المرأة في حياة جيتي
الأنوثة الأبدية تجذبنا إلى السماء.
أردنا أن نفرد كلمة خاصة للمرأة في حياة جيتي لأن شأن المرأة في حياة هذا الشاعر أَجَلُّ من أن يُعبَّر في ترجمة وجيزة كالترجمة التي تتسع لها هذه الرسالة.
فهو لم يفرغ يومًا من الحب وذكرياته، فأحب طائفة شتى، منهن الفتاة والنَّصَفُ، ومنهن الشقراء والسمراء، ومنهن التي أحبها للرشاقة والدماثة، والتي أحبها للجسد والمتعة، والتي أحبها للذكاء والحصافة، والتي أحبها للعطف الأنثوي الذي يحتاج إليه الرجل الشاعر في حياته النفسية، وكلهن أفدنه في أدبه وسريرته؛ فاتخذ بعضهن بطلات للقصص وصفَهن على الحقيقة وصف الملهم العارف، واتخذ بعضهن صديقات أمينات يكاشفهن ويكاشفنه ويعطف عليهن ويعطفن عليه. وكلهن أفدنه رجلًا وشاعرًا وصاحب منصب في الحكومة، فمن لم يدخلهن في روايته وأغانيه فقد عرف منهن طوية نفس المرأة ودخيلة الطبيعة الإنسانية؛ فجنى أحسن الثمر من الحب والصداقة.
وقد كانت سليقة جيتي سليقة الشاعر المحب للمرأة المتهيئ للعاطفة؛ فلهذا كثر عشقه وتعددت عشيقاته، ولكننا خُلَقَاءُ ألا ننسى هنا بقية آداب الفروسية التي هام بها الألمان في أواخر القرون الوسطى، فإنها فرضت الحب على الظرفاء والظريفات، وهيأت لجيتي هذا السبيل الممهد في نفسه وفي نفوس النساء.
ويطول بنا الشرح لو ذهبنا نُحصي كل من عرفهن في شبابه ومشيبه؛ فذلك درس دقيق شامل يخرج بنا عن القصد فيما نحن فيه، فلنجتزئ هنا بالإشارة إلى النساء اللواتي كن أظهرَ أثرًا في سيرته وأطول صحبة لذكراه، وأولئك فيما نعتقد خمس: هن «شارلوت بف» و«أنا إليصابات شونمان» و«البارونة فون ستين» و«بتينا برنتانو» و«كرستيانا فلبيوس».
•••
أما «شارلوت بف» فهي صاحبة قصة «فرتر» وهي مثال الفتاة الألمانية المهذبة الوديعة الصالحة للبيت والبنين مع ميل إلى السرور البريء، ماتت أمها وهي في نحو السادسة عشرة فقامت مع أبيها على تربية إخوتها الصغار وعرفت في البلدة باسم «أم الأطفال الحسان»، وكانت لها أخت أكبر منها اسمها «كارولين» ولكنها هي التي كانت تخدم الاطفال وتحنو عليهم، فناءت بأثقال الكفالة والتدبير وهي في هذه السن الصغيرة، فنشأت أميل إلى الجِدِّ والرصانة منها إلى اللعب والمراح.
وجاء جيتي في سنة ١٧٧٢ يتدرب على المحاماة في «فتزلار» حيث كانت تقيم، فرآها وشغف بها وأعجب بحسنها وحبها للطبيعة وإصغائها إلى الأدب وفكاهتها السهلة السَّمُوح، وكانت هي تألف عشرته وتجامله ولكنها ترده إلى حدود الصداقة بأدب ولباقة؛ لأنها كانت مخطوبة لفتى آخر موظف في إحدى السفارات اسمه كستنر أكبر من جيتي ببضع سنوات، وكان كستنر صديقًا لجيتي عرفه من بداية وصوله إلى «فتزلار»، فتعقدت الصلات أيما تعقد، ووجب على أحد الرجلين أن يُخلي المكان لصاحبه قبل أن تفسد الصحبة بين الجميع.
ولم تكن شارلوت تؤثِر الزواج بالشاعر على الزواج بكستنر؛ لأنها كانت فتاة البيت التي توحي إليها الغريزة اختيار الزوج الصالح والمحبة المستقرة، فلم يبقَ لجيتي إلا أن يتراجع ويتوارى في غير جلبة ولا غضب، وقد فعل.
وراح جيتي يتلدد ويتوجع لهذا الفراق وهذه الخيبة، ولكنه شعر ببعض الراحة بعد أن ألَّف روايته عن «آلام الفتى فرتر» وأودعها ما أودع من خواطره وأشجانه، ولعل من عبر العاطفة الإنسانية أن نعرف كيف التقى جيتي وشارلوت بعد نَيِّفٍ وأربعين سنة من هذا الفراق، فقد زارته في فيمار تسأله الرعاية لولديها أوغست وثيودور، فلقيت الشيخ جيتي مؤدِّبًا مفرطًا في الأدب، وبحثت من وراء هذا النقاب عن ملامح الفتى جيتي في غير طائل.
وتعسر الحديث بينهما ومل كل منهما صاحبه في فترة قصيرة، وخرجت تقول: «لو رأيته في الطريق ولم أعرف اسمه لما ترك في نفسي أقل أثر!»
وهكذا تتغير الآمال وتتقلب القلوب!
•••
أما «أنا إليصابات شونمان» فهي التي أوحت إلى جيتي بعض مناظر الجزء الأول من رواية «فوست» وأهمها شخص «مرجريت» بطلة تلك الرواية، وقد خلد جيتي هذه الفتاة باسم «ليلي» في أغانيه الشجية وقال لصديقه «إكرمان» الذي نقل إلينا أحاديثه أنها كانت الأولى والأخيرة التي انطوى لها على أصدق الحب.
عرفها في فرنكفورت بعد فراقه لشارلوت بثلاث سنوات، وكانت تقاربها في سنها ولكنهما على تفاوت في البيئة والخليقة؛ فقد كانت «ليلي» بنت صاحب مصرف سري يعيش في قصره عيشة الترف والظهور، وكانت لَعُوبًا عابثة تلهو بالحب والمحبين، ووصفها جيتي في قصيدته «حديقة ليلي» فإذا هي أسبه بالساحرة اليونانية التي ذكرتها لنا الأساطير وقالت لنا: إنها كانت تمسخ من تحب حيوانًا سلس المقادة يهبط في حبها حيث تشاء، «فلا معرض للسباع أحفل بأصنافها وأجناسها من معرض ليلي! فهي تقنو فيه أعجب الحيوان وتقنصها ولا تدري كيف وقعت لها» كذلك قال جيتي في مطلع تلك القصيدة. ثم قال: «وما اسم الحورية الحسناء؟ اسمها ليلي! وإياك والمزيد في العرفان بها! بل إن كنت لا تعرفها فاحمَد الله على ذلك، وما أكثر الصخب والتغريد إذا هي طلعت على سباعها وفي يدها سلة الحبوب … كل هذا من أجل فتات من الخبز اليبيس! ولكنه في كفيها لَهُوَ الشهد الحلو المذاق.» ثم قال: «ويا لنظرتها من نظرة ويا لهتافها باسم بيبي بيبي من هتاف! إنهما لتستهويان النسر من أريكة جوبيتر! ويمينًا لتُقبِلَنَّ حمائم فينوس الوديعات إليها ويُقْبِلَنَّ الطاووس الفاخر معها لو أتيح لها سماع تلك النبرة. وقد أعرف دبًّا ساء تعليمه وتنظيفه جذبته من ظلمة الغاب لتقوده تحت مقرعتها وتروضه كما تروض غيره … تقولون: أنا؟ من؟ ماذا؟ نعم يا رفاق، أنا ذلكم الدب الذي وقع في الحبالة مشدودًا بحبل من حرير.» ثم قال بلسان ليلي تذكره: «وحش! أجل، ولكنه مؤنس لا بأس به، هو أودع من أن يكون دبًّا وأوحش من أن يكون كلبًا.» ثم ختم القصيدة صائحًا: «أيتها الآلهة! أليس في قدرتك أن تمسحي عني هذا الطِّلَّسْمَ، يا لشكري ورضواني لو رددت علي الحرية المسلوبة! ولكن رويدك أيتها الآلهة لا تسعفيني بعونك. كلا! فليس عبثًا أن تضطرب أوصالي كما تضطرب الساعة، أقسم أن فيَّ بقيةً من القوة أحسها تجول في أوصالي.»
