المعرفة والرمزية
الآثار الرمزية الأولى
في وقتٍ مُتأخِّر من بعد ظهر أحد أيام الآحاد عام ١٩٩٤، قبل عيد ميلاد المسيح بأسبوع، وصل ثلاثة أصدقاء إلى نهاية رحلة استكشافية للكهوف، من رحلات وقت الأصيل، في آرديش بجنوب فرنسا. وفي تجويفٍ صغير بالصخر، موقع شهير لمُستكشِفي الكهوف والجوَّالة، عثروا بالصُّدفة على فتحةٍ كانت تقود إلى ممرٍّ يتَّسع إلى مكان فسيح وخالٍ. لعلهم كانوا بحاجة إلى معدات إضافية للمُواصَلة، الأمر الذي قد يعني التوقُّف والعودة إلى سيارتهم، إلا أن الليل كان قد خيم بالفعل وكانوا مُتعبين. وبمجرَّد أن عادُوا إلى السيارة، كادُوا أن يُقرِّروا عدم العودة مرةً أخرى؛ ولكنهم حين فعلوا، اكتشفوا مجموعةً من الممرات تربط بين تجاويف شاسعة؛ الموقع بأسره كان يمتدُّ على مساحة عدة مئات من الأمتار. اكتشفت واحدة من الثلاثة، وهي إليت برونيل، رسمةً صغيرة لحيوان ماموث بلون مغرة حمراء على قطعة حجرٍ مُتدلِّية. انتبهوا إثر هذا الاكتِشاف، وفتَّشوا الجدران واكتشَفُوا مئات الرسومات والمنحوتات الصخرية، التي كان بعضُها ذا حيوية وتعقيدات استثنائية. وعلى الرغم من أنهم لم يُدركُوا ذلك حينها، فإن أقدم هذه الرسومات يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، مما يجعل عمرها ضعف عمر رسومات الكهف الشهيرة في كهف لاسكو. وفي ليلةٍ واحدة، وسَّعوا فَهمنا لأصل الثقافة الإنسانية عائدين بالزمن إلى آلافٍ عدة من السنين.
هذا التفسير للأدلة مثار جدلٍ كبير، وبخاصةٍ لأنه لا يستطيع أحد أن يفعل أكثر من التخمين بشأن ما إذا كان يُحتمل أن هذا التطور الهائل في القدرات السلوكية البشرية كان نتيجةَ تعديل بسيط نسبيًّا في البنية التشريحية الدقيقة للمخ البشري. لا تترك الأمخاخ حفريات؛ ولكن الجماجم فقط تفعل ذلك، ولم تختلف جماجم أوائل البشر المُعاصرين ثقافيًّا عن جماجم أسلافهم المباشِرين مُنعدمي الثقافة. ثمة جدال كثير أيضًا بين المتخصِّصين بشأن كيفية الوصف الدقيق للقدرات العقلية التي كانت لازمة للبشر لتطوير الثقافة بهذه الطريقة. على سبيل المثال، تذهب سوزان بلاكمور في كتابها «ماكينة الميم» إلى أنَّ كلَّ ما كان مطلوبًا كان القدرة على تقليد الآخرين، وهي قدرة تجعلنا مُختلفِين جدًّا عن الحيوانات الأخرى، وما إن تُكْتَسَب، تُطْلِق طوفانًا متواصلًا من التقليد قاد أفكارنا وتنظيماتنا إلى الاستقلال بنفسها. يذكر مايكل توماسيلو في كتابه «الأصول الثقافية للإدراك البشري» أنَّ القدرة على التقليد للدرجة التي نفعلها تتطلَّب في حدِّ ذاتها مهاراتٍ «أخرى»، وبخاصةٍ القدرة على تصور أنفسنا من وجهة نظر الآخرين.
