عقيدة جيتي وآراؤه
من عرف صفات جيتي وخصائص عبقريته لم يصعب عليه أن يعرف عقيدته في الدين وآراءه في الأخلاق والاجتماع والسياسة، أو لم يصعب عليه أن يعرف الأشياء التي يمكن أن تنطوي عليها تلك العقيدة والأشياء التي لا يمكن أن تنطوي عليها؛ فإنما عقيدته وآراؤه خلاصة من صفاته وخصائص عبقريته، وهو كان رجلًا يأبى الجهد ويكره أن يزعج نفسه، وكانت له عبقرية مستجيبة مستسلمة تأخذ الدنيا جزءًا جزءًا كما يأخذها الفنان الذي يتملَّى جمالها والشعور بها ويجد في ظواهرها الكفاية لحبها وتعظيمها؛ فعقائده لن تخرج عن هذه الصفات ولا عن هذه الخصائص، وكل ما هو عويص أو مجهد أو بعيد عن طريق الفن والجمال فلك أن تستثنيه من آراء جيتي في جميع الشئون، وأنت مطمئن إلى ذلك كل الاطمئنان.
وقد قلنا: إن جيتي صاحب عبقرية متعددة الجوانب ولكنها تئول كلها إلى طبيعة واحدة؛ فمما يؤيد ذلك ولا ريب أنك تعرف عقائده من صفاته وجملة أفكاره، فإن الجوانب المتعددة التي ترجع إلى معادن متعددة تستعصي على مثل هذا التقدير ولا يغنيك العلم بالكثير منها عن العلم بأيسر يسير؛ إذ ربما كانت عقيدة صاحبها مناقضة لأخلاقه أو لفكره أو لمزاجه، أما في جيتي فالجوانب تختلف ما تختلف والآفاق تتسع ما تتسع ولكنها لا تشذ أبدًا عن تلك الطبيعة الواحدة التي أجملناها في الكلام على عبقريته وأخلاقه.
•••
جيتي مؤمن بالله مسلِّم بالقدر: «إن الله أحكم منا وأقدر، فله أن يتصرف بنا كما يشاء.»
هذا هو التسليم بالقدرة الكبرى والحكمة الإلهية في الوجود.
وللقدرة الإلهية دلائل كثيرة يلتمسها الباحثون في أخفى نواحي البحث وأظهرها ويعبرون إليها بحارًا من الفسلفة والتصوف لا يسهل عبورها، فأما جيتي فثق أنه لا يغوص على إيمانه ولا يركب إليه المراكب العصية، فحسبه الجمال في العالم دليلًا على الجِبِلَّةِ الإلهية فيه وفينا، أو كما قال لصديقه موللر: «إن القدرة على تجميل الحس وبث الحياة في المادة الصماء بتزويجها من الفكر لهي أقوى حُجة على فطرتنا العلوية.» والدين عنده لا يكون إلا واحدًا من اثنين: «فإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى فيما حولنا بغير شكل ولا قالب، وإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى في أجمل الأشكال والقوالب، وكل ما بين هذا وذاك فهو وثنية وجهالة»، وما دمنا نشعر بالجمال حولنا فنحن نشعر بالقدرة الإلهية في العالم وفي أنفسنا معًا، قال كبلر: «أمنيتي أن أدرك الله في عالمي الداخلي كما أدركه في كل مكان من العالم الخارجي.» فقال جيتي متهكمًا: «إن الرجل الطيب لا يدري أنه حين يدرك الله فيما حوله فالإلهي فيه متصل هنالك بالإلهي في الكون أوثق الصلات.»
كذلك قال لجاكوبي: «إن الأقدمين في أوج رفعتهم كانوا ينشئون القداسة من الجمال، فزيوس كبير آلهتهم لم يبلغ التمام إلا في تمثال الأولمب.»
وقال لأكرمان في عام وفاته: «دع من يشاء يبدع إن استطاع بمحض العزيمة الإنسانية — أي بغير مدد إلهي — شيئًا يضارع ما أبدعه موزار أو رفائيل أو شكسبير!»
فالجمال هو معجزة الكون الإلهية عند جيتي، وهذا هو إيمان الشاعر الفنان.
•••
وإيمان جيتي بخلود الإنسان ضرب من التسليم بالقدرة الكبرى والإنابة إليها، فما دام الإنسان في كفالة تلك القدرة فهي تمضي به إلى الذي هو أقوم، وهي لا تصنع العبث ولا تبطل ما تصنع، وقد قال بلسان برومثيوس: «لا أذكر بدايتي ولا أحس نهايتي، ولا أدرك الختام وإنما أنا خالد لأنني أنا موجود.» وكل يحمل برهان خلوده في نفسه فمن لم يجده هناك فما هو بواجده في شيء!
ولما سأله فولك عقيب وفاة صديقهما فيلاند: «ما تظن فيلاند صانعًا في هذه الساعة؟» قال: «إنه لا يصنع شيئًا حقيرًا، ولا شيئًا يغض منه، ولا شيئًا يناقض عظمة الأخلاق التي أثبتها في حياته.» وهذا أمر لا خلاف فيه، أما عدا ذلك فليختلف فيه المختلفون.
ثم استطرد إلى ذكر «الوحدات» المعروفة في مذهب الفيلسوف ليبنتز، وقال: إنها خالدة لا يمسها الفناء، وإنها على وفاق مع القدرة الإلهية لا شذوذ فيه.
ولا طاقة لجيتي بالفلسفات العويصة التي تخوض فيما وراء الطبيعة وتقيم الدليل على خلود النفس بالمقدمات الطويلة والنتائج المعضلة، فإيمانه بالخلود لا شأن له بهذه الفلسفات ولا مرجع فيه إلى البحث الذي يكد الذهن ويثقل على الخاطر، ولكنه يستريح من الفلاسفة إلى اثنين في المحدثين وهما «سبنوزا» و«ليبنتز» الذي تقدم ذكره، وهو في إيثاره هذين الفيلسوفين وَفِيٌّ للعبقرية التي عرفناها وعرفنا جنوحها إلى التسليم واستحسان ما هو حاضر، فإن سبنوزا هو فيلسوف «وحدة الوجود» القائل بأن الله هو الكل والكل هو الله، وأن الإلهية ظاهرة في كل جزء من أجزاء هذا العالم، فالإنسان لا يذهب بعيدًا في طلب الإله والكشف عن الأسرار وجيتي لا يأبى أن يمشي مع هذا الفيلسوف في طريقه الدمث المريح.
وسبنوزا كذلك هو القائل إن الدنيا تتغير ما تتغير ويبقى في كل تغيير شيء دائم خالد هو عنصر الكمال والجمال الذي يتجلى فيه الإله. وهنا أيضًا لا يتعب جيتي من مصاحبة هذا الفيسلوف؛ لأنه يطمئن معه إلى نفسه ويرضى عن كل حالة تمر به أو تصيبه.
«أما ليبنتز» فهو فيلسوف الفردية والإجزاء والرضى عن الوجود لأنه خير ما في الإمكان، وهل أحب إلى جيتي من الفردية والأجزاء والرضى عن الوجود؟ فالعالم عند ليبنتز وحدات منعزلة يعكف كل منها على نفسه ويترقى على حسب قوانينه المكنونة فيه، فلا سلطان عليه للوحدات الأخرى ولا يلوح لنا نحن أنه يتأثر بتلك الوحدات إلا لأنها كلها معدن واحد قديم مرتب منسوق منذ أزل الآزال، وكل وحدة هي مرآة القدرة الإلهية تتجلى فيها هذه القدرة على حسب حظها من الترقي والكمال، فلا هيمنة لإحداها على سائرها وإنما تستقل كل منها بإظهار قدرة الله على منوالها، مثلها في ذلك مثل ألوف الساعات التي تَدُلُّكَ على الوقت وتتفق كلها في الدلالة عليه ثم أنت لا تفهم من هذا أن إحداها أثرت في سائرها ولو كانت أدق وأنفس منها، وكل وحدة خالدة تترقى وتظهر جمال الله على درجات في الإظهار، فالفردية المعزولة في هذا العالم السعيد على أتمها هنا، وجيتي يأوي من هذا المذهب إلى بيته الأمين.
