم بالإعدام شنقًا على تسع عشرة
امرأة اتُّهِمن ﺑ «ممارسة السحر».
كان «سبت الساحرات»
97 طقسًا ليليًّا صاخبًا حافلًا بالسلوكيات الماجنة المحرَّمة. ويدور حول هذا
الطقس مشهد «ليلة فالبورج» في مسرحية «فاوست»، ومقطوعة «ليلة على سفح الجبل الأجرد»
لموسورسكي. ويُوضِّح الشكل
١-٣١ مقطعًا صغيرًا من منحوتة جاك دو غين
الثاني بعنوان «سبت الساحرات» والتي تعود إلى أوائل القرن السابع عشر. ورغم أن النسخ
الحديثة من صور الساحرات التي تظهر في عيد القديسين (الهالويين) تكون في المعتاد لسيدات
عجائز نحيلات، فإن الجسد الأنثوي القوي الذي تبدو عليه الصحة في تلك المنحوتة لا يبدو
أنه احتاج إلى مساعدة في جمع الحطب. وهي تستخدم عظمة بشرية ضخمة، ربما لتقليب مكونات
دهان «للطيران إلى القمر»؛ فقد كان من الشائع أن الساحرات كنَّ يُجهزن زيوتًا للجسم
تمنحهنَّ القدرة على الطيران (فعلى كل حال، لم تكن المكنسة القشية هي التي تُساعدهن على
الطيران). ولكن كيف أساءت ساحِرة دي غين إلى قريتها؟ لربما كانت ببساطة أكثر براعةً في
الكيمياء من عطَّار القرية، الذي تصادَفَ أيضًا أن كان شقيقًا لعمدة القرية.
من المُذهِل أن تُدرك أن جوزيف جلانفيل (١٦٣٦–١٦٨٠)،
98 الذي لعب دورًا حيويًّا في الدفاع عن المناهج التجريبية الحديثة في العلوم،
كان يؤمن بالساحرات؛ فقد كان يذهب، وهو الكاهن المُرسَّم، إلى أن العلم لا يتعارَض مع
الدين، وأنَّ الدراسات التجريبية للعالم الطبيعي من شأنها إضفاء مزيد من التمجيد على
أعمال الرب. وقد كان زميلًا منتخَبًا لجمعية لندن الملكية في عام ١٦٦٤، لكنه كان يؤمن
بأن أرواحًا شريرة تَسكُن العالم، ودافع عن هذه الآراء في أعماله «تأملات فلسفية في شأن
السحر والساحرات» (١٦٦٦)، وكتاب «الأدلة الكاملة والقاطعة عن الساحرات والعفاريت»، وقد
نُشر هذا الكتاب الأخير بعد وفاته.
على النقيض، كان جون ويبستر (١٦١٠–١٦٨٢)،
99 وهو كاهن مُرسَّم آخر، وداعم للجمعية الملكية، أكثر عملية وأقل سذاجة من
جلانفيل. وقد انتقد ويبستر آراء جلانفيل في كتابه «مظاهر السحر المزعوم» (١٦٧٧). مارس
ويبستر الطب والكيمياء، وفي كتابه «تاريخ المعادن» (١٦٧١)، وجَّه ويبستر النقد اللاذع
الموضَّح أدناه لمؤلفين آخرين لأعمال عن علم الفلزات:
100
لو كان المؤلفون الذين كتبوا عن مملكة المعادن سيُقدَّرون وفقًا لأعدادهم
ووفرتهم، لظن المرء أن هذا النوع من العلم قد بلغ بالفعل قمَّته وذروته. غير أننا
إذا ما وزنَّاهم بجوهر ما كتبوا وثقله، لوجدنا أن معظم عملهم لا ثقلَ له، وأن
كتاباتهم لا تحمل الكثير من القيمة.