تُوفِّر الأغراض الرمزية عدة مزايا كُبرى أكثر من الثقافة الشفهية المحضة. فهي عادةً ما تكون أكثر صمودًا من الأنسجة الدماغية. ويُمكن مشاركتها؛ فربما ينظُر كثيرون إلى صورةٍ أو يقرءون إهداءً (تحمل هذه بعض سمات ما يُطلِق عليه علماء الاقتصاد «السلع العامة»). ونتيجة لذلك، لدى أيِّ فرد القدرة على الوصول إلى مكتبة أفكار أكبر بكثير مما يمكنه تخزينه في دماغه. وفي النهاية، حقيقة أن الرموز يمكن إعادة دمجها بطرُق جديدة وغير متوقعة تُتيح لمُستخدميها التجريب والاختراع وتسجيل اختراعاتهم للمُستخدِمين المُستقبليين. وهذا «التدفق الإدراكي»، كما أطلق عليه عالم الآثار ستيفن ميثين، ربما كان مسئولًا عن اختراع الزراعة، من خلال تمكين البشر من استحداث علاقةٍ جديدة مع الحيوانات والنباتات التي سبق لهم الخروج لاصطيادها. على أيِّ حال، من المدهش أنه بعد بضعة ملايين من السنين من التطوُّر البشري، لا بدَّ أن الزراعة اختُرعَت على نحوٍ مُستقِل في سبعة أماكن مختلفة من العالَم على الأقل بعد مضي بضعة آلاف من السنين على ابتكار أول غرضٍ رمزي. على الرغم من وجود حُجَجٍ مقنعة بأن عوامل أخرى، مثل تغيُّر المناخ، شاركت في الأمر، فإن ثمة تغيُّراتٍ مناخية جذرية قبل ذلك لم تُحدِث تغييرًا جذريًّا جدًّا في السلوك البشري. لعله من قبيل الصُّدفة، ولكن من الأرجح أن اختراعًا واحدًا (الأغراض الرمزية) يسَّر ظهور اختراع آخر (الزراعة) بمجرد أن كانت الظروف الإيكولوجية مُواتية.
من شأن بعض القرَّاء الجدد الكثيرين، الذين تيسَّر لهم الحصول على الكتب نتيجةً لذلك، أن يقرءوا من أجل مُتعتِهم وتعليمهم الخاص. ومن شأن غيرهم أن تُلهمَهم القراءة لمزيدٍ من الابتكار. على سبيل المثال، ونَستشهِد مُجددًا بما كتبته المُؤرِّخة إليزابيث آيزنشتاين، علماء الفلك كوبرنيكوس وتايكو براهي ويوهانس كيبلر «سنحت لهم فرصة مُعاينة مجموعة أكبر من السجلات واستخدام أدلة مرجعية أكثر من أيِّ عالم فلك قبلهم.» كان من شأن البعض الآخر مُجددًا أن يستخدم الاختراع وسيلةً لتأسيس أعمالٍ تجارية، مثل وليام كاكستون، الذي أسَّس أول مطبعةٍ في إنجلترا عام ١٤٧٦ (التي لم يطبع فيها الكتاب المقدس وحسب، وإنما أيضًا أول نُسخة شهيرة من «حكايات كانتربري» لتشوسر). حتى وإن كان الدافع الأصلي هو العمل التجاري لا المزيد من الاختراعات، فقد لعبت إسهامات كاكستون اللاحقة للتهجئة والتحرير دورًا كبيرًا في التوحيد المُتزايد للغة الإنجليزية.
في عصرنا الحالي، كان لحقيقة أن الأغراض الرمزية يُمكن أن تُضاعِف قوة فكرة واحدة لألف ضعف، أو مليون ضعف، نتائج مُدهِشة على المكافآت التي يَجنيها أولئك الذين لديهم أفكار يراها الآخرون مفيدة أو جذابة. بإمكان بعض الناس، مثل بيل جيتس، أن يصيروا مليارديرات لأن أفكارهم يُمكن نسخها؛ فالعبقرية عبارة عن ١٪ إلهام، و٩٩٪ تكرار. بالمثل، مع أنَّ الموسيقيين يَقلقُون من أثر النَّسخ على المكافآت على أعمالهم، لم يُصبح بعض الموسيقيين أثرياء للغاية إلا منذ أن صار نَسْخ العروض الموسيقية ممكنًا. قبل القرن العشرين، اعتمد الموسيقيُّون في مكافآتهم على جماهير عروضهم، وهو ما قيد عدد المعجبين القادرين على دفع ثمن تذكرة الحفلة بالعدد القادر على الجلوس في قاعة حفلات موسيقية واحدة. أُثري واحد أو اثنين من خلال الرعاية الملكية، مثل جان بابتيست لولي، الذي عمل لدى الملك لويس الرابع عشر، ملك فرنسا. وبالكاد استطاع آخرون من أصحاب الإبداعات العظيمة أن يعيشوا على الكفاف؛ فموتسارت مات فقيرًا. الآن صار الموسيقيون، من ذوي الموهِبة المتواضعة مقارنةً بموتسارت، من أصحاب الملايين، ويشتكون حين تُحَمَّل نُسَخٌ من أغانيهم مجانًا من على شبكة الإنترنت. في الواقع، ثمَّة أدلة قوية على أن الأفكار تغذِّي الطلب على المزيد من الأفكار الأخرى؛ وكما يدرك مدير أي موقع إلكتروني، لن تجد أبدًا أُناسًا يدفعون اشتراكًا لمحتوًى إذا لم تُتِح لهم قدرًا من المحتوى المُثير مجانًا. لم يُفْقِر اختراع تسجيلات الفيديو أستديوهات هوليوود، وإنما أثراها بقدْرٍ هائل؛ حيث إنها تجني الآن من تأجير أقراص الدي في دي أكثر من مبيعات تذاكر السينما. وبالمثل، من غير المُرجَّح أن تُفْقِر تكنولوجيا النَّسْخ المتطورة صناعة الموسيقى في المستقبل المنظور.
