تصدير
تُعدُّ السيارة التي تعمل بسلاسةٍ إحدى مُتَع الحياة؛ فهي تُمكِّنُك من الوصول حيثما تريد، وفي الوقت المحدد، وبدرجةٍ كبيرة من الثقة، وغالبًا ما تصِل إلى وجهتك بأسلوبٍ أنيق، مع موسيقى تُعزَف داخل سيارتك، وتكييف يحافظ على راحتك، ونظام عالمي لتحديد المواقع يُرشدك إلى طريقك. نحن نَميل إلى اعتبار السيارات من مُسلَّمات العالم المُتقدِّم؛ إذ نتعامل معها باعتبارها أحد ثوابت الحياة، أي مصدرًا مُتاحًا لنا دومًا. نحن نُخطط لمشاريع حياتنا بافتراض أن السيارة ستكون قطعًا جزءًا من بيئتِنا المحيطة. ولكن عندما تتعطَّل سيارتك، تتوقَّف حياتك بالمعنى الحرفي للكلمة. وإذا لم تكن شغوفًا بالسيارات ومزوَّدًا بتدريبٍ تقني، فستجد نفسك معتمدًا على شبكةٍ من سائقي أوناش الإنقاذ والميكانيكيِّين وتجار السيارات وكثيرين غيرهم. وعند مرحلة مُعيَّنة، تُقرِّر استبدال سيارتك القديمة المُتهالكة بصورةٍ مُتزايدة وتبدأ بدايةً جديدة مع سيارة ذات طراز حديث. وتستمرُّ الحياة، بلا تأثُّر يُذكَر تقريبًا.
ولكن ماذا عن المنظومة الضخمة التي تجعل كلَّ هذا ممكنًا؛ الطرق السريعة ومعامل تكرير النفط ومُصنِّعي السيارات وشركات التأمين والبنوك والبورصة والحكومة؟ لطالما كانت مسيرة حضارتنا تسير بسلاسة — باستثناء بعض الوقفات الخطيرة — لآلاف السنين، لتزداد بذلك تعقيدًا وقوة. هل يمكن أن تتعطَّل المسيرة؟ أجل، يُمكن ذلك، وعندئذ إلى من يُمكننا الرجوع ليساعدنا في العودة على الطريق الصحيح مرةً أخرى؟ لا يُمكنك شراء حضارة جديدة إذا انهارَت حضارتك؛ ومن ثمَّ حريٌّ بنا أن نُحافظ على مسيرة حضارتنا. من هم المصلحون الموثوق بهم إذن؟ الساسة، القضاة، رجال البنوك، رجالات الصناعة، الصحفيون، أساتذة الجامعات! باختصار، قادة مجتمعنا أشبَهُ بالسائقين العاديِّين أكثر مما قد تظنُّ أنت؛ فهم يُسهِمون بنصيبهم على المستوى المحلِّي لتحفيز الترس خاصَّتهم في الآلة بأكملها، بينما يَسعدون بجهلهم بالتعقيدات التي يعتمد عليها النظام بأكمله. والرؤية الضيقة التفاؤلية التي يعملون من خلالها ليسَت، كما يقول بول سيبرايت، خللًا مؤسِفًا في النظام وقابلًا للتصحيح؛ وإنما هي ظرف مواتٍ. «ترتكز» صروح البنية الاجتماعية، التي تُشكِّل حياتنا على أكثر من صعيد، على ثقتنا القاصرة النظر في أن بِنيَتَها سليمة ولا تحتاج إلى الاهتمام من جانبنا.
وعند نُقطة معيَّنة، يُقارن سيبرايت حضارتنا بمُستعمَرة للنمل الأبيض. فكلاهما عبارة عن تُحفة فنية، مُعجزات من التصميم البارع مُرتكِزة على تصميم بارع آخر، تعلو بشموخ فوق سطح ارتكاز، مجهود عدد هائل من الأفراد الذين يَتفاعَلُون معًا في تناغُم. ومن ثَمَّ، فإن كليهما ناتج ثانوي للعمَليات التطورية التي أنتجت هؤلاء الأفراد وشكَّلتْهم، وفي كلتا الحالتَين، «لم تكن» ابتكارات التصميم المسئولة عن المرونة الملحوظة والكفاءة الجديرة بالملاحَظة، بنات أفكار الأفراد؛ وإنما نتائج مُبهِجة لمساعٍ غير متعمَّدة بوجهٍ عام وقاصرة النظر، على مدار أجيال عديدة. ولكن ثمة اختلافات عميقة أيضًا. فالتعاون الإنساني هو ظاهرة دقيقة واستثنائية، تختلف تمامًا عن التعاون شِبه الغافل بين أفراد النمل الأبيض، والذي هو بالفعل غير متوقَّع نوعًا ما في العالَم الطبيعي، سِمة فريدة لسلالةٍ فريدة في عملية التطوُّر.
