مقدمة الجزء الثالث
كان علماء الاقتصاد في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مثل فلاسفة
الأخلاق في العالَم القديم، مُولَعِين باستخلاص أوجه التشابُه بين المجتمعات
البشرية ومُستعمَرات الحشرات الاجتماعية مثل النمل والنحل. وتَنتمي
«حكاية النحل» لماندفيل إلى تقليدٍ يمتدُّ إلى حكايات الكاتب الإغريقي
إيسوب، وسار آخرون من مُعاصريه، مثل لافونتين في حكاية الجندب والنملة،
على نفس النهج؛ ممَّا ألهم، حتَّى في يومنا هذا، أشخاصًا آخَرين على
شاكلة وودي ألن. في الواقع، تلك التشبيهات مُضَلِّلَة؛ فالمجتمعات
الإنسانية الحديثة لا تُشبه مُستعمَرات النمل أو النحل أو النمل
الأبيض. فكما رأينا، تتضمَّن المُجتمَعات الإنسانية تفاعُلاتٍ بين غرباء
لا تجمعُهم صِلة قرابة عِوَضًا عن تفاعُلات مع أقارب مُباشِرين. وعلى
الرغم من أن الاعتقاد السابق القائل بأنه بالأساس لم تكن تُوجد
تفاعُلات سلمية بين الأفراد الذين لا تجمعهم صِلة قرابة من نفس أنواع
الحشرات الاجتماعية قد استُبْدِل الآن بصورةٍ أكثر تعقيدًا، قد تتعايش
فيها مثلًا المُستعمرات التي أنشأتها ملكات لا تجمعهنَّ صِلة
قرابة،
1 فإن الحشرات الاجتماعية لا تُقدِّم لنا أي تَشابُهٍ مع
التفاعُلات اليومية بين الغرباء في حياة البشر.
ومع ذلك، تَحمل لنا الحشرات الاجتماعية درسًا مُختلفًا، فهي تضرب
أمثلةً مذهلة على نظُمٍ معقَّدة تتصرَّف بطرُقٍ ليسَت جزءًا من نية
المشاركين فيها (أو حتى من وَعيهم). ها هو وصف للطريقة التي يَبني بها
النمل الأبيض عشَّه:
حين يشرع النمل الأبيض في بناء عُش، يُعَدِّل بيئته المباشرة
بصُنع كراتِ وحْلٍ صغيرة ثم وضعها على ركيزة العُش؛ وتُلقَّح كل كرة
من كرات الوحل بكميةٍ دقيقة من فيرومون مُعين. ويضع النمل الأبيض
كرات الوَحْل بطريقةٍ تقديرية، تكون عشوائية في البداية. ومع ذلك،
فإنَّ احتمالية وضع كرة الوَحْل في موضعٍ مُعيَّن تزداد مع الوجود
المُستشعر لكرات الوحل الأخرى والتركيز المُستشعر للفيرومون.
تزيد المواضع العشوائية القليلة الأولى احتمالية وضع أفراد
النمل الأبيض الأخرى حمولتها في المكان نفسه. ومن خلال هذه
اللعبة العشوائية العمياء، تنشأ أعمدة صغيرة؛ ويجعل الفيرومون
المُنبعِث عبر الأعمدة المجاورة قِممَ الأعمدة مَبنية بمَيلٍ نحو
الأعمدة المجاورة الأخرى، وفي النهاية تتقابل القِمَم لتُشكِّل
قناطر، هي وحدات البناء الأساسية لعشِّ النمل الأبيض.
