شخصية جيتي
كان جيتي ربعة يميل إلى السمرة على خلاف أهل الشمال، وثيق البنيان مهيب الطلعة، أهيب ما في وجهه عيناه الدعجاوان اللتان تشبهان عيون أهل الجنوب، ولم تحفظ عين جمالها وسلامة نظرها كما حفظتهما هاتان العينان، وصفهما شيلر في خطاب إلى صديقه كورنر فقال: «إنهما تفيضان بالمعاني والحياة على ما في وجهه من وصاد.» وكان جيتي يومئذٍ في نحو الأربعين، ووصفهما ثاكري الأديب الإنجليزي المشهور فقال: «إنني شعرت بالخوف حين رأيت تينك العينين!» وكان جيتي يومئذٍ في الثانية والثمانين، ووصفهما ريختر بين هذا وذاك فقال: «إنهما كرتان من النور!»
وكانت له بنية عامرة وجسد صلب حسن الهندام ممشوق القوام ولا سيما في سن الشباب، مع أنه وُلِدَ هزيلًا مشكوكًا في حياته وعاش شديد الحس والتنبُّه إلى يوم مماته، ولصلابته هذه استطاع أن يكافح النزيف الرئوي الذي اعتراه في أيام الطلب بمدينة ليبزج وعاوده المرة بعد المرة في الكهولة والهرم، فصينت له الصحة واعتدال المزاج في معظم أيام الحياة.
وقد بدأ رياضة النفس وتربيتها على الصبر والاتزان ومغالبة النزوات وثورات الشعور وهو في عنفوان الفتوة لم يبلغ الرابعة والعشرين، فلما رأى من نفسه فرط التأذي بالأصوات الصادعة والروائح الساطعة تعمَّد أن يقف طويلًا إلى جانب الطبول الداوية والأجراس العالية ليروض أذنيه على أشد الأصوات وأثقل المزعجات، وتعمد كذلك أن يصعد إلى القمم الشاهقة ويطل على الأرض من علٍ ليغالب الدوار حتى تغلب عليه، ومع هذا عاش طول عمره يكره الرائحة القوية ويتأذَّى بها شديدًا ولا سيما رائحة التبغ والثوم، فقد كان يضرب المثل بالثوم لكل كريه حتى العقائد والآراء! وأرادت زوجه مرة أن تربي بعض الخنازير إلى جانب البيت فاشتمَّ رائحتها واستوبلها وهي غير قريبة منه، وأمر بإقصائها على الفور.
وانصرفت نيته إلى اجتناب ثورات الشعور ومعالجة الألم والغضب فأفلح واستولى على أَزِمَّةِ نفسه بعد رعونة الشباب العارضة، وكثيرًا ما كان يجني عليه كظم الشعور وإخفاء الألم فيسقمه وينال من عافيته، كما حدث في وفاة ابنه الوحيد بعد أن جاوز الأربعين، فإنه لم يزد عند سماع الخبر على أن نضحت عيناه بالدمع لحظة ثم سكن ولاذ بالصمت والجمود، وما هي إلا أيام حتى اعتراه نزيف كاد يرديه.
وكان همه الأكبر من تربية النفس أن يعيش على سُنَّةِ القصد والاتِّزان أمينًا في ذلك على إعجابه واقتدائه بقدماء اليونان، فتم له ما كان يصبو إليه وظهر القصد في معيشته كما ظهر في تفكيره، فلا إسراف في رأي ولا إسراف في متعة، ولا جور من جانب الخيال على الحس ولا من جانب الحس على الخيال، ولا غلو في إنكار الجسد ولا غلو في إرضائه، بل كان عمل وكل رغبة بحساب وميزان.