وقد تلمح في جيتي أثرًا من آثار أفلاطون في كلامه عن المُثُل التي تسبق الموجودات، فذلك إلماعه في الجزء الثاني من رواية فوست إلى عالم السكون المجهول الذي لا مكان ولا زمان فيه ولا تتقيد فيه الأشكال بقيود، ولكنها عبارة شعرية لا أكثر ولا أقل، وليس جيتي بعد هذا بالذي يُعنت ذهنه في استقصاء هذه الأسرار إلى غاياتها البعيدة؛ لأن مذاهب الفلاسفة في شرح خلود النفس كما قال في أخريات أيامه: «هي شغل المتبطلين من السراة الخالين أو النساء اللواتي لا يشغلهن شاغل.»
ومن ثَمَّ إنكاره على السلطان الذي كان يدَّعيه رجال الكنيسة لأنفسهم في الوساطة بين الله والناس، فهو ينحو فيه نحو الفردية ونحو «وحدة الوجود» في وقت واحد؛ إذ «كل الحقائق تأتي من عند الله، وهؤلاء الناس — يعني رجال الدين — يزعمون أن الله لا يتكلم إلا بوساطة الكنيسة، فهم لا يرون كيف يتكلم الله بلسان جميع الأشياء، فما من حشرة تدب على الأرض وما من ورقة على شجرة إلا ولها نبأ تقوله من عند الله»، وجيتي يعني الكنيسة الكاثوليكية بذلك الكلام، وهي غير كنيسته البروتستانتية التي نشأ عليها هو وأهله، فليس في كلامه هذا تمرد جديد على سلطان وطيد!
ولا يخفى أن جيتي قد خامرته الشكوك في كل مذهب وكل ملة واتخذ لنفسه عقيدة تخالف عقائد الشعائر والمراسم في الجملة والتفصيل، وعرف الله في نفسه وفيما حوله بغير هداية من ذي كهانة إلا من كان يقرأ لهم ويحادثهم في أمور الدين، وله مثل ظريف في استقلال الفرد بعقيدته يقول فيه إن عقيدة الإنسان ينبغي أن تكون كالذخيرة التي يدخرها في بيته ليعتمد عليها وقت الحاجة، أما ذخائر المصارف فأرباحها لأصحاب المصارف، وقلما يربح منها المستعيرون.
ولكنه على مخالفاته وشكوكه لم يتمرد قط في كفر ولا عقيدة، إلا في سَوْرة الشباب أيام أن نظم قصيدته في «برومثيوس» الإله الثائر على رب الأرباب، وأيام اعتلاج المناظر الأولى من رواية فوست في ضميره وخياله، ثم ثاب إلى مذهب يقارب مذهب ابن العربي الذي يقبل في قلبه كل صورة ويجمع فيه «دير الرهبان ومرعى الغزلان». فخرج من رواية ولهلم ميستر بجماع مذهبه في الأديان كافة وهو احترام الجميع، فكان يعتقد أن الأديان ثلاثة: واحد يدعوك إلى احترام ما فوقك وليس أسهل منه، وآخر يدعوك إلى احترام ما يقاربك وهو أصعب من ذاك، وثالث يدعوك إلى احترام ما دونك وهو المسيحية. ولن يكمل دين المرء حتى يؤلف بين هذه العقائد جميعًا فيحترم كل شيء ويرضى عن كل شيء، ونحن هنا من طبيعة جيتي في صميم الصميم! فلا تمرُّد ولا استخفاف بل تبجيل وتسليم.
واشتهر جيتي بالسخر الخفي في أحاديثه وفي تواليفه، ولا بد أن يسخر رجل عاش كما عاش وشهد كما شهد واستعرض الدنيا استعراضه لحقائقها وعجائب أكاذيبها، إلا أنه سخر لا استخفاف فيه ولا صَغار ولا رعونة، وربما نفعته في هذا طبيعة المحافظة الراسخة فيه، فعوَّدته التهيُّبَ ومداراة الأمور.