لقد كُتب الكثير عن «البِنية الاجتماعية للواقع» و«بنية الواقع الاجتماعي» (وهو التوصيف الأفضل كثيرًا)، إلا أنَّ مُعظمَه كتبه مُفكرون يملؤهم، مثل ملَّاك السيارات السُّذَّج، الإعجاب بالمعجزة التي يصفونها؛ ولكن ليس لديهم أدنى فكرة عن «الكيفية» التي تكونت بها هذه البنية، و«سبب» تضافر أجزائها بالطريقة التي هي عليها. تتكوَّن هذه المؤسسات، التي تُحسِّن جودة الحياة، من نظم عقائدية متفاعِلة ومتشابكة؛ بخصوص ما هو متوقَّع، وما هو غير متوقَّع، وما يدعو إلى القلق، وما يُعدُّ ضمن المُسلَّمات، وما هو ممكن، وما هو مُستحيل (تقريبًا). نحن نميل إلى اعتبار هذه البنية من البديهيات التي تؤخَذ على علَّتها، إحدى حقائق الحياة الثابتة، إلا أنها في الواقع تطوُّر حديث جدًّا، من المنظور البيولوجي، وعلى الرغم من أنها تحظى ببعض القدرات الاستثنائية من ناحية الاستقرار الذاتي، فإنها ليست منيعة كما يفترض المنطق الشائع عادةً. وكما قال عالِم الأحياء دارسي طومسون، قبل سنوات كثيرة مضَت، «كل شيء يعمل بالطريقة التي جُبل عليها؛ لأنه جُبل على ذلك.» والفكرة العميقة وراء هذه الحقيقة البديهية هي أن التقدير الشديد للتسويات والتوترات التي تشتمل عليها هذه البنية غير المتعمَّدة بوجهٍ عام هو شرط أساسي لفهم نقاط القوة والضعف للأداة الاجتماعية التي تَعتمِد عليها حياتنا الآن كبشر. يُرتِّب سيبرايت عالَمنا الاقتصادي قطعةً تلو الأخرى، موضِّحًا سبب وجود المال والبنوك والشركات والتسويق والتأمين والضوابط الحكومية والفقر وانعدام الاستقرار السياسي، موضحًا أيضًا كيف تتولَّد المعلومات، وتُستخدَم، ويُغفَل عنها، وتُستغَل في هذا النسيج الاجتماعي المعقَّد.
ومثل الكتَّاب المعاصرين الآخَرين، يرى سيبرايت ظهور التعاون كظاهِرة، غيَّرت وجه العالَم فعلًا، تتطلَّب تفسيرًا بيولوجيًّا — تطوريًّا — محضًا، ولكنه لا يقع في فخِّ المُغالاة في التفاؤل، كما فعل البعض. ويعتمد التعاون، كما يقول سيبرايت، على «الثقة»، وهي بمثابة نوع من الغراء الاجتماعي غير المرئي تقريبًا الذي من شأنه أن يجعل المشروعات العظيمة، وكذلك السيئة، مُمكِنة، وهذه الثقة، في الواقع، ليست «غريزة طبيعية» مغروسة في أذهاننا من خلال التطوُّر. بل هي أحدث بكثيرٍ من ذلك. هي، بالأحرى، ناتج ثانوي للظروف الاجتماعية التي أصبحت في الحال ظرفَها المواتي وأهم منتوج لها. لقد طوَّرنا أنفسنا لنبلُغ مستوياتٍ متقدمة من الحضارة الحديثة، ومشاعرنا الفطرية واستجاباتنا الغريزية لا تخدُم دومًا ظروفنا الجديدة. ومن خلال الاستعانة بالهندسة العكسية لتحليل هذه البنى الاجتماعية، يستعرض سيبرايت مصدر قُوَّتها وكذلك أوجه قصورها الحقيقية والخطيرة جدًّا.