ولم يكن جيتي يتحرج من المزاح والفكاهة في شبابه، فكان حبيبًا إلى أطفال كل بيت يزوره لتفننه في اختراع الألاعيب والأضاحيك، ووصف الكاتب الألماني جان غليوم جليم منظرًا من مناظر دعابته شهده عند الدوقة «أميلي» أم الأمير في سنة ١٧٧٧ أي حين كان جيتي في الثامنة والعشرين، وكان جليم يتلو على الحاضرين شذرات في تقويم أدبي يسمى تقويم عرائس الفنون، فاستأذنه جيتي في الترفيه عنه وتناول التقويم ليقرأ منه، فقرأ قليلًا ثم أخذ يرتجل المقطوعات من حاضر ما ينظم أو قديمه في الدعابات والمفارقات وهو يتظاهر بالتلاوة في التقويم والحاضرون يعجبون ولا يصدقون ما يسمعون، حتى فطنوا إلى الحيلة فأغربوا في الضحك واستطابوا الفكاهة، فقال جليم للشاعر فيلاند الذي كان يجلس أمامه: «إن هذا لهو جيتي أو الشيطان بعينه.» فقال فيلاند: «هما معًا! لأنه في يوم من أيامه التي يملأه فيها الشيطان.»
هكذا كان في بعض أوقات شبابه، ولكنه اعتصم بعد ذلك بجفوة باردة تخيل إلى من يراه أنه ليس من بني الإنسان، وجعل لا يتحدث ولا يخف إلى حديث غير الحفائر والعظام وما إليها، حتى قال ريختر لصاحبه الذي عرفه إليه: ألا تحجرني أو تكسوني بغشاء المحافير علني أروقه. وقالت أرليك فون لفتنزوف إنها لو عرفت فيه جيتي العظيم لرضيت به زوجًا ولو من أجل الزهو والكبرياء، ولكنها لم تَرَ إلا شيخًا لا يني يتكلم عن النجوم والحجارة والأزهار … فلم تصغ إليه، وأرليك هذه هي الفتاة التي أحبها وهو في الرابعة والسبعين.
ولما زاره هيني قال في فكاهته المعهودة: «إنني نظرت حوله على غير اختيار مني لعلي أرى إلى جانبه نسر جوبيتر — كبير أرباب اليونان — الذي يحمل الصاعقة في منقاره، وهممت أن أخاطبه بالإغريقية لولا أنني أدركت أنه يفهم الألمانية!» ووصف الكاتب الروسي الحديث مرجكفسكي هذه الجفوة الباردة في محضر جيتي فقال: «إنه ليشبه تماثيله الرخامية تمامًا!»
ولو وقف الأمر عند هذا البرود في محضره لهان ولم يكن فيه على الرجل كبير ملام، إنما الملام الأكبر أن تبحث في تاريخه عن صلة حية بينه وبين بني الإنسان في ذلك العصر الفوار بالحوادث الإنسانية فلا تجد، فقد عكف على نفسه لا يعنى بغير ما يعنيها لتوِّه وساعته ولا يكلفها جهدًا للخوض في هذا الغمار ولو من قبيل التفكير والغيرة من بعيد، وكانت أمم العالم تعج بالخطوب وتعتلج بالآمال والآلام وهو قابع وراء أسوار نفسه لا يريمها ولا يطل منها إطلالة عطف أو اهتمام، وشهد يومًا شجارًا بين الخدم والحوذية فكتب في مذكرته: «إن هذا الشجار قد حركه فوق ما حركته تجزئة الدولة المقدسة!» ودخل عليه سوريه وقد سمع بأنباء ثورة يوليو الفرنسية فقصد أن يزوره ويتحدث إليه، فبادره جيتي عند دخوله قائلًا: «آه، حسن! ما رأيك في هذا النبأ العظيم، لقد أرسل البركان حممه واشتعلت النار في كل شيء، وليست هذه بعد محاضرة في حجرة مسورة.» فقال سوريه: «إنه لحادث مرعب، ولكن ماذا يتوقع من وزارة كتلك إلا أن يئول الأمر إلى نفي الأسرة المالكة؟» فعجب جيتي وقال له وكأنه يتهكم: «يا صديقي العزيز جدًّا! يلوح لي أننا لا نتفاهم، فما عن هذا تكلمت وإنما أتكلم عن أمر آخر، إنما أتكلم عن البحوث التي بدأت بين كوفييه وجفري سانت هيلر في جلسة المجمع العامة.» يشير إلى بحوث هذين العالمين في أصل الأنواع.