وإنك لتعجب لهذا الذهن الكبير كيف كان يضيق به النظر كلما باغته التغيير فأجفل من المباغتة وسارع إلى الإنكار في غير موجِب للإنكار، فهذا الذهن الذي يتناول المسائل الجسام في سهولة ورفق لم يلبث أن سمع بإباحة الزواج باليهوديات حتى ثار ثائره واستعظم الأمر كأنما فيه ثورة على نظام الوجود. قال موللر: «ما كدت أدخل على جيتي في نحو الساعة السادسة … حتى بادرني الشيخ العزيز ببيان مسهب عن الغضب الذي خالجه من قانوننا الجديد الذي أباح الزواج باليهود … فقد أبدى أشد المخاوف وتوقع أوخم العواقب وقال: لو كان المراقب العام رجلًا من ذوي الأخلاق لآثر أن يعتزل منصبه على أن يبارك اليهود في الكنيسة باسم الثالوث المقدس!»
كان هذا في سبتمبر سنة ١٨٢٣، أي بعد موت زوجته بسبع سنوات، فخليق بهذه الغضبة العجيبة أن تعرفنا سر رضاه بكرستيان فلبيوس قبل الزواج وسر معاشرته إياها على خلاف العُرف في بيئته وزمانه، فلم يكن مسلكه هذا اجتراءً على تغيير مألوف الناس بل كراهة منه لتغيير مألوفه، وكل ما في الأمر أنها امرأة استطاب العيش معها فلم يقدر على فراقها، فقبل من أجل ذلك أن يغضب من أغضب وهو قانع مستريح.
هذه الراحة هي قوام هذه العبقرية في كل رأي وفي كل مسلك وفي كل خطة، فما التقوى؟ وما الخلق؟ وما الفن؟ كلها وسائل للسلام أو للتوازن والطمأنينة في النهاية؛ «فالتقوى ليست غرضًا لذاتها ولكنها وسيلة للترقي بسلام النفس إلى أرقى مراتب التهذيب …» والشعر وسيلة نتخذها لسد خلل الحياة وترك التبرم والشكاية، والفن «ليس غيره وسيلة مأمونة للنجاة من العالم وليس غيره وسيلة مأمونة للحلول فيه»، وقواعد الآداب والأخلاق: «محاولة دائمة لإقرار السلام بين مطالبنا الفردية وقانون العالم المستور» فكل ما ليس فيه سلام ولا أمان فليس فيه خير ولا إحسان!
نعم إنه كان يوصي بالعمل ولا يكف عنه، ونعم إنه كان يعتبر العمل سبيل الخلاص والتكفير لأنه سبيل تعريف الإنسان بحقيقة نفسه ولا خلاص للنفس بغير هذه الحقيقة. ونعم إنه استرسل في هذا المعنى حتى قال: إنه لا يدري ماذا يصنع بالخلود الأبدي الذي لا عمل فيه ولا واجب، ولكننا يجب ألا ننسى أبدًا أن هذا العمل لا ينفي الراحة والطمأنينة، فكل عمل لجيتي فمشروط فيه أن لا يجهد ولا يزعج وأن يكون عفو الطبع والسليقة: «وليذهب كل إلى واجبه كالنجم في غير عجلة ولكن في غير فتور» كما قال في إحدى مقطوعاته، وما الواجب الذي يذهب إليه؟ هو عند جيتي مطالب كل يوم، فمن قام بمطالب الحاضر يومًا بعد يوم فليس عليه واجب أقدس من ذاك، أو كما قال في وصية أخرى: «كن أمينًا لحظة بعد لحظة فهذا خير ما تفعل.» فالمرء لا يذهب مع جيتي بعيدًا في طلب الله ولا في طلب الواجب، فهو يجد الله ويجد الواجب حيث كان!
أما حكم الأخلاق عنده في تناول طيبات الحياة فهو الحكم المنظور عند رجل يؤمن بالحسن ويؤمن بالواقع الراهن كل هذا الإيمان، فالدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث، بل هي حقيقة حتى في نظر الله وليست كذلك في نظر الإنسان وحده، وإلا «فعيشك سبعين سنة لن يساوي فتيلًا إذا كانت حكمة الدنيا بأسرها حماقة عند الله»، ولقد قال: «إن الكل باطل معناه أن الكل ليس بباطل.» وما دامت الدنيا حقيقة وليست بوهم ولا عبث ففيم نعرض عنها ونزهد في طيباتها؟ فكل ما أباحه اليوناني القديم لنفسه فهو مباح في عرف جيتي بغير تلجلج ولا معاناة، و«لنقدم على السعادة» كما قال ولنعرض عن المعرضين.