ولا يبعد أن يكون جيتي في هذه القصيدة ناظرًا إلى قصة روسو وصاحبته مدام ديبنيه التي كانت تدعوه بدُبِّهَا؛ بيد أن القصيدة مع هذا كبيرة الدلالة على «ليلي» وعلى الشاعر المتهكم الصادق في التهكم، فأي وصف لجيتي أصدق من وصفه لنفسه بالدب بين السباع! إذ ليس هو بالنمر الهجَّامة المغتال ولا هو بالفيل البطيء الأنيس، ولكنه قوام بينهما و«أودع من أن يكون دبا وأوحش من أن يكون كلبًا …» وهذه صورة لجيتي سيذكرها القارئ كلما ازداد علمًا بخلائقه وأخباره.
تلك هي ليلي وذلك هو جيتي! فأما «ليلي» الفتاة اللعوب فما كانت لتُرضِي أبا الشاعر الحريص على العُرف والآداب المُثلى في البيئة القديمة، وأما «جيتي» الفتى القليل اليسار فلم يكن ليُرضي صاحب المصرف الحريص على الثروة والسَّعَة، ولو وقف الأمر عند هذا لما صعُب تدبيره وتذليل عقباته، وإنما العقبة الكبرى في الحقيقة هما الحبيبان لا والد الحبيبة ولا والد الحبيب، فلا ليلي كانت تجِدُّ في طلب الزواج ولا جيتي كان يجِدُّ في طلبه، ولكنها رأت بين يديها فتى وسيمًا مشهورًا يتحدث الناس بروايته عن «آلام فرتر» وبالحب الذي أوحى تلك الرواية فودت أن تجرب قدرتها في فتنته، وكذلك رأى هو حبيبة فاتنة مزهوَّة لعوبًا وهو يعالج رسيسًا من الحب القديم فهويها وتعلق بها. وظل هكذا مترددًا لا يبلغ من عشقه أن يشتد فيحطم الحوائل ويُقدِم على الزواج ولا يبلغ من إعراضه أن يتنحى وينسى. وإنه لكذلك إذ أنقذه رسول الأمير بالدعوة إلى فيمار، فلبَّاها وإنَّ ما به من رغبة الإفلات لفوق ما به من رغبة اللِّيَاذِ بالأمير.
•••
وما استقر في فيمار حتى أخذ يتسلى عن هذه الخيبة الجديدة بمعشوقة جديدة، إلا أن معشوقة اليوم امرأة وافية الأنوثة وليست بصبية غريرة، امرأة تكبره بنحو سبع سنوات وتعرف من شئون الدنيا وخفايا قلب الرجل وقلب المرأة ما ليست تعرفه فتاة ويندر أن تعرفه امرأة؛ لأنها جمعت إلى خبرة السن خبرة البلاط؛ حيث كانت إحدى الخواتين وكان زوجها أمين القصر الأميري، وجمعت إلى الخبرتين معًا خبرة الفهم والفن والاطِّلاع، فكانت موسيقية مصوِّرة تغني وتقرأ الشعر وتخوض في المعارف العامة، وقد تشوَّق كلاهما إلى الآخر قبل أن يراه فسمعت هي بجيتي وحُسنِه ورأى هو صورتها وأُعجِب برشاقتها، فلما تلاقيا كانا على أُهْبَةِ للحب فتحابَّا. وطالت صلة الحب بينهما عشر سنوات يراها وتراه ويكتب إليها وتكتب إليه، وتُدافِعه تارة وتجاذبه تارة أخرى، وهي في جميع ذلك تتعهده بيد صناع فلا يشبع ولا يمل، فإذا آنست منه الملالة فسرعان ما تعيده إليها بألعوبة كيِّسة وحيلة مُطمِعة مُيئِسة. وفي إحدى قصائده إليها يقول لها: «أنت تعرفين كل حركة في ضميري وتلمحين كل هزة في وشائجي وعروقي، وتستطيعين بفرد نظرة منك أن تقرأيني، أنا الذي طالما تعبت عيون بني الفناء في النفاذ إلى سريرتي، أنت تسكبين السكينة في دمي الفائر وتقوِّمين خطاي الشاردة الهوجاء.»
وجيتي يعني ما يقول؛ ففي هذا الخطاب بيان لسر هذا العشق الذي قام على تفاهُم الفكرين وتقارُب النفسين، وما كان جيتي بالمخدوع في ذكائها فقد شهد صديقه شيلر بفضلها وعذَره في إعجابه بها، وما كانت على عيني شيلر غشاوة الحب التي تحجب الحقيقة عن المحبين.
وقد لبثا على غرام يحتدم يومًا ويسكن يومًا حتى نيَّفت المعشوقة على الأربعين ووقع جيتي في شِباك غرام جديد، فتغاضبا وتعاتبا وأراد منها أن تكون الصديقة فأبت إلا أن تكون العشيقة! فانبتَّ ما بينهما برهة ثم تراجعا إلى الود ورضِيَا بالولاء الدائم بعد الغرام الزائل. وعاشت إلى الرابعة والثمانين فهنَّأته آخر تهنئة لها بعيد ميلاده، فرد عليها بأبيات متكلَّفة هي جهد ما استطاع من إحياء لماضي الغرام الدفين.
تلك هي البارونة فون شتين الألمانية التي تنتمي من ناحية الأم إلى أسرة إيقوسية، وهي أذكى وأقدر صواحبه الكثيرات، وهي التي شاطرته كما رأيت حياة الفكر والقلب والخيال، ونَعِمَ في ظلها بسكينة كان في حاجة إليها، وأنس إلى قربها أُنس الحنان والولاء.
•••
أما «بتينا برنتانو» فهي من سلالة إيطالية من ناحية أبيها، وهي أهم عندنا ممَّا كانت عند جيتي؛ فقد حفظت في كتابها أحاديث له ولأمه لا غنية عنها في شرح ترجمته، وربما كان الأصح أنها هي عَشِقَتْ جيتي ولم يكن لها بعاشق: عشقته وهو في الثامنة والخمسين وهي في مقتبَل الشباب.
وكان هو يعرف أمها مكسميليان ويعبث بمغازلتها في فرنكفورت بُعَيْدَ إخفاقه في حب شارلوت، فلما زارته «بتينا» في فيمار أزعجته بجماحها ورعونتها وفرط غيرتها في غير موجِب؛ فقد كانت طفلة في مزاجها وألاعيبها وليست هي بطفلة في سِنِيها، وأهل أسرتها كلهم مشهورون بهذه الخِفَّة على شهرتهم بالفطنة واللوذعية! ولم يكن أثقل على جيتي من الرعونة و«الشيطنة» الصبيانية، ولا سيما بعد أن جاوز الشباب وأوشك أن يجاوز الكهولة إلى الشيخوخة، فما هو إلا أن علم أنها شتمت زوجه على أثر خلاف بينهما في معرض الصور حتى اغتنم الفرصة وأبى عليها أن تدخل بيته بعدها. فراحت ترجو وتتوسل وهو على إعراضه مصرٌّ وبجفائه معتصم، ولولا كتاباتها عن جيتي لصح أن نُغفِل ذكرها في هذه الكلمة السريعة.
قال جيتي في إحدى أغانيه: «ذهبت إلى الغاب لا أدري فيمَ ذهبت، وما كنت أريد شيئًا ولا عناني أن أريد. فإني لَأرسل النظر في ظلالها إذا زُهَيْرَةٌ هنالك وضيئة كأنها نجم، مليحة كأنها عين، هممت أن أقطفها فسمعتها تقول في لطف ورخامة: أقاطفي أنت لأذوي في يديك بعد هنيهة؟ فحنوت عليها ورفعتها من جذورها ونقلتها إلى حديقة تصاقب المنزل البهيج، وهنالك غرستها من جديد في مكان فريد، فترعرعت ولم يفارقها الرواء.»
هذه الزهرة التي تَغَنَّى بها جيتي هي الفتاة «كرستيان فلبيوس» التي انتهت علاقته بها إلى زواج وعِشرة رَضِيَّةٍ، وليست الأغنية كلها شعرًا وخيالًا لأنه في الحقيقة لقي الفتاة أول لقاء في حديقة فيمار المشهورة، ومن هناك قطفها ونقلها إلى المكان المصاقب للمنزل البهيج!
وكانت في الثالثة والعشرين وهو في التاسعة والثلاثين حين سيقت إلى طريقه، أو حين تعمدت أن تلقاه لترفع إليه عريضة لأخيها القَصصي الناشئ يلتمس فيها عملًا يرتزق منه، فراعته الفتاة وراعها، واشتبكت بينهما المودة، ثم نقلها هي وأمها إلى منزله بعدما ولدت له أكبر أبنائه الذي سماه أوغست على اسم الأمير. ولكنه لم يكتب كتاب زواجه بها إلا بعد ثماني عشرة سنة من لقائها؛ إذ أغار الفرنسيون على بلاده فأشفق أن يموت أو تموت على غير وثيقة مشروعة.
وكانت كرستيان على قسط وافر من الصباحة كأنها «رب الخمر في صباه» كما وصفتها أم شوبنهور الفيلسوف، وكانت على هُيامها بالسرور وامتلائها بنشوة الصِّبا خير من يسوس البيت ويُعين الزوج في عمله ولو كان من قبيل عمل جيتي في العلم والأدب؛ فقد كان يغنيها العطف عن الفهم حين تعضل عليها مسائله وأفكاره، إلا أنها لم تكن من الجهل بحيث صورتها «بتينا» والبارونة فون شتين عن حسد وغيرة. فإن قصائد جيتي التي خاطبها بها شواهدُ على حَظٍّ من الثقافة والفطنة غير يسير، ويقول الثقات في اللغة الألمانية إن قصائد الفصول الأربعة والرسائل الرومانية وما شاكلها من الأشعار التي نظمها في ظل هذه العاطفة تفيض بحلاوة الأسلوب ورنة الصدق والغبطة. وكلام جيتي يدل على الحب أوضح دلالة؛ فقد كتب من إيطاليا إلى صديقه هردر يقول له وما هو بالمسرف في وصف عواطفه: «إن الذين خلفتهم بعدي لأعزاء جدًّا عليَّ، ولا أكتمك أنني شغف بالفتاة أيما شغف. وما علمت مبلغ نياطي بها إلا يوم بعدت عنها.» وقال في أبيات: «لطالما ضللت السبيل ورجعت إلى سوائه، ولكنني ما شعرت قَطُّ بمثل هذه السعادة؛ فسعادتي كلها رهينة بهذه الفتاة، فإن كانت هذه ضلالة أخرى فناشدتكِ أيتها الأرباب إلا ما أعفيتني من ألم العلم بها، فلا أطلع عليها قبل يوم الحِمام.»
وامتزجت الفتاة بقريحته فأثبتها في روايته الكبيرة «ولهلم ميستر» باسم تريزة. وفاض بالقصائد الغنائية والخواطر العذبة، ولوحظ أن أيامه معها كانت كأخصب أوقاته وأسخاها بالشعر والبحث في جميع أطوار حياته، وليس ذلك لأنها كانت تشاركه في نظراته الرفيعة وتُساجله في مراميه البعيدة، بل لأنها أراحته وأهنأت قلبه وصقلت حواشي عيشه فأقبل على النظم والبحث بنفس قريرة وقريحة طليقة، وحسبُه ذلك من عشيرة ملازمة أيًّا ما كان مرتقاها من التهذيب والثقافة.
إلا أن الناس قد نقموا منه أنه أسكنها بيته وإن لم ينقموا منه أنه اتَّصل بها، وربما كانت نقمتهم هذه لأنهم يُدارون المداراة ويكرهون المسائل المكشوفة، أو لأن الفتاة كانت من طبقة وضيعة ولم تكن من طبقته ولا على غراره؛ إذ كانت عاملة في مصنع للأزهار الورقية وكان أبوها موظفًا صغيرًا اشتهر بإدمان الخمر ورثاثة الحالة. وإلا فما كانت الأخلاق يومئذٍ تتحرج عن هذه الإباحة، وما عرف الناس عهدًا بلغت فيه الثورة على العُرف ما بلغته إبان الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية. ومع هذا تسمَّح معه أصدقاؤه المقرَّبون ولم يهجروا بيته ولا أوصدوا بيوتهم في وجه امرأته، وكان الأمير في مقدمتهم؛ فقَبِلَ أن يشرف على تعميد وليدها ووليد صديقه.
وكان «جيتي» لا يذكرها لأمه حتى بلغ عمر الولد الصغير سنتين، فلما ذكرها لها في رسائله فرِحت الجدة بحفيدها وطفقت تغدق عليه الهدايا واللعب ولا تمَل السؤال عنه والحدب عليه، وما كان لها أن تفعل غير ذلك وهو حفيدها وسليل البقية الباقية من ذريتها؛ فقد مات جميع أبنائها أطفالًا وماتت بنتها «كورنيليا» التي جاوزت الطفولة في عنفوان شبابها، ولم يبقَ إلا ولدها جيتي وهو لم يتزوج؛ فهي خليقة أن تنسى كل شيء وتعطف على ولده وزوجه حيثما كان له ولد وزوج، وقد تزايد تعلُّقها بالفتاة بعدما علمت من لهفتها على زوجها وسهرها على تمريضه والترفيه عنه في المرض الخطير الذي أصابه في الثانية والخمسين، وأيقنت من شدة إخلاصها له بعدما علمت أنها حمته بنفسها من عدوان الجند الفرنسيين السكارى الذين هجموا على بيته وهموا أن يبطشوا به.
وقد يعوزنا هنا أن نتابع مصير هذه الذُّرية كلها إلى ختام حياة الشاعر، فنقول إنه رزق خمسة أبناء ماتوا في طفولتهم الباكرة إلا أكبرهم أوغست فقد نَيَّفَ على الأربعين ومات في إيطاليا في أُخريات أيام أبيه، فتجرع الشيخ هذه الغصة وصبر عليها جهده، وانصرف إلى أحفاده الثلاثة يُعلِّمهم ويداعبهم ويتأسى بملاحظتهم، وفيهم يقول وهو يشاهدهم يتحدثون وينشدون الأشعار ويمثلون: «إنهم ليشبهون الشعراء الحق جِدَّ الشبه! فبينما أحدهم غارق في حماسته إذا بالآخر يتثاءب! فإذا جاء دوره في الحماسة راح الآخر يصفر!» ولو أنصف لقال إنهم يشبهون جدهم قبل غيره من الشعراء!
أما كرستيان فقد ماتت وهي في الحادية والخمسين وهو في السابعة والستين، ولا يذكر العارفون بالرجل أنه حزن لفقد إنسان قط حزنه لفقدها ولا جزع في موقف قط جزعه على سرير موتها؛ فقد تخاذل جَلَده الذي قَلَّمَا خانه في الشدائد فجَثَا على ركبتيه وتناول يدها الباردة وهو يصيح بها: «إنك لا تريدين أن تتركيني! كلا! كلا! إنك لن تتركيني …» ورأته زوج صاحبه كنيبل بعد سنوات أربع فقالت: إنه لا يتعزى.
•••
لقد كان في مسلك جيتي مع كرستيان مروءة وكان فيه خطل، فمن المروءة أنه آواها إلى بيته واحتمل في سبيلها غضب قومه، ومن الخطل أنه أخَّر عقد زواجه بها حتى شَبَّ ابنه وهو يعلم حقيقة العلاقة بين أبيه وأمه فأثَّر ذلك في أدبه وخلقه، وأكبر من ذلك خطلًا أنه تعجَّل في علاقته بالفتاة ولم ينظر إلى أصلها. ولسنا نعني فقرها ورثاثة حالها ففي الفقيرات من هن أشرف وأكرم من الغنيات، ولكنما عنينا وراثتها عن أخلاق والدها وسوء أثرها في ولدها؛ فقد ورثت المسكينة عادة الإدمان وأورثتها الولد الوحيد الذي عاش لها، وكان أشبه بها حتى في ملامح وجهه كما يُرى من المقابلة بين صورته وصورتها، فلما مات تبيَّنت الضخامة المفرطة في حجم كبده لإدمانه السُّكر وما إليه، وكانت هذه الآفة من أسباب الجناية على شبابه.
•••
قال أميل لدفج في ترجمته لجيتي: «إن جيتي لم يكن قَطُّ بالمغوي الجميل أو الظافر الفخور بغزواته أو «بالدون جوان» المشهور في حلبات الغرام، وإنما كان المتوسِّل أبدًا والموليَ الشكر والعرفان أبدًا، وأكثر ما كان السائل المردود لا السائل المقبول. وإنما نقترب من فهم الأساطير الذائعة عن عواطفه وتركيب أعماله وقصة روحه كلما عرفنا فيه الرجل المسلِّم المنقاد وعرفنا فيه إرادة الحب التي لا تروى ولا تزال تروض نفسها حتى تنتهي بالخضوع لحقائق الوجود.»