وقد اضطربت البلاد الجرمانية بالثورة على نابليون فكان هو في جانب القوة يسخر بهذه النخوة ويقول للأدباء الناشئين الذين تقلدوا السلاح: «لا تقعقعوا بسلاسلكم فإن الرجل كبير عليكم!» وتكلم أمامه أناس في القائد ولنجتون فجعل يرحض عنه ويثني عليه لأنه كيفما كان هو قاهر نابليون وغالب الهند، وقال: «كل من كانت معه القوة العليا فالحق معه … وعلينا نحن أن نحني له الرؤوس!»
ولامه الناس على جموده في إبَّان النهضة الوطنية فكان يقول: «إنها لدنيا سخيفة لا تعرف ما تروم ولا حيلة معها إلا أن ندعها تلغو كما تشاء، فكيف كنت تراني أحمل السلاح بغير بغضاء؟ ومن أين لي بالبغضاء في غير شباب؟ لو حدثت هذه الأمور لي وأنا في العشرين لما كنت آخر من يهب ويهيب، ولكنها حدثت وأنا قد جاوزت الستين … وفيما بيني وبينك أنا لا أبغض الفرنسيين وإن كنت حمدت الله حين خلصت منهم البلاد.»
وليس قول جيتي هذا إلا احتجاج محرج لا يدري ما يقول، وإلا فكيف عرف أن يحب الفتاة الحسناء ويخطبها للزواج في الرابعة والسبعين ولم يعرف أن يبغض أعداء بلاده في الستين؟ وهل كان شأنه في هموم الألم وآلام المظلومين يوم جاوز الستين إلا كشأنه فيها وهو دون الخمسين ودون الأربعين؟
لقد قارن ماتسيني بطل إيطاليا الوطني وقديسها بين جيتي وبيرون في هذه الخصلة فقال: «وقفت يومًا على قرية سويسرية أراقب العاصفة وهي تقترب وتؤذن بالهبوب، وفي السماء غيوم كثيفات سود تُذهب حواشيها أشعة الأصيل ويُطبقن سراعًا على أصفى سماء في جو أوروبا ما خلا جو إيطاليا الجميل، وكان الرعد يقصف من بعيد وأمواج الرياح القارسة تقذف بالمطر الغزير على السهل الظمئ.
وأنظر فوقي فإذا بباز كبير من بزاة الألب يعلو تارة ويهبط أخرى وهو يقتحم العاصفة في كبة الرياح الهوج، كأنما كان يهجم عليها هجمة القريع على القريع، وكلما جلجل الرعد جد الطائر النبيل في العلو كأنما يجيبه ويتحداه، فظللت أتبعه بنظري برهة حتى غاب في ناحية الشرق عن العيان.
ثم نظرت إلى الأرض على نحو خمسين خطوة مني فإذا بالطائر أبي حديج قابع هناك على هينة واستقرار بين حرب العناصر الزبون، ورأيته مرتين أو ثلاثًا يرفع رأسه قبل مهب الريح بهيئة لا توصف من الاستطلاع الضعيف وقلة الاكتراث! ثم أعرض عن هذا ورفع إحدى ساقيه النحيلتين وزوى رأسه تحت جناحه وتهيأ للنعاس في هينة واستقرار.
ذكرت بيرون وجيتي حينذاك وذكرت حياة أحدهما تموج بالزعازع وحياة الآخر تغمرها السكينة والسلام، وذكرت الينبوعين الزاخرين اللذين ختم عليهما واستنفدهما هذان الشاعران.»
ذلك أصدق تصوير لشاعرين كبيرين من طينتين جد مختلفتين، وأنصار جيتي الغيورون على شهرته يشعرون بهذه النقيضة فيه فيتعمَّلون لسترها بالمعاذير، وقد يسخف بعضهم فينقلب من تلمس الأعذار لها إلى اعتبارها مزية تستوجب الثناء! لأنها علامة الرفعة عن هموم الحياة الصغرى وشواغل الجماهير والعلو بالفكر إلى أفق أكمل من ذلك وأكرم وهو أفق الجمال والمعاني الخالدة والعزلة الإلهية، ولو صح أن الترفع عن هموم الجماهير مزية تحمد لجاز أن يحمل برود جيتي على ذلك المحمل وأن يجزى عليه بالثناء والإعجاب، ولكنه غير صحيح ولا قريب من الصحة، فإن من فاته الشعور بآلام بني الإنسان وبشاعة الظلم فقد فاته شعور الصدق وفاته شعور الخير وكلاهما عنصران من عناصر الشعور الجميل وإذا كان تمثيل الشقاء في الصورة الفنية عملًا جميلًا فليس الشعور بالشقاء والعطف على الأشقياء بالعمل القبيح.