ليست كل مكافآت الإبداع مكافآت مالية. يُصبح بعض الناس أقل ثراءً من نجوم الأوبرا ولكنَّهم، مع ذلك، يجتذبون احترام الآخرين وإعجابهم (الاحترام من ناحية كونه طريقة نُقدر بها أولئك الذين أسدَوا لنا خدمات نقدرها أكثر مما يَفعل السوق). ونظرًا لأن الطباعة زادت عدد الجمهور من قرَّاء الكتب (والأعمال الفنية القابلة للنسخ مثل النقوش) في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أصبح المزيد من الاهتمام مُرَكَّزًا على فكرة العبقرية الأدبية أو الفنية الفردية. فجودة الغرَض الرمزي أصبحت تفوق إجمالي تصرُّفات الشخص الذي أنتجه. كان هذا مفهومًا، باعتبار أن الأول كان أطول عمرًا بكثيرٍ وكان له تأثير مباشر على الآخرين أكثر بكثيرٍ من الأخير. باستخدام نوع من المنطق العكسي، كادت فكرة أن الفنانين الفرديِّين ربما يعيشون حياةً فوضوية، ضبابية، مُفتقرة إلى الجمال، أن تُصبح هي المعيار الأساسي لمصداقيتهم الفنية، كما لو كانت دليلًا على كمال الغرض الفني الذي لا يُمكن أن يُولَد إلا في لحظة حاسمة من حياة الفرد. إنها ثمرة غير معتادة لفكرة الوصول إلى الغاية الروحية وهي الفكرة التي كان لها جذور مُتأصِّلة في العصور القديمة والوسطى وتَقضي بأن يصوغ الناس حياتهم بالكامل حول تمجيد الرب.
الثقة بين الأجيال
بفضل المعرفة الجماعية والتراكمية التي أتاحتها الأغراض الرمزية، يستطيع أفراد البشر أن يضطلعوا بتحدياتٍ لم يكن يتخيَّلُها أجدادنا من الصيادين وجامعي الثمار. كما رأينا في الفصول السابقة، زادت الإمكانيات المتاحة أمام البشرية زيادة هائلة بسبب تقسيم العمل. ولكن من شأن حتى فرد واحد معاصر ومُتعلِّم، يُحاول البقاء على قيد الحياة بدون مساعدة على جزيرة صحراوية، أن يُبليَ في بعض الجوانب أفضل بكثيرٍ من واحد من أجدادنا من الصيادين وجامعي الثمار. قد تنقُصه المعرفة الواسعة التي ربما يكون قد تعلَّمها الفرد في مجتمع الصيد وجمع الثمار من مُعاصِريه الأكبر سنًّا، وأحيانًا يثبت أن هذه المعرفة مهمة لبقائه على قيد الحياة. من المؤكد أن الصيد وجمع الثمار من المهام الصعبة جدًّا على المستوى المعرفي، وأصعب بكثيرٍ من العديد من المهن الصناعية الحديثة. قد يجد أيضًا أنه كان من الصعب جدًّا أن يتخلَّص من عادات الاعتماد على الآخرين من أجل توريد السِّلَع اللازمة لوجوده اليومي. ولكن ربما يكون لديه المعرفة التراكمية لأجيالٍ كثيرة لم تَعُد على قيد الحياة، انتقلت عبر الأغراض الرمزية للتبادُل الثقافي. فإذا تغلَّب على التحديات المبدئية، فمن شأنه أن يكون قادرًا على تجنُّب الكثير من البدايات الخاطئة، والتجارب المؤلمة والشِّراك المُهلكة التي نُصبَت لأجدادنا. وعلى النقيض من ذلك، لن يكون ما سيحتاج إليه الصائدون وجامعو الثمار الذين ظهروا فجأةً في الحياة المعاصرة للتعامُل مع تحدِّياتها هو مجرد القدرة على تقاسُم المهام بشكلٍ مُتقَن كما نفعل، وإنما سيَحتاجون أيضًا إلى الإرث الثقافي والفكري للأجيال التي سبقتْنا والذي يُحرِّرنا من الحاجة إلى إعادة ابتكار كل اختراع من جديد. بعبارةٍ أخرى، أتاحت الأغراض الرمزية تقسيم العمل تقسيمًا دقيقًا عبر الأجيال وليس فقط في نطاقها.
بطريقة مُماثلة لتقسيم العمل في نطاق الأجيال، بناءً على ذلك، استلزم استخدام الأغراض الرمزية أيضًا عنصر الثقة؛ الثقة بالغرباء الذين سيُفسِّرُون اتصالاتنا في المُستقبل. رأينا في فصولٍ سابقة أن الثقة في المجتمعات الحديثة لم تَعُد مسألةً نفسيةً فردية، لشعورك حيال فردٍ مُعين. على نحوٍ أكثر تعمقًا، يتعلَّق الأمر بمجموعة المؤسسات الاجتماعية التي تجعلُ من المنطقي الثقة في شخصٍ ما بالقدر الكافي للتبادل معه؛ بصرف النظر عن شعورك الشخصي تجاهَه. وهذه المؤسسات تشمل القانون، وآليات إنفاذ القانون، ومجموعة كاملة من العادات المتَّبعة؛ عادات غير رسمية وبواعث، أعطتنا، مُجتمعةً، سببًا لتوقُّع السلوك الجدير بالثقة من الآخرين بمُستوًى مقبول من الثقة. تُشكِّل هذه العوامل ما يُمكننا أن نُطلِق عليه نظام حقوق الملكية في المجتمع؛ لدرجة أنها تؤثر على درجة الثقة التي قد تكون لدى شخصٍ في الوعود التعاقُدية التي يقطعها الآخرون على أنفسهم. على نحوٍ مُماثل، تخضع مُمارسة التواصُل الرمزي لحقوق الملكية. استخدام هذا المصطلح يبدو أقلَّ غرابةً بمجرد أن نفكر مليًّا في أنَّ الهدف وراء هذه الحقوق هو تعزيز ثقتنا في أولئك الذين سيُفسِّرُون اتصالاتنا. ونظرًا لأن الثقة ذات أهميةٍ لنا بطرُق متنوعة، وستؤثر على الاتصال الرمزي الذي نحن عازمون على القيام به. وعندما نُمعِن النظر أكثر، نرى أن حقوق الملكية تتمتَّع في سياق الاتصال الرمزي بعددٍ من السِّمات التي تجعلها أكثر تعقيدًا من حقوق الملكية في سياق الأشياء المادية المعتادة.
لنأخذ مثالًا بسيطًا. قال رالف والدو إيمرسون أنك إذا صمَّمت مَصيدة فئران أفضل، سيشقُّ العالم طريقَه إلى بابك، حتى وإن كان منزلك في وسط الغابة. لنفترض أنني فعلتُ ذلك، ولكن مصيدة الفئران خاصتي لم تكن عبارة عن ماكينة مُطوَّرة لا بدَّ أن أصنعها من أجلك، وإنما فكرة بسيطة يُمكنُكَ أن تُنفِّذَها بنفسك بتكلفةٍ أقل بكثيرٍ من إجمالي الفائدة العائدة عليك. ربما يكون من المنطقِي أن أعتقد أنه، نظرًا لأن فكرتي تنفعُك، ينبغي أن أحصل على نسبة من تلك الفائدة. بالتأكيد، ربما كان الحافز وراء الأيام التي ربما أكون قد أمضيتُها في ابتكار مصيدة الفئران الأفضل هو تحديدًا تصوُّري للعالَم يشقُّ طريقه إلى باب بيتي؛ وبالمقارنة بهذا الحافز، قد تكون مشاكلي مع الفئران حافزًا ضئيلًا. ما الذي يُمكنني فِعله كي أضمن أنك ستُعطيني جزءًا من الفائدة التي ستحصل عليها من اختراعي؟
من الناحية النظرية، ربما يُمكنُني أن أبيع لك الفكرة فحسب. ولكن ذلك الاقتراح أكثر تعقيدًا ممَّا يبدو؛ إذ كيف يتسنَّى لي أن أصف لك الفكرة بدقَّة كافية لتعرف ما إذا كانت تستحق الشراء، دون أن أكشف لك عن الفكرة مجانًا؟ أقر النظام العام لحقوق الملكية الفكرية بهذه المشكلة، مُتمثلًا في قوانين براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف والعلامات التجارية. الفلسفة الأساسية بسيطة؛ قد أتوخَّى الحذَر في وصف فكرتي الخاصة بمصيدة الفئران لك، لأنك قد تُعلِن بعد ذلك أنها لا تستحق الشراء، بينما تستعين بها سرًّا في الوقت نفسه. ولكن لنفترِض أن بوسعي أن أصفَها لطرفٍ ثالث موثوق به، من شأنه أن يضمن أنَّ فكرتي ليست تافهة، وأنها حقَّا فكرتي أنا، وسيُوقِّع عليك بعض العقوبات إذا استغللتَ الفكرة دون أن تدفع لي مُقابلَها. ربما أكون على استعداد للوثوق في طرفٍ ثالث حتى وإن كان لديَّ شكوك بخصوص الوثوق بك. مكتب تسجيل براءات الاختراع هو ذلك الطرف الثالث؛ فهو يُؤدِّي دورَ الوسيط بين أصحاب الأفكار والراغبين في استغلال أفكار الآخرين.
لنفترض أنني نجحتُ في تسجيل براءة اختراع فكرتي؛ بحيثُ لا يستطيع الآخرون نسخها؛ عندئذٍ يجب عليهم شراء مصيدة الفئران التي ابتكرتها والتي تُجسِّد فكرتي. العالم يشق طريقه إلى بابي وها قد صرتُ ثريًّا للغاية. ولكن لعلِّي أُقرِّر فرضَ سعرٍ مُرتفِع يجعلني أحتكر الفائدة بينما أمنع المُنتَج عن الكثير من المُشترين المُحتملين الذين بإمكانهم تحمُّل تكلفة إنتاج المزيد من مصائد الفئران. بدلًا من ذلك، مع أن فكرتي ربما كانت عبقرية، قد لا أكون بارعًا في تحويلها إلى مُنتَجٍ يؤدِّي وظيفته. قد تفشل فكرة مصيدة الفئران في الغالب الأعم لو لم أَبِع حقوقَ تصنيعها إلى شخصٍ آخر. ثمة احتمال ثالث هو أن مصيدة الفئران خاصتي تعمل على نحوٍ جيد، لكن أقل بكثيرٍ مما لو طوَّر أحدُهم الفكرة بإضافة تطويرٍ ثوري حقًّا من عنده. في كل حالة من هذه الحالات، تلقيتُ مكافأةً سخية من حقوق الملكية على اختراعي، ولكن هذا في مقابل التزامٍ بنقْل فكرتي إلى الآخرين. هل هذا مُهم، أم أنه الثمن الضروري الذي يجب على المجتمع دفعه لإرساء النظام القائم على الثقة في تطوير الأفكار؟
حتى عهدٍ قريب، كان من شأن أغلب علماء الاقتصاد والمُحامين أن يُقدِّموا إجابة بسيطة إلى حدٍّ ما عن هذا السؤال. حقوق الاحتكار على الأفكار هي بالتأكيد تكلفة؛ ولكنها تكلفة ضرورية، لتحفيز الناس على إنتاج الأفكار في المقام الأول. على أيِّ حال، مُعظَم الاختراعات تتطلَّب استثمارًا كبيرًا للوقت والموارد؛ وأغلبها لم يخطُر على بال المخترع بالصدفة، كما حدث (ربما) مع فكرة مصيدة الفئران خاصتي. بدون وجود إمكانية حقوق الاحتكار، من شأن الناس أن يُحجِمُوا عن محاولة الابتكار ومن شأنهم، بدلًا من ذلك، أن يقوموا بأشياء أقل فائدة. ولكن نظرًا لأنها تحديدًا تَكلِفة؛ فمنظومة حقوق براءات الاختراع مُقيَّدة بوقت؛ فعادةً ما تُمنَح براءات الاختراع لمدة عشرين عامًا، لا أكثر من ذلك. علاوة على ذلك، تكاليف سُلطتي الاحتكارية تشمل فقط عدد مصائد الفئران التي أرفُضُ تصنيعها من أجل الحفاظ على السعر مُرتفعًا بتقييد التوريد. لا يُوجَد سبب للخوف من تمسُّكي بفكرتي حين يكون من الأفضل أن أبيعها لشخصٍ آخر بإمكانه إما تصنيعها أو تطويرها على نحوٍ أفضل مما بوسعي. أستطيع منح ترخيص براءة اختراعي إلى مُستخدِم آخر. وإذا كان لدى المستخدم الآخر استخدام أفضل مما لديَّ، سأمنحُه ترخيص براءة الاختراع، ما دام هذا المستخدم الآخر سيكون قادرًا على أن يدفع لي مبلغًا أكبر مما كنتُ سأجنيه من احتكار الفكرة لنفسي. والحُجة في هذا السياق هي أن ثمة مصلحة مؤكَّدة لي من تطوير أفكار أفضل، ورُؤًى أفضل من تلك الخاصة بي. فهذه الأفكار الأفضل لا تَتنافس مع أفكاري، وإنما تُعزِّزها وتجعلها ذات قيمةٍ أكبر. إذا كنتُ أعرف ما في صالحي، فسأُشجِّع تطويرها.