ولاحظ أميل لدفج في موضع آخر أنه ما دخل قط في حومة حب إلا اعتصم منها آخر الأمر بالهرب، وكلتا الملاحظتين صادقة نفاذة إلى حقيقة الرجل؛ فها نحن أولاء نرى كيف انتهت علاقاته بخمس نساء على نماذج مختلفات، فأربع منهن آلت علاقاته بهن إلى التراجع والنكوص، ولم تكن العلاقة الخامسة ممَّا يحتمل تراجعًا ونكوصًا؛ فلذلك بقي متصلًا بها أو موصولًا إليها، وكان بقاؤه هنا — كما كان نكوصه هناك — خضوعًا لحكم الضرورة أو لما سماه لدفج «بحقائق الوجود»، وليست هذه العلاقات الخمس إلا مثلًا لعلاقات أخرى لم نعرض لها في هذه الكلمة.
وجيتي مع هذا لم يكن دميمًا ولا زريًّا ولا كانت تنقصه وجاهة المحضر والمنصب ولا وجاهة الأمل في المستقبل، ففيم هذا الوقوع الدائم في أسر المرأة وهذا المآل الدائم إلى النكوص عنها؟ نحسب أن في الأمر شيئًا من الثقة بالنفس في بعض صورها الغريبة، فالرجل كان على علم بقدره ورجحانه على مزاحميه، فكان لهذا لا يبالي أن يتراجع ولا يشعر بغضاضة الخاسر المدحور الذي يعلق قيمته كلها على نجاحه في هذا الميدان أو إخفاقه فيه، فإذا فاز جيتي في الميدان أو أخفق فليس قصب السبق بالمشكوك فيه؛ لأنه في يديه! فلا جرَم يتراجع وهو في صورة الفائز القانع من الغنيمة بالإياب.
ونحسب أن في الأمر سرًّا آخر يرجع إلى طبيعة الحب الذي كان يحبه والنظرة التي كان ينظرها، فلم يخلق جيتي لحب النزوات ولا لحب الاقتحام ولا لحب الإغواء، وإنما خلق لحب الفنان المتذوِّق المستطلع المتأمل؛ فليس الفرق بين حبه المرأة وحبه التمثال الجميل إلا أن المرأة تجمع من «الفن ووسائل الاستطلاع» ما ليس يجمعه التمثال الجميل، فهي صورة وشعور وعاطفة وإرادة، وأين له بالتمثال الذي يتذوَّق معه كل هذه المعاني متفرقات ومجتمعات؟ فالاحتواء الكامل مطلب فوق الرغبة وفوق الطاقة؛ لأن الفنان المتذوق قد ينعم بالتمثال فيغنيه نعيمه به وإن لم يحمله إلى بيته، بل قد ينعم به فوق نعيم مالكه الذي يقتنيه ويحتويه.
وزِدْ على ذلك طبيعة التسليم التي تكره الهجوم وتؤثِر مَشَقَّةَ الاحتمال على مشقة النضال، فهي طبيعة «الدب» المسالم المظلوم في حسبانه من السباع إلا حين يغضب ويثور، وحينئذ قد تغضب الهرة الوديعة وقد يغضب الكلب الأليف.
كتب جيتي في شبابه إلى سلزمان يقول: «غرست في طفولتي شجرة كرز وجعلت أرقب نموها وأنا مغتبط مسرور، فلما أزهرت جاء ضباب الربيع فصوَّح الأزهار، ثم انتظرت سنة أخرى حتى أينعت فجاءت الطير فأكلت الثمر، ثم انتظرت سنة فجاء الدود فالجار الطامع فالآفات، وسأغرس شجرة أخرى كلما وجدت لي حديقة!»
ذلك دأبُ جيتي في جميع حياته لا في الطفولة وحدها، وفي كل حديقة لا في حديقة النبات وحدها، وغير مستثنًى من ذلك حديقة الحب ولا حديقة الفن ولا حديقة التأليف! فإذا اقتضاه الأمر صبرًا وانتظارًا فهو صابر منتظر! وإذا اقتضاه الأمر دفعًا ونضالًا فما هو بدافع ولا مناضل.