وهب ما يقولون صالحًا لتفسير فتوره في علاقاته مع الأفراد وقعوده عن البر حتى حين يكون البر واجبًا يفرضه الولاء للعبقرية والمروءة؟ لقد استغاث به بيتهوفن في محنته وكتب إليه يقول وهو يظن أنه يغض من عزة نفسه بين يدي إنسان يفقه معنى العزة والعبقرية: «الحق أنني كتبت كثيرًا في الموسيقى ولكنني لم أَجْنِ شيئًا، ولست الآن وحيدًا لأنني أصبحت من سنوات سِتٍّ أبًا لابن أخي الفقيد … كلمات قليلة منك تسعدني.» فماذا كان جواب جيتي لتوسل ذلك الشيخ المعذب المحروم؟ ولا كلمة! أيصدق القارئ؟ نعم ولا كلمة! وقد اعتذر بعضهم عن جيتي بمرضه يوم وصول الخطاب إليه، فإن كان هذا عذرًا فماذا كان عذره بعد ذلك بأيام أو بأسابيع أو بأشهر؟ لا عذر هنا يجوز فيه الكلام.
وكتب إليه «فويت» صديقه وزميله في الديوان وهو على فراش الموت يقول له: «… أردت أن أكتب إليك هذه الكلمة الأخيرة وفيَّ رمق … آه يا عزيزي جيتي … ولكننا سنعيش معًا في عالم الروح …» فماذا صنع العزيز جيتي بهذه الدعوة المتوجهة إليه من صديق يُسلِم الروح وينتظر الموت ساعة بعد ساعة؟ لبث يومًا لا يجيب، ثم أرسل إليه ورقة مع خادم! وما كانت دار صديقه المحتضر إلا على قاب خطوات من بيته، فماذا كان يضيره لو لبَّى أمنيته الأخيرة وذهب إليه؟ لا ضير، وما نظن مثل هذه الخَلَّة مما يرضى به ذوق جميل.
وقس على ذلك علاقاته بهردر وشيلر وكلاهما ذو يدٍ عليه في تنبيهه واستنهاضه، فما كانت علاقاته بهما تخلو من ملامة وتقصير، بل قس على ذلك علاقاته بكل إنسان حتى أمه وأبيه وأولياء نعمته وأقرب الناس إليه.
فهو رجل واضح الأثرة لم يزعج نفسه قط لخطب فرد ولا لخطب أمة، ولم يخفق قلبه خفوق الإيثار برحمٍ ولا محبة، وغرامه بالنساء الكثيرات لا ينفي ذلك بل يؤيده ويضيف إليه، فإنه كان غرام فن ورياضة ولم يكن غرام مودة وحياة، وأي فضل للإنسان في أن ينشد المتعة والسلوى والسرور؟ وأي غرابة في حب الرجل للمرأة وهي إلفٌ مخلوق لإلفه، وإنسان آخر بينها وبين الرجل عطف وليس بينها وبينه منافسة ولا سباق؟ هنا يستفيد الرجل ويضم إليه إنسانًا يتممه، ولا يخشى على أثرته من ذلك الإنسان.
ومع هذا كان جيتي يهرب من الحب كلما كلفه بعض العناء، وكانت بغيته في الحب «الحضور» كما قال وأعاد. فمَنْ غاب عن عينه فليس بحاضر في قلبه ولا يلبث أن يحجبه النسيان، ومثل هذا الحب الذي أحبه جيتي ولم يعرف سواه لا ينفي الأثرة وانقطاع أواصر المودة والرحم بينه وبين بني آدم.
بل لعلنا لا نخطئ إذا قلنا أنه كان فرديًّا حتى فيما أحب من الحيوان، فما آثر القطط على الكلاب إلا لأن القطط فردية جافية والكلاب فيها عطف وألفة!
وأكبر الظن أن جيتي ورِث هذه الخَلَّةَ وراثة عن أبيه ثم نمت مع الزمن فيه، فقد روت لنا «بتينا برنتانو» نقلًا عن أمه أنه لما كان صبيًّا صغيرًا مات أخوه ورفيقه في اللعب «جاك» فلم يذرف عليه دمعة وامتعض من بكاء أهله، ولما سألته أمه: أما كان يحب أخاه؟ جرى إلى حجرته وجاءها بأوراق فيها رسوم ونوادر كان قد أعدها لتعليم أخيه حين يكبر! فكأنه لم يحب من أخيه في تلك السن الصغيرة إلا موضوع فن وتربية!
فهذه الخواتيم من تلك البوادر ويزيدها أن جيتي قد عوفي من شدائد العيش وحرقات الخيبة وأهوال التجارب ففتر ما بينه وبين الناس من حرارة العطف والولاء وقرابة الألم والعزاء، ولنرجع هنا إلى ما كتبناه في صدر هذه الرسالة عن النفس الألمانية وحقيقة شعورها بالوطنية والجامعة القومية، ففي ذلك تفسير لفتور الوطنية في قلب جيتي وعذر له من تلك النقيصة التي لا مراء فيها؛ إذ كان في الدعوة الجرمانية شيء ينافي الوطنية في بعض الأحيان؛ لأنها توشك أن تقضي على استقلال الدويلات والإمارات الصغار، وإذ كان لجيتي مندوحة من شواغله الأدبية عن مصادمة الوقائع ومعاناة المظالم، وكان منصبه ينأى به عن ذلك ولو لم تكن له شواغل أخرى تصرفه وتلهيه.
ولا ننس بعدُ هيبة الألمان للمناصب الكبار في القرن الثامن عشر ووراثة جيتي هذه الهيبة عن أبيه، ثم ها هو ذا قد تَسَنَّمَ تلك المناصب وارتفع إلى مراتب النبلاء، فهل يسيرٌ عليه أن يستخف بها ويفقه دعوة الحرية كما يفقهها رجل لا تغشى بصره غاشية هذه الهيبة ولا تجري في عروقه دماء تلك الوراثة؟ ثم حب الراحة الذي فُطِرَ صاحبنا عليه ماذا يصنع به وكيف ينفضه عنه؟! وكيف يسارع إلى عقيدة تحفزه إلى الكدح والجهد وليس له طاقة بهما ولا عهد له باختبارهما من قديم؟!
وإذا صح «توصيف» الباحثين لمرض جيتي في شبابه واستدلالهم عليه بأعراضه التي وردت في رسائله وكتبه وبما كان بعد ذلك من موت أولاده فمن شأن هذا المرض في أغلب الأحيان أن يضعف العطف ويدخل الجفوة على الطباع.
هذه معاذير نسوقها لإنصاف ذلك العبقري الكبير وتصويره على جليته بغير إجحاف، ولكننا لا نعرف بينها عذرًا هو أوجه من حب الراحة أو السكون الذي فطر عليه ولا حيلة له فيه، فإن كان جيتي لم يكدح لغيره فهو لم يكدح لنفسه، وإن كان قد أحجم عن تدبير الخيرات فهو قد أحجم كذلك عن تدبير الشرور.
ولقد قال مرة إنه يلمح القاتل في أعماق ضميره، وما من فنان إلا وهو مستطيع أن يقول ذلك على معنى التصوير الفني لا معنى الإجرام؛ فإنه مطالب على الأقل بأن ينتزع من شخصه كل شخوص خياله، فعلى هذا الاعتبار كان جيتي يُضمر الشر ويلمحه في أعماقه، أما أن يقارف الشر وينصب لتدبيره فبينه وبين ذاك حائل الطبع، وحائل الكياسة.
فكل ما يؤخَذ على جيتي من نقيصة فهو نقيصة فنية بالمعنى الذي ألمعنا إليه أو نقيصة المطاوع المستجيب الذي لا يجاهد في مكافحة المغريات، وفي هذه الضرورة شفيع! وفي العبقرية شفيع آخر، فإن أثرة العبقري الكبير أثرة إنسانية تعني الناس جميعًا لأنها تشتغل بكل ما يعني بني الإنسان، فعسى أن ينفعه هذان الشفيعان.