مقدمة إلى الجزء الثاني
ما الذي يَجعل الثقة بالغُرباء تصرُّفًا مقبولًا، بدلًا من اعتبارها تصرُّفًا انتحاريًّا؟ ولا تَكفي الإشارة إلى أن المُجتمَعات، التي يَستطيع الأفراد فيها أن يَثِقَ بعضُهم ببعض، تَجني فوائد السلام والرفاهية على نطاقٍ لم يكن يتخيَّله أسلافُنا القُدامى. وهي فعلًا تجني الفوائد، وسرعان ما ستَكشف ما إذا كان باستطاعة الأفراد أن يَستفيدوا بفوائد السلوك التعاوني للآخرين دون الإسهام بشيءٍ من جانبهم. أن تُخطئ في الحُكم على جدارة الآخرين بالثقة ليس أمرًا مُكلفًا وحسْب؛ وإنما بالِغ الخطورة أيضًا، وهو كذلك بالنسبة إلى البشر أكثر من غيرهم من الأنواع الأخرى. والأدلة التي سنَستعرضُها في الجزء الثاني تُشير إلى أنه، في ظل غياب المُحفِّزات على النقيض، قد يتصرَّف بعض البشر بعُنفٍ شديد تجاه الآخرين لدرجة أنه لا يُوجَد إنسان عاقِل قد يَثِق في الآخرين بناءً على نزعاته الفطرية وحدَها. فإذا فعلْنا ذلك، فهذا لأنَّنا نَبتكِر هياكل للحياة الاجتماعية يكون فيها إطلاق مثل هذه الأحكام حيال الثقة أمرًا منطقيًّا. ورغم ذلك، تُحقِّق هذه الهياكل نجاحًا — أغلب الوقت — لأنها لا تتنافى مع نزعاتنا الفطرية وإنما تَرتكز عليها بطريقة بنَّاءة.
نوعان من النزعات ثبتَت أهميتهما لتطورنا؛ القدرة على الحساب العقلاني لتكاليف التعاون وفوائده، والنزعة لما يُطلق عليه «التبادُلية الصارمة»، الرغبة في رد الحسنة بالحسنة ورد الخيانة بالانتقام، حتى وإن لم يكن هذا ما تُوصي به الحسابات العقلانية، وهو معروف ﺑ «التبادُلية الصارمة» لتفريقه عن ذلك النوع من التبادلية الذي قد يُسفر عن حسابات عقلانية مُعقَّدة. ولا يُمكن للحسابات أو للتبادلية الصارمة أن يدعما التعاون بمعزلٍ بعضهما عن بعض. فالأشخاص الذين يُذعنون إلى الحسابات الشخصية فقط سيكونون انتهازيِّين للغاية، ومن ثَمَّ لن يثقَ بهم أحد. والأشخاص الذين يُذعنون إلى التبادُلية دون حسابات سيستغلُّهم الآخرون بكل سهولة. ويبدو أن الانتقاء الطبيعي كان على الأرجح في جانب التوازن بين هاتَين النزعتَين لدى أجدادنا. وقد فعل ذلك لأنَّ هذا التوازُن كان مُهمًّا لتطوُّر الحياة الاجتماعية حتى قبل أن يبدأ هؤلاء الأسلاف التعامُل مع الغرباء بأيِّ طريقةٍ منهجية. ولكن بمجرَّد أن وُجدت النزعتان، كان من الممكن الجمع بينهما لجعل التعامُل بين الغرباء مُمكنًا.
في الفصول التالية، سنُلقي نظرةً على كيفية تعزيز التوازن بين التبادلية الصارمة والحسابات الشخصية لحياتنا الاجتماعية. لا يُمكن لأيِّ منظومةٍ اجتماعية أن تعمل استنادًا على الحسابات الشخصية وحدَها؛ إلا أن المنظومات الاجتماعية الجيدة التصميم يُمكن أن تجعل قدرًا ضئيلًا من التبادُلية يُحقِّق الكثير. هي تقوم بذلك، في الواقع، من خلال جعل التعامُل مع الغرباء كما لو كانوا أقارب أو أصدقاء اعتباريين أمرًا مقبولًا إلينا. إننا نصُوغ قواعد سلوك نحو الغرباء تُحاكي الطريقة التي نتعامَل بها مع أُسَرنا وأصدقائنا، ونعزز هذه القواعد من خلال نظم حوافز واضحة، وكذلك من خلال التعليم والتدريب؛ أي التدريب على الحياة الاجتماعية المُصمَّمة لجعل السلوك الانتهازي مُزعجًا جدًّا لنا. ومن خلال تدريب أنفسنا على اتباع هذه القواعد الخاصة بالتعاون الاجتماعي، يجعل هذا التدريب سلوكَنا جديرًا بثقة الآخرين بالدرجة الكافية. وفي الوقت نفسه، وعلى نحوٍ مُربك، يُعزِّز رؤيتنا النفقية، ممَّا يمنحنا قدرةَ التأثير على عالمنا الشاسع الذي يفُوق قُدرتنا على أن نُلقي بالًا أغلب الوقت للأضرار التي قد نتسبَّب فيها، وهي قُدرة ذات عواقب سنستكشفها على أكمل وجه في الجزء الثالث.