فهو الرجل الإغريقي المثقَّف في محللاته ومحرماته، وقد كان له رمزان ينظر إليهما كثيرًا ويأنس إليهما في بيته: وهما تمثال جوبيتر وجمجمة إنسان، وما نحسبه كان يترجم عن نظرته الطبيعية إلى الحياة والموت بأبلغ من هذين الرمزين.
لقد أوصى جيتي بالتسليم ونكران النفس، ولكن أي تسليم وأي نكران؟ فأما التسليم فهو الرضى بالحاضر لكي تتملَّاه إذ كان السخط عليه حائلًا بينك وبين تملِّيك إياه، وأما النكران فهو ترك القليل في سبيل الكثير، وليس هو التعويل على ترك هذا وذاك، فخذ الحاضر كما يجيء إليك ولا تأسَ على الماضي: «فليس في هذه الدنيا ماضٍ يؤسف عليه وإنما كل ما فيها جديد دائم»، ولا جدوى تعود علينا من وراء الحزن على ما يزول، «فإنما نحن هنا لنصبغ الزائل بصبغة الدوام، ولا يتاح لنا ذلك إلا بتقدير الزائل والدائم على السواء»، وفي آية من آياته الشعرية الخالدة يقول: «كيف تراك تجدد لنفسك بلا وناء؟ إنك مستطيع ذلك، مستطيعه بأن تجعل لنفسك نصيبًا من السرور بالعظمة، فإن كل عظيم لا يزال أبدًا جديدًا حارًّا مملوءًا بالحياة، وفي الحقير ترتعد أوصال الرجل الحقير.» فالعظمة في الإنسان وفي الطبيعة هي الخلود أو الحياة التي لا تني تتجدد، وعلى الإنسان أن يكون كالطبيعة وليس عليه أن يخلق مذاهب الأخلاق من الهواء، أو كما قال: «إن جميع المثل العليا لن تعوقني أن أكون ما خلقت، أي أن أكون طيبًا ورديئًا كهذه الطبيعة.» فإذا حدثه أحد عن الضمير صاح به: «وما الضمير؟ وما الذي يتقاضانا إياه؟» وليس معنى هذا رفض الضمير والزراية به، وإنما معناه أننا نحن قوام الضمير بما نختار، ولسنا أسارى الضمير على الكره والاضطرار.
•••
وبعد فقد يكون من اللغو أن نسهب في شرح آراء جيتي السياسية وموقفه من مبادئ الثورة الفرنسية التي حضر عهدها، فإن تلك الآراء واضحة كل الوضوح فيما تقدم فلن تكون فيها مخالفة لما فطر عليه من السكينة والعزلة الفردية وفتور العاطفة بينه وبين من حوله، ولكننا ننقل هنا فلسفته العلمية عن النظام الذي يراه في سنن الطبيعة؛ فهو يقول في كتابه عن علم تركيب الأجسام الحية إنه: «كلما نقص تركيب البنية عظم التشابه بين أجزائها وعظم التشابه بين كل جزء وبين مجموعها، وكلما كملت البنية عظم الخلاف بين الأجزاء؛ ففي الحالة الأولى تكون الأجزاء تكريرًا متفاوتًا للمجموع، وفي الحالة الثانية تختلف الأجزاء عن المجموع كل الاختلاف.
كذلك كلما تشابهت الأجزاء قل خضوع كل منها للآخر، فخضوع الأجزاء ينبئ عن مرتبة عالية في التكوين».
هذه فلسفة علمية يصح أن تنقل إلى الفلسفة السياسية، وهي صحيحة كل الصحة في العلم وفي السياسة، ولكنها تؤيد آراء الأحرار ولا تؤيد آراء المحافظين، فهي تستلزم أن تخضع جميعها لجزء واحد أو أجزاء قليلة، ثم هي تشير إلى حالة الصحة في تركيب الجسم حيث تتضامن أعضاؤه كلها في التعاون والتساند، ولا تشير إلى حالة المرض التي يختل فيها تركيب البنية فيزيد الدم في ناحية وينقص في ناحية أخرى.