2
بعبارة أخرى، لا يُمكن وصف حشرات النمل الأبيض بأنهم مهندسون
معماريون لمجرَّد أن عملهم اليدوي قد يبدو شبيهًا بالعمارة. إنها مجرد
ناقلات لكُرات الوحْل تتمتع بحاسَّة شمٍّ قوية. ويظهر فن العمارة من المزج
بين جميع محاولاتها المُنفصِلة. قبل أكثر من قرنَين، وبالمثل كان لدى آدم
سميث وجهة نظر غير بارزة عن دوافع التجَّار، ومع ذلك كان لديه تقدير
متفائل لما يُمكن أن يُحقِّقُوه مُجتمِعيًّا:
ولذلك، إذ يسعى كل فردٍ بقدْر ما في وسعه أن يُوظف رأسماله في
دعم الصناعة المحلية وأن يُوجِّه بذلك تلك الصناعة التي ربما يكون
لإنتاجيتها أعظم قيمة، يَكدَح كل فردٍ بالضرورة ليُحقِّق الإيراد
السنوي للمُجتمَع بأعظم ما في وسعه. وبوجهٍ عام، هو بالتأكيد
لا يقصد الترويج للمصلحة العامة؛ ولا يعرِف إلى أي مدًى يُرَوِّج
لها. وبتفضيله دعم الصناعة المحلية على الصناعة الأجنبية، هو
لا يرجو سوى أمنه الشخصي؛ وبتوجيهه تلك الصناعة بطريقةٍ ربما
تضمَن لإنتاجيَّتها أعظم قيمة، هو لا يَسعى إلا إلى مكسبِه الخاص،
تدفعُه في هذه الحالة، كما في حالاتٍ أخرى كثيرة، يدٌ خفية إلى
تعزيز غايةٍ لم تكن جزءًا من نواياه. وليس الأسوأ دائمًا
للمجتمع أن هذه الغاية لم تكن جزءًا من نواياه. فهو، بالسعي
وراء مصلحته الشخصية، يُعزِّز غالبًا مصلحة المجتمع بفاعلية
أكثر من حين يقصد حقًّا تعزيزها. لم أعرف مُطلقًا خيرًا كثيرًا
فعله أولئك الذين تكلَّفوا التجارة لأجل الصالح العام. إنه
تكلُّف ليس شائعًا حقًّا بين التجار، وهم ليسوا بحاجةٍ إلا إلى
بضع كلمات فقط لإثنائهم عنه.
3
وعلى الرغم من أن الكثير من الكُتَّاب والساسة في عصور لاحقة حاولوا
استغلال اسم آدم سميث للترويج لعدة قضايا يمينية، فإنه بالتأكيد لم يكن
يَعتقِد أنَّ العواقب الاجتماعية غير المقصودة لجشَع الأفراد كانت ذات
فائدة دائمًا. اشتُهِر آدم سميث بتنديده بعصابات التجار الذين كان الهدف
الأساسي من اجتماعاتهم رفع الأسعار على حساب الجمهور. بل إن إيما
روتشيلد أشارت إلى أن استخدامه للاستعارة المجازية «يدٌ خفية» كانت
ترديدًا ساخرًا لعبارة «يد دموية وخفية» التي جاءت في مناجاة ماكبث بطل
مسرحية شكسبير للتغطية على الجرائم التي هو بصدَد ارتكابها.
4 ولكن رغم أنَّنا لن نَعرِف مُطلقًا ماذا كان سميث سيرى بشأن
التحالفات السياسية الحديثة، يُمكننا أن نكون على يقينٍ من أنه كان
مُنبهرًا بقُدرة المجتمع على إظهار أنماطٍ لم يكن مُطلقًا في نية أحد من
أفراده تصميمها. قد تُثير بعض هذه الأنماط الإعجاب، وبعضها قد يُثير
القلق. يُحذِّر سميث قُرَّاءه باستمرارٍ من الاعتقاد بأنَّ في إمكاننا
استغلال إعجابنا أو رفضنا ﻟ «دوافع» شخصٍ ما معيارًا لتحديد ما إذا كان
ينبغي تشجيع تصرُّفاته في المجتمع أم ضبطها.