لنفترض أنني أحتكر تصنيع مُنتج ما ذي مُستوًى منخفِض من التعقيد الرمزي؛ كسِنْدانٍ، مثلًا، أو خطوط سكك حديدية؛ عندئذٍ سيكون أي شيء يُحسِّن من جودة البضائع الأخرى المُكملة لمُنتَجي الاحتكاري — حدوات الأحصنة وخدمات السكك الحديدية، على الترتيب — بمثابة خبر سعيد لي؛ لأنه سيزيد من رغبة الناس في شراء سنداني (أو خطوط السكك الحديدية). ربما حتى يكون لي مصلحة في تشجيع مُبتكِري أنواع جديدة من حدوات الأحصنة (أو مطوِّري أنواع مبتكَرة من خدمات السكك الحديدية). لعلِّي أتيح لهم الوصول مجَّانًا إلى مُنتَجي الاحتكاري أثناء عملهم على اختراعاتهم. وبالمثل، إذا كنت أحتكر إنتاج الكهرباء، فستُسعدني رؤية المخترعين يُطوِّرُون ثلاجات وغسالات كهربائية، بل قد أمنحهم كهرباء رخيصة لأساعدهم على فعل ذلك؛ فأي اختراعٍ جديد يَستهلِكُ الكثير من الكهرباء سيزيد من الطلب على الكهرباء المملوكة لي. في كل حالةٍ من هذه الحالات، انخفاض مستوى التعقيد الرمزي لمُنتَجي يجعل من المُستبعد جدًّا أن يرتدَّ مثل هذا الكرم بالضرَر عليَّ، بأن يتيح المجال أمام سندانات بديلة، أو بدائل لخطوط السكك الحديدية، أو ثلاجات تُولِّد طاقتها الكهربائية. ولكن حينما يكون المُحتوى الرمزي لمُنتَجي مُرتفعًا، فذلك بالضبط ما أخشاه؛ أن تكون إمكانيات إعادة التركيب الرمزي ثرية جدًّا. ربما تُولِّد أفكاري أفكارًا أخرى تتعارض مع الأفكار الأصلية.
تستطيع قدرة المخ البَشري على الترقيع الرمزي إعادة ترجمة الأفكار بمجموعة طرُق مدهشة وأحيانًا مُرعبة. فالمُهندسُون يرون الطائرات انتصارًا للتنسيق التكنولوجي وانطلاقة للروح الإنسانية؛ بينما يراها علماء التحليل النفسي قضيبًا ذكوريًّا تخيُّليًّا. ورآها بعض الشعراء والشعوب المنعزلة من عصر ما قبل الصناعة طيورًا ضخمة، بينما ينظر واضعو استراتيجيات الحرب اليابانيين والأصوليُّون الإسلاميون المعاصرون إلى نفس الكتل المعدنية على أنها قنابل. إنَّ قدرة الذهن البشري على إبداع الشعر هي أيضًا التي جعلته بارعًا جدًّا في نصْب كمين.
المبدعون بحُكم طبيعتهم هم أولئك الأشخاص الذين لم يُثنِهم شيءٌ عن التعبير عن أفكارهم في شكل أغراضٍ رمزية. فعندما رسم رسَّامو الكهوف الأوائل أشكالًا باستخدام النيران على جدران كهوف شوفيه أو ألتاميرا أو لاسكو، هل كانوا يخشون أن يأتي أعداؤهم يومًا ويستدلوا بها على مقرِّهم ويتعقَّبُوهم ويقتلوا الرسَّامين أو أحفادهم؟ وعندما استخدم المُحاربون العجلات لأول مرة لبناء عرباتٍ تجرُّها الخيول، هل أثنَتْهم فكرة أن أعداءهم سرعان ما سيُقلِّدُون اختراعهم ويأتون في عرباتهم مُتوعِّدين إياهم؟ وعندما طوَّرت وزارة الدفاع الأمريكية البريد الإلكتروني لأول مرة، هل تنبَّأت أنه ذات يوم سيَستخدم الإرهابيون الذين يُخطِّطُون للهجوم على الولايات المتحدة هذه التكنولوجيا لتنسيق خططهم؟ والدليل على الإبداع الناجح موجود حولنا في كل مكان، وربما يبدو بناءً على هذا الدليل أن مشكلة الثقة بين الأجيال قد حُلَّت، في هذا الصدد على الأقل، حيث صار الابتكار سريع الوتيرة، وآخذًا في التسارُع، في القرون الأخيرة. لكن إذا ركَّزنا حصريًّا على هذه الحقيقة، فربما نغفل عن الحقيقة الأكثر دقة؛ وهي أنَّ المُبتكرين عادةً ما سَعَوا إلى الحدِّ من انتشار أفكارهم الخاصة. إن سرعة حدوث الابتكار ستلعب دورًا محوريًّا في قدرة البشرية في القرن القادم على حلِّ المشكلات التي لا تقف ساكنة، مشكلات مثل الفقر والمرض والإرهاب. لذلك، يُصبِحُ من الضروري أن نسأل: إلى أي مدًى تُجيد أنظمة حقوق الملكية الفكرية التعامل مع مشكلة الثقة بين الأجيال؟ هل تفعل ما يكفي لإتاحة المعرفة التي يملكها كل جيل من أجيال الإنسانية للأجيال التالية؟
حماية الأشياء أم حماية الأفكار؟
مع ذلك، وحتى مع وجود هذه العوائق؛ فحقيقة الأمر أنه كلما كان عقاري أسهل في التقليد (ومن ثَمَّ زاد عدد المرضى الذين بإمكانهم الاستفادة من تناوله)، كانت، من الناحية النظرية، المكافآت التي من المُفترَض أن أجنيَها بفضل اختراعه أكبر. هذا درسٌ ينبغي أن يوضع في الاعتبار عندما تشتكي الشركات من أنها غير قادِرة على تطبيق حقوق براءات الاختراع في بعض البلدان النامية. إذ تزيد إمكانية التصدير إلى البلدان النامية في حدِّ ذاتها، بأي حالٍ من الأحوال، من المكافآت التي ستُجنى من بيع منتجاتها؛ ومن ثمَّ يستفيد المبتكرون من زيادة حجم التجارة، حتى وإن لم تكن دومًا بنفس القدر الذي يرون أنهم يستحقونه. أسهمت سهولة الاتصال بجميع أنحاء العالم بالفعل بالكثير فيما يخصُّ زيادة مكافآت الابتكار. ومثلما تُسهِّل أطباق الأقمار الصناعية من الانتشار الدولي للعلامات التجارية المُعترَف بها عالميًّا، زادت التليفونات والفاكسات ورسائل البريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت من السهولة التي يُمكن أن تنتشِر بها المنتجات والعمليات والأساليب التجارية عبر الحدود القومية. آثار هذا الأمر ليست جميعها إيجابية، إلا أن مُجمَل العوائد لكلٍّ من الابتكار وتعديل ابتكارات الآخرين من المُرجَّح أن يزداد.
لذا، فالوجه الأمثل لفهم الملكية الفكرية هو أنها منظومة — مزْج لمجموعةٍ من القوانين الرسمية، مثل قوانين براءات الاختراع وحقوق النشر والتأليف، مع مجموعة من الأعراف الاجتماعية، كتلك الضابطة للاستشهادات العلمية — تُحاول زيادة ثِقتنا في استعداد الآخَرين لمكافأتنا نظير أفكارنا القيِّمة. إنَّ من شأن ضمان ملكيتِنا الكاملة وغير المشروطة لأفكارنا أن يكون طريقةً مُتطرِّفة جدًّا لفعل هذا، بناءً على أننا ربما لا نفعل سوى القليل جدًّا لنشر الأفكار إلى الآخرين. ومن شأن حِرماننا من أي ملكيةٍ لأفكارنا أن يكون أيضًا طريقةً متطرِّفة جدًّا؛ فمن شأنه أن يُشجِّع انتشار تلك الأفكار إذا اخترنا تطويرها، ولكن من شأنه أن يجعلنا مُتردِّدين حيال تطويرها في الأصل. (تخيَّل لو أن محتويات مُذكرتك الشخصية وكاميرتك الرقمية تُنشَر على الفور على موقعٍ إلكتروني متاح للجميع بمجرد أن تكتبها أو تلتقطها؛ ألن تكون أكثر حذرًا بشأن ما تكتبه أو تُصوِّره؟) سيكون التوازن الذي نُحقِّقُه بين الطريقتَين معيبًا دائمًا، وسينجح على نحوٍ أفضل في ظل بعض الظروف مقارنةً بغيرها، وسيتعيَّن تطويره على أي حالٍ مع مرور الوقت. ولكن حين نُفكِّر في الطريقة الصحيحة لتحقيق ذلك التوازن، علينا أن نتذكَّر أن غايتها ليست الثقة وحسب؛ وإنما أيضًا عدد المنظومات الاجتماعية الأخرى التي تكون تلك الثقة ضمن عواقبها المقصودة أو غير المقصودة. كذلك فإن الكثير من المنظومات الأخرى في حياتنا الاجتماعية الحديثة بحاجةٍ أيضًا إلى اعتبارها وسائل لنشر الأفكار.
الأفكار وتشكيل المنظومات الحديثة
في الواقع، لم يكن ما اقترحه بولدرين وليفين — حماية الأشياء، لا الأفكار — بأكثر ممَّا فعله، ولا يزال يفعله، مُبتكرُون كثيرون بصفةٍ غير رسمية على مدار قرون، وفي هذه الفكرة يكمُن مفتاح فهم نمو الشركة الحديثة؛ إذ كان الأمر الأهم لتطوير الأفكار من الحماية الرسمية لنظامِ براءات الاختراع هو مزجٌ لنوعين من الحماية غير الرسمية. الأول هو تجسيد الأفكار في أشياء — أو، وهو الأفضل حتى من ذلك، تجسيدها في منظَّمات ومؤسسات. كما رأينا في الفصل الثالث عشر، ما يجعل الشركات بديلًا متميزًا عن الأسواق باعتبارها طريقةً لتنظيم عملية مشاركة المهام المُعقَّدة للمجتمع الحديث هو أن الشركات قادرة على نقل نوعياتٍ مُعينة من المعرفة بين المُستخدِمين على نحوٍ أكثر فعالية مما يُمكِن للأسواق أن تُحقِّقه. ويُعزى هذا جزئيًّا إلى أنَّ الكثير من الابتكارات المُهمَّة هي بكل بساطةٍ ابتكارات تنظيمية؛ فأنواع كثيرة من النقل التكنولوجي العالَمي، حتى في القرن الحادي والعشرين، لا تحدُث في السياقات العلمية العالية الدقة للمُستحضرات الدوائية والملاحة الجوية، وإنما في مجالاتٍ متنوعة وغير مُبهرة نسبيًّا مثل المحاسبة وإدارة الفنادق العالمية. ولكن، يُعزى هذا جزئيًّا إلى أن التقنيات التكنولوجية المُجسَّدة في أشياء مادية — ماكينات أو منتجات — تحتاج إلى بعض المهارة أو المعرفة الفنية لتحقيق الفعالية الكاملة من استخدامها، أو لتصحيحها وصيانتها، أو لتشغيلها مع توافر الوعي الكامل بالمخاطر المرتبطة بها (مثل الآثار الجانبية للعلاجات الدوائية). لذا، أدرك مُبتكِرُون كثيرون أن بإمكان مؤسَّسة (مُستشفى أو شركة مثلًا) تقديم الابتكار بأسلوبٍ أكثر فاعلية وموثوقية من مجرد نقل شيءٍ مادي عبر صفقةٍ سوقية. وما لا تستطيع صفقات السوق تحقيقه، لن تستطيع السرقة المُجرَّدة أن تُحقِّقه مُطلقًا. لذلك، يجب ألا يخشى المبتكر الذي يستطيع تقديم دعم تنظيمي لابتكاره من أن السرقة ستحرِمُه من جميع المكافآت.
تدخَّلت التنظيمات السياسية بطُرُقٍ كثيرة في آليات عمل المجتمَعات الحديثة، بتأثيراتٍ إيجابية جدًّا في أحيانٍ كثيرة. ولكن كما كان الحال مع التجَّار الذين سخِر منهم آدم سميث جدًّا، كانت دوافعهم غالبًا أقلَّ سموًّا من خُطَبِهم. حظي الإبداع بدعم كبير من جانب الأباطرة والأمراء على مرِّ العصور، عادةً على أمل إمكانية تحوُّله إلى غاياتٍ عدوانية وكذلك دفاعية. سنَستكشِف بعض تداعيات هذا الدعم الجماهيري للابتكار في الفصل السادس عشر. ولكن أولًا سنُلقي نظرةً على إحدى العواقب العظيمة غير المقصودة لتقسيم العمل في المجتمع الحديث؛ ألا وهي إقصاء التعساء.