مقدمة إلى الجزء الرابع
لن نعرف أبدًا الإجابة على وجه اليقين. أحيانًا، تترك حاجة المجتمعات للدفاع عن نفسها آثارًا واضحة، على هيئة أسوارٍ وأسلحة، إلا أن أغلب الوقت والطاقة المُهدرَين في الدفاع لا يترك أي سجل أثري، ومن ثم لا يُمكننا التأكُّد يقينًا من أن هذا هو ما يفسِّر التغذية الأسوأ للمزارعين الأوائل. ومع ذلك، ها هو تخمين معقول.
زادت الزراعة زيادةً مهولة من مزايا الاحتشاد للدفاع عن النفس للبشر. بمجرد استقرار مجموعةٍ كبيرة في حياة مستقرَّة وعدم القدرة على الاختباء من أعدائها، تحظى بأمانٍ أكبر بكثير مما كان بمقدور أفرادها لو انقسموا إلى عدَّة مجموعاتٍ أصغر عددًا. ولكن ليست نتيجة تكريس الوقت والجهد والمَوارد للدفاع عن نفسك أن تجعلك تشعُر بمزيدٍ من الأمن فحسب. فعادةً ما يجعل هذا جارك يشعُر بقدْر «أقل» من الأمان. وفي هذا العامل الخارجي البسيط، ولكنه مُروِّع، تكمُن إحدى القوى المحركة للمجتمع الحديث، ولإنجازاته التكنولوجية المُدهشة وكذلك لقُدرته على ارتكاب أعمالٍ وحشية على الصعيد الصناعي.
ما إن شرَعَت المجتمعات الزراعية الأولى في الاستثمار بصورةٍ منهجية في الدفاع، بدأت حقيقة تَمكُّنهم من القيام بذلك تُشكِّل تهديدًا لجيرانهم، بما في ذلك المجتمعات التي كانت على هامش اعتماد الزراعة هي الأخرى. إذ لا يُوجَد ما يُمكن أن يُطلق عليه تكنولوجيا دفاع بحتة. فحتَّى وجود أسوار حول مدينة ما يُمكن أن يجعل من الأسهل على الأطراف المُهاجِمة أن ترتحل للإغارة على المجتمعات المحلية القريبة عالمةً بأن لديها ملاذًا آمنًا. الهراوة التي استخدمها الإنسان في عصور ما قبل التاريخ في درء المُعتدِين كانت هي نفس الهراوة التي استخدمها ليعتديَ على الآخرين. ما إن يَستثمِر مجتمع محلي في جيش متواضع، سواء كان من المرتزقة أو من مواطنيه، يُمكن لإغراء تشجيع ذلك الجيش على تبرير وجوده، بالاعتداء على الجيران الأضعف، أن يُصبح طاغيًا. لذا، حتى لو لم يكن وضع المجتمعات الزراعية الأولى بالضرورة أفضل مما لو كانت قد استمرَّت بدون زراعة، فبمجرد أن بدأت العملية، كان لدى مجتمعاتٍ كثيرة اهتمام بالانضمام إليها. وكما هي الحال مع العوامل الخارجية المتمثلة في الاكتظاظ والمرض التي رأيناها آنفًا بين سكان المدينة، كان يُمكن لهذه التعاملات أن تؤدِّيَ إلى تصرُّف كل فردٍ حتمًا ضد المصالح الجماعية.
ويأتي التهديد الأساسي الثالث من الطبيعة المُضطربة وغير المنظمة للازدهار الاقتصادي ذاته الذي يُمثل أساس القوة العسكرية. لقد أدركت الدول التي حقَّقت ازدهارًا على الصعيد التجاري، أحيانًا بعد فوات الأوان، أن نفس التجار وروَّاد الأعمال الذين يُمدونهم باحتياجاتهم الدفاعية يُسلِّحُون أيضًا أعداءهم. كان التحرُّر الديمقراطي لتقسيم العمل، الذي يُتيح تسليح الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء، سِمة من سمات حروب العصور القديمة ومُستمر بلا انقطاع حتى يومنا هذا.