كان جيتي يعارض مبادئ الثورة الفرنسية ولكنه كان يرى أن الثورات من خطأ الحكومات، وأن أحسن الحكومات هي التي تعلمنا أن نحكم أنفسنا، وقد حذف صيحات الحرية من طبعات رواية «جوبتر» الأخيرة، وكان يتساءل: «ما فائدة الحرية الزائدة إذا كنا لا نستطيع أن ننتفع بها!» ولو أنه حُرِمَ الحرية يومًا لما خطر له أن يسأل هذا السؤال.
وقد توسع جيتي في ختام «رحلات ولهلم ميستر» في الكلام عن الحكومات والأوطان وحقوق الإنسان في بلده وغيره بلده، فنصح بالرحلة والتنقل إلى حيث يفيد الإنسان؛ فقد يكون في بلده عاطلًا متبطلًا ولا يظهر عليه ذلك لساعته. أما في الغربة فالرجل الذي لا نفع فيه لا يلبث أن ينكشف، وقال: «ولقد طالما قيل إنه حيثما رضيت فهناك وطني، وأولى أن يقال: بل حيثما أفدت فهناك الوطن.» ثم قال: «على هذه الصفة نستطيع أن نحسب أنفسنا أعضاء في جامعة واحدة هي العالم بأسره، وهي فكرة بسيطة جليلة سهل على الإنسان تحقيقها بالفهم والاقتدار، فالاتحاد قوة كبرى؛ فلا انقسام إذن ولا خصومة بيننا، وليتعود كل منا أن يرى نفسه بغير صلة دائمة تقيده بمكانه، ولينشد الدوام في نفسه لا فيما حوله، فهنالك هو واجد واجبه وهنالك فلينعم به وليزده، وكل من وقف نفسه لألزم الحاجات وأقربها فهو متقدم في طريقه على ثقة في جميع الأحوال، أما الذين ينشدون الأرفع والأكمل فيفتقرون إلى حكمة أعظم وأقدر حتى في اختيار الطريق، أيًّا كان المرء عاملًا أو محاولًا فليعلم أنه لا يكفي نفسه ولا يستغني عن الجماعة.» ثم قال: «علينا واجبان أخذنا أنفسنا بالتزامهما أشد الالتزام، فأولهما أن نوقر كل عبادة دينية فإن جميع العبادات تلتقي على اختلافها في العقيدة، وثانيهما أن نوقر كذلك الحكومات على جميع أشكالها، ومتى كانت كل حكومة تهدي إلى العمل المدبر وتقوم على تشجيعه فعلينا أن نعمل وفاق ما تفرضه السلطة المقررة وترومه، أينما قسم لنا أن نكون.»
وليس في هذه النصائح جميعها نصيحة واحدة لا توافق طبيعة جتيى في صميها، فهو عالمي كأنه فردي، وليس كل عالمي فرديًّا على هذا المثال.
•••
لقد عرفت البارونة «فون شتين» صاحبها حقًّا حين سمته باسم «اللاما» كاهن التبت الأكبر العاكف على رأس جبله في نجوة عن العالمين؛ فقد عاش جيتي في صومعة من نفسه وعاش كاللاما في سكينته وبعده، غير أننا حريون أن ننبه في ختام هذه الكلمة إلى خطأ قد يقع فيه المتعجل فيضل في فهم هذه العبقرية أشد ضلال. فلنقل ما نقول في «راحة» جيتي ولا ننس أبدًا أنها هي راحة الذهن الكبير وليست براحة الذهن الصغير، وأن الزرافة لتقف في مكانها لا تبرحه ثم ترفع رأسها فتنال ذؤابة الشجر التي لا تنالها النملة إلا بعد ساعات تستهدف فيها للأخطار والمشقات، فإذا بدا للنملة أن تتهم الزرافة بالبطء وقلة الحركة فتفعل، ولكنها لا تصفها حينئذٍ أصدق الصفات.