لفتت الطبعة الأولى من هذا الكتاب الانتباه؛ إذ كانت بمثابة دعوة للتفكير بطريقةٍ جديدة في ورطتنا، وهذه الطبعة المُنقَّحة تَستفيض في التفسيرات بناءً على هذا الأساس، موضحةً قوة الأفكار المطروحة من خلال تطبيقها على أزماتنا الاقتصادية الحالية، مُلقيةً بذلك ضوءًا فعالًا للغاية على الأخطاء المُغرية التي يجب أن نَتفاداها إذا كنَّا نَرغب في منع المزيد من الانهيارات الكارثية مُستقبلًا. (فعلى سبيل المثال، معاقبة المجرمين وعزل الأغبياء من السلطة هي فقط الخطوة الأولى والبسيطة نسبيًّا مما يتعيَّن القيام به؛ نظرًا لأنه يُوجَد مشكلات تنظيمية قد يتعثَّر فيها حتى القديسون والعباقرة في المستقبل.)
ومثل كتاب جارد دايموند «الأسلحة والجراثيم والفولاذ»، يتَّسم هذا الكتاب بطموح جريء؛ إذ يَستند إلى مجموعة دراسات مُبهرة من علومٍ شتَّى؛ كالتاريخ وعلم الأحياء وعِلم الاجتماع وعِلم النفس بالإضافة إلى عِلم الاقتصاد، ويتحدَّى التصوُّرات الضيقة الأفق للمُفكِّرين في كل هذه المجالات، مُستفيدًا في الوقت نفسه من نتائج أبحاثهم استفادةً كبرى. يتَّصف خيال سيبرايت بالقوَّة بقدر عِلمه؛ إذ يُقدِّم وجهات نظر جديدة في كل صفحة تقريبًا من صفحات كتابه. فهو عبقري في عقد المُقارنات: كيف يَتشابه الاتِّصاف بالثراء مع الاتِّصاف بالتعقيد، ولماذا تُوجد قطارات بدون سائقين، ولكن لا تُوجَد طائرات بلا طيَّارين؟ ويذكر، على نحوٍ مُفزِع، أنه لا يتعين عليه أن يكبِتَ رغبة مُلحَّة لقتل النادل والحصول على وجبته مجانًا، وهو إغراء يصعب بالتأكيد على أبناء عمومتنا، قرود الشمبانزي، مقاومته. هذا الكتاب هو العرض الأوضح والأكثر إقناعًا، فيما صادفت، لتأثير التفكير الاقتصادي وأهميته، كما يُعدُّ كتابًا تمهيديًّا مثاليًّا عن عِلم الاقتصاد، إذ يخلو تمامًا من المصطلحات المعقدة، ويتضمَّن تفسيرات سَلِسة ومُفعَمة بالحيوية لجميع المفاهيم الأساسية. ويكاد سيبرايت لا يترك صفحةً من كتابه دون أن يدحض المُعتقدات الشائعة ويوضِّح بسهولة المفاهيم التي يُساء فهمها بأمثلةٍ بارعة. فعلى سبيل المثال، يذكُر أن الأطفال، في المُتوسِّط، «أقل» ذكاءً من آبائهم قليلًا، ولكن آباءهم، في المتوسط، «أكثر» ذكاءً من أجدادهم قليلًا! كيف يُمكن أن يكون هذا؟ إذا كان هذا يُربكك، إذن فأنت لم تفهم بعد كيف يشقُّ التطوُّر طريقه الوعر على مُنحدَرات الجدارة. يطرح سيبرايت أسئلةً لم تَخطر أبدًا على بالك، وإجاباتها ليست واضحة مطلقًا، إلا بنظرةٍ استرجاعية.
فكِّر مرة أخرى في مُستعمرة النمل الأبيض. يُمكننا نحن، البشر المُراقِبين، أن نُقدِّر تميزها وتعقيدها بطرُق تفوق قدرات الجهاز العصبي لسكانها من النمل. كما يُمكننا أيضًا أن «نطمح» إلى بلوغ منظورٍ سامٍ مُماثل في عالَمنا الاصطناعي، وهو إنجاز لا يستطيع تخيُّله سوى البشر. وإذا لم نُفلح، فإننا نخاطر بتفكيك إبداعاتنا الثمينة رغم حُسن نوايانا. والكثير من الأشياء التي نَعتبرها مجرد «بديهيات» ثبَت أنها لا يُعوَّل عليها؛ ومن ثم علينا أن نُعيد التفكير في الأمر برمته بدءًا من أول المبادئ. وتلك هي المهمة التي يضطلع بها هذا الكتاب المهم جدًّا.
المدير المشارك لمركز الدراسات المعرفية
أستاذ الفلسفة بكلية أوستين بي فليتشر، جامعة تافتس