تساءل الجزء الثاني من هذا الكتاب عن مدى إمكانية حدوث التعاون بين
الغرباء داخل المجتمع الإنساني؛ كيفية ظهوره وكذلك ماهية الأُسس
النفسية والمؤسَّسية التي تعتمد عليها مصداقيته. والآن، سيُلقي الجزء
الثالث نظرةً على بعضِ العواقب الأوسع نطاقًا للسلوك الإنساني الوارد
في الجزء الثاني، غالبًا استنادًا إلى رواياتٍ تاريخية عن نتائج
التفاعُلات البشرية. ويُلقي الفصل العاشر نظرةً على المدن، التي تُمثِّل
بوتقة الرفاهية والابتكار في المجتمع وكذلك أماكن تَجَمُّع التلوُّث
والعُنف والمرض؛ وغالبًا ما تحدُث كل هذه الأشياء في نفس الوقت. لا
تُصمَّم المدن الكبرى عن وعيٍ في مجملها أبدًا؛ وإنما تعكس رقصة تانجو
غامضة بين التخطيط الواعي والصدفة البحتة؛ بالإضافة إلى عددٍ هائل من
التفاعُلات غير المُخطَّطة بين الأفراد من سكَّان المدن. يعرف علماء
الاقتصاد هذه التفاعُلات باسم «التأثيرات الخارجية»، وهي الأساس لفهم
ذلك البريق المُراوِغ الذي يُميِّز المدن الكُبرى عن باقي المدن. إلا أن
التأثيرات الخارجية، لا سيما تلك المُتعلِّقة بالتلوُّث والمرَض، تُعد
تحديًا كبيرًا أمام قُدرتنا على التعاون. ولطالَما تغلَّبت المدن على
مشكلة التلوُّث بالعمل الجماعي؛ يترتَّب على ذلك عادةً تصدير التلوُّث إلى
المناطق الريفية المُحيطة. ولكن لا يستطيع العالَم في مُجمله أن يفعل ذلك،
لأنه ليس لديه منطقة ريفية مُحيطة به. لذا، يجِب عليه أن يبحث عن طرُقٍ
للعناية ببيئته الخاصة عن طريق حسابٍ دقيق للتكاليف المفروضة على تلك
البيئة من قِبَل النشاط الإنساني الجماعي الذي لا يُوجَد أحد مسئول عنه
في المُجمَل. ويتناول الفصل الحادي عشر نوعيةً مُعيَّنة من المشكلات
البيئية، وهي استخدام الماء، باعتبارها مثالًا على التحدِّيات التي
تواجهها الإنسانية وكذلك على الطريقة التي تطوَّرت بها استجاباتنا لتلك
التحديات عبر التاريخ. تضمَّنت الاستجابات الناجحة عادةً ابتكار حقوق
ملكية — توزيع للمسئوليات — تُرَتَّب فيه الأولويات بناءً على أنظمة
الأسعار، ومع ذلك فثمَّة غموض بشأن الكيفية التي تصير بها الأسعار
تجسيدًا لجميع المعلومات المُعقَّدة التي ستحتاجها لتلعب هذا الدور. ومن
ثَمَّ، يلقي الفصل الثاني عشر نظرةً على نُظُم الأسعار وكيفية تطورها
عبر عملية تفاعلٍ في الأسواق. تستطيع الأسواق عادةً استخلاص وتلخيص
المعلومات بخصوص ما يعتقده البائعون والمشترون وما يريدونه، مع أن
المشاركين لا يعتزمون ذلك، وهي معلومات تُخبرنا بشيءٍ مهم جدًّا بشأن
كيفية إدارة الموارد في عالَمٍ يتَّسم بالنُّدرة.
ومع ذلك، لا تلعب الأسواق مُطلقًا دور الوسيط في كثيرٍ من التعاملات
المهمة بين البشر، التي تحدث عوضًا عن ذلك في مؤسسات تُنَسَّق أنشطتها
الأساسية تنسيقًا أكثر وعيًا، وبخاصة في الشركات. ويتساءل الفصل الثاني
عشر عن تفسير النمو وسمات الشركات المُعاصرة والأدوار ذات الصِّلة التي
تلعبها الأسواق والشركات في تقسيم العمل. لقد نجحت الشركات إلى حدٍّ كبير
باعتبارها أدواتٍ لنشر المعرفة، وكذلك باعتبارها آلياتٍ للتحكُّم فيها. ومن
ثَمَّ، يتناول الفصل الثالث عشر كيفية ظهور نموِّ المعرفة في المجتمع
باعتباره شكلًا آخر من أشكال التفاعل غير المُخطط له بين الغرباء؛ في
الواقع، تقسيم للعمل بين الأجيال. وأخيرًا، يلقي الفصل الرابع عشر نظرة
على المُستبعَدين والمحرومين من المزايا العديدة للمجتمع المعاصر؛
الفقراء والمرضى، لا سيما المصابين بأمراضٍ عقلية وبالاكتئاب. هل
يتحمَّل تقسيم العمل جزءًا من اللوم، وإن كان كذلك، هل يُمكن لقدْرٍ أكبر
من التنسيق الواعي أن يُحسِّن ظروف حياتهم؟ وهذا يُمهِّد جسرًا طبيعيًّا
إلى الجزء الرابع، الذي سيتناول طبيعة العمل الجماعي؛ أي الاستجابات
المُخطَّط لها تجاه العواقب المُقلِقة غير المُخطط لها الناجمة عن
التعامل بين الغرباء.