يُلقي الفصل السادس عشر نظرة على الطريقة التي نمَت بها الدولة الحديثة منذ تأسيسها كوسيلةٍ بسيطة للدفاع بين أفراد المجتمعات الزراعية المُستقرة. تاريخيًّا، رغم أن قوة الجاذبية المُعتادة التي تربط جميع المجتمعات معًا تمثَّلت في الحاجة إلى التكاتُف معًا من أجل الدفاع، فإنَّ في خضمِّ التعامُل مع جيرانها، واجهت المجتمعات اختيارًا مُستمرًّا بين نوعَين من الاستراتيجيات؛ القوة من خلال الازدهار والازدهار من خلال القوة. ورغم أن هاتَين الاستراتيجيَّتَين تُمثِّلان نقطتَين على سلسلة مُتصلة وليستا نوعَين مُختلفين، فإن الاستراتيجية الأولى هي عمومًا الاستراتيجية التي اتبعتْها دويلات المدن والدول القومية؛ أما الاستراتيجية الثانية فهي التي اتَّبعتها الإمبراطوريات. ومن قبيل المفارقة أنه كلما سعَتِ الدول الناجحة إلى القوة من خلال تحقيق الازدهار، زاد إغراء التخلِّي عنها سعيًا وراء الازدهار من خلال القوة. وفي دورة النمو الاقتصادي هذه وروح المغامرة العسكرية والدهاء السياسي والتدهور الاقتصادي اللاحق، يكمُن جزء كبير من الديناميكية المضطربة لتاريخ العالَم.
إغراء التخلِّي عن استراتيجية التجارة السلمية مع جيرانها لصالح المصادرة غير الصبورة ليست الخطر الوحيد الذي تُواجهه الدول التي تنعم بالرخاء. مع تعدُّد المهام التي تقوم بها الدولة وازديادها تعقيدًا، زاد في المقابل طموح الدولة لعلاج عيوب تقسيم العمل الحديث. الآن تفرض الدولة الضرائب وتُقدِّم الدعم وتُعيد توزيع الدخل وتنظم الأسواق وتتدخَّل لمواجهة البطالة. باختصار، تفرض الدول الحديثة قيودًا على عمل المواطنين والشركات والأسواق بطرُق غير مسبوقة تاريخيًّا. لدى هذه الأنشطة القُدرة على تعويض أوجه قصور مجتمع يتَّسِم فيه الجميع برؤية ضيقة ولا أحد في موضع المسئولية. وفي الوقت نفسه، زادت تلك الأنشطة من الحاجة إلى فرض قيودٍ على ما يُمكن للدولة نفسها القيام به. ونظرًا لأن إدارة المجتمع الحديث صارت أكثر تعقيدًا، استنسخت الدولة نفسها (حتمًا وبالضرورة) داخل إطار بِنيتها الداخلية تقسيم العمل ذاته الذي تسعى إلى مواجهة عُيوبه. لم يَعُد ثمة وجود لملك؛ وبدلًا من ذلك يُوجَد وزراء مالية وهيئات تنظيمية وهيئات تشريعية ولجان وسفارات وهيئات استشارية ومجلس وزراء ومحاكم وجماعات ضغط، لكلٍّ منهم أجندته الخاصة ومُتورِّط في منافسات لا يُمكن للغرباء سوى تخمينها. لا يزال الرئيس أو رئيس الوزراء يُمسك بزمام سلطة الحياة أو الموت، ولا سيما إرسال المواطنين إلى الحرب، ولكن القوى التي تُشكِّل مثل هذه القرارات هي نتاج الكثير من الضغوط السياسية المتضاربة وعُرضة للرؤية النفقية بطرُق تتشابه على نحوٍ مُخيف مع طرُق مجتمع السوق نفسه. وهذا لا يجعل الدولة عاجزة عن تنظيم اقتصاد السوق، ولا يجعل الأمر أشبَهَ بأعمى يقود عميانًا. ولكنَّ ذو الرؤية الضيقة يقود آخرَ مثله، في عالمٍ يتطلَّب فيه انتشار التكنولوجيا الحديثة وقدرتها على التدمير رؤية بانورامية كما لم يحدُث من قبل.
ويتساءل الفصل السابع عشر عن الموضع الذي أوصلتنا إليه في مطلع القرن الحادي والعشرين التجربةُ الطويلة التي بدأت منذ عشرة آلاف سنة. العولمة ليست ظاهرة جديدة، مع أنها تُغيِّر باستمرار الثياب التنكُّرية التي تلبسها. لقد بنى «الإنسان العاقل» مؤسسات ذات مستوى تعقيد مُذهِل مكَّنت سيكولوجية الصيد وجمع الثمار من السيطرة على بيئتها بطريقةٍ ذات طبيعة غير مسبوقة. ومع ذلك، لدى تلك المؤسَّسات القدرة على إلحاق ضرَرٍ كبير بنا وبعالَمنا. يستلزم الأمر تعديل أي حلول مُستدامة لهذه الأخطار لتتوافق مع الأخطار نفسها ومع سيكولوجية الصيد وجمع الثمار لدَينا، التي تعوق قدرتنا على الاستجابة لتلك الحلول.