الشرف بين المصرفيين
انهيار في الثقة
كانت الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام ٢٠٠٧ بمثابة انهيار للثقة الاجتماعية على نطاقٍ واسع. وتُعد، من بعض النواحي، حالةً مرجعية تدعم الحجج المعروضة في هذا الكتاب؛ لأن نجاح المؤسَّسات الأكثر طموحًا في تعزيز الثقة هو ما يَمنحُها القوة لتُلحِق بنا ضررًا جسيمًا كهذا. أعقب فترة ازدهار، شهدت ثقة الكثيرين في أشخاص آخَرين دون تمحيص ليأخُذُوا بالنيابة عنهم قراراتٍ صعبةً بشأن المخاطر، فترة انهيار أُعيد فيها تقييم قدرة الجميع على الثقة بالآخرين بخصوص مثل هذه القرارات؛ وذلك على هيئة انتشارٍ واسع لحالةٍ مزاجية تشاؤمية ليس لها تبرير موضوعي، كشأن الحالة المزاجية التفاؤلية العشوائية التي سبقَتْها. وكما سنرى، هذا النوع من التقلُّب المزاجي الجماعي هو تقلُّب يبدو أن نفسية «الإنسان العاقل» المتطورة عُرضة له بصفةٍ خاصة.
وتعود جذور هذا التفاؤل المُفرط إلى وقتِ الأزمة المصرفية الأمريكية التي بدأت عام ١٩٢٩، والاعتقاد اللاحق بأننا عرَفنا عن أسبابها ما يكفي لمنع تكرار حدوث أي شيء كهذا مجددًا. انتهَت تلك الأزمة عمليًّا في مارس ١٩٣٣ بالسماح للبنوك باقتراض العُملة من مؤسسة تمويل إعادة الإعمار وإلزامها بدفع مُطالبات المُودِعين بهذه العملة بدلًا من دفعها بالذهب. وفي الوقت نفسه، كفَل تأسيس شركة تأمين الودائع الفيدرالية ودائع المُقترضين من القطاع الخاص؛ بحيث لم يعُد أحدٌ منهم يرغب في إجراء عمليات سحبٍ احترازية، بل إن كثيرين أعادوا الذهب الذي كانوا قد سحبوه إلى البنوك. ورغم أن أكثر من ٥ آلاف بنك كان قد أفلس خلال الأعوام الثلاثة من ١٩٣٠ إلى ١٩٣٢، فإنه في عام ١٩٣٤ لم يُفلس إلا تسعة بنوك فقط. وهذه النهاية المفاجئة للأزمة المصرفية أوجدت لدى الجمهور وواضِعي السياسات على حدٍّ سواء شعورًا مُحبَّبًا بالارتياح. ولكنها شجَّعت واضعي السياسات على استخلاص ثلاثة دروس مُهمَّة ولكنَّها خاطئة بشأن دور الثقة والائتمان في نظامٍ مصرفي حديث.
ما الذي يفعله النظام المصرفي عندما يُؤدِّي عمله بشكل جيد؟
كيف يَستطيع النظام المصرفي فعل ذلك؟ إجابة هذا السؤال تَشتمل على شِقَّين؛ الأول أنه يجمع المخاطرة ويُشاركها بين الأفراد كي يُقلل القدْر الإجمالي من المُخاطرة، ثمَّ يوزع المخاطرة المتبقية التي يتعذَّر تجنُّبها لكي يضمن أنه سيتحملها أولئك الأكثر قدرة على تحملها. وشبكة الكهرباء تَفعل الأمر نفسه. فاحتياج أي فردٍ من الكهرباء يتَّسم بكونه مُتغيرًا وغير محدَّد، وإمداد الكهرباء من مصدرٍ واحد ربما يكون أيضًا مُتغيرًا ولا يُمكن التعويل عليه؛ ومَزارع الرياح والألواح الشمسية مثال صارخ على ذلك نظرًا لأنها تَعتمِد بالكامل على حالة الطقس؛ ولكن مصادر أخرى كثيرة عُرضة لمخاطر جسيمة. لو تَعيَّن على كل شخص يرغب في استخدام الكهرباء أن يتَّخذ الترتيبات لإمدادها من مصدر طاقة واحد، لكان لزامًا على الجميع أن يكونوا خبراء بما يَكفي لتقييم مدى إمكانية التعويل على كل مصدر، ولَتعرَّض الجميع يوميًّا لتقلبات الإمداد، وملاءمته غير الأكيدة مع احتياجهم غير المُتوقَّع. لحُسنِ الحظ، تجمع شبكة الكهرباء في مَعين واحد حالات عدَم التيقُّن الإجمالية فيما يتعلق بكلٍّ من العرض والطلب. على نحوٍ تقريبي تَميل التذبذبات في الإمداد من مصادر مختلفة إلى التعادل في المُجمَل، كحال التذبذبات في الطلب؛ فبينما يَهِمُّ شخصٌ ما بإشعال فرنه، يكون شخص آخر قد أطفأ فرنه.
لكن التيقُّن الكامل وهْم. حتى هذا التجميع للمخاطرة سيخلف بعض حالات انعدام التيقُّن الباقية بخصوص إجمالي العرض والطلب، لذا تُوزِّع الشبكة المخاطرة مرةً أخرى، مما يضمَن أكبر قدر مُمكن من التيقُّن لأولئك الذين يُقدرونه حقًّا وتركيز المخاطَرة في مجموعة أصغر من المستخدمين المُستعدِّين لقبولها (في مقابل سعرٍ مخفَّض بالطبع). تضمن شركة الكهرباء لنا نحن مُستخدمي المنازل توفُّرًا مُستمرًّا للطاقة؛ لأن بعض المستخدمين الكبار من أصحاب الاستهلاك التجاري لديهم عقود تمنحهم خصمًا إذا وافقوا على قطع الكهرباء عنهم في حالة ارتفاع الطلَب على نحوٍ غير متوقَّع، ولأن بعض مورِّدي الكهرباء لديهم عقود تُلزمهم بإمداد الطاقة بمجرد إخطارهم بالحاجة إلى الطاقة. ومع ذلك، قد تحدُث انقطاعات غير متوقعة للكهرباء من آنٍ لآخر.
والبنك يفعل الشيء نفسه مع مخاطرات الاستثمار وحالات عدم التيقُّن التي تُحيط باحتياجات الأفراد للتصرُّف في مدخراتهم. فبعض الشركات تفشل، والبعض الآخر ينجح، ولكن إذا أقرض بنك قطاعًا عريضًا بالدرجة الكافية منهم، فإنَّ الكثير من هذه المخاطَرات سيصل إلى حالة اتزان. غير أنَّ التيقُّن الكامل في هذا المقام يُعَدُّ وهْمًا أيضًا؛ ستظلُّ بعض المخاطرة موجودة في المُجمَل، ومن ثم سيُوزع البنك هذه المخاطرة مرة أخرى. يضمن البنك للمُودِعين إمكانية الحصول على مدَّخراتهم، ولكن لا يَنطبق الأمر نفسه على حاملي أسهم البنك. في حالة حدوث هزَّة لإجمالي ربحية استثمارات البنك، يكون حاملُو الأسهم هم الذين وافقوا على تحمُّل الضربة (في مقابل عائدٍ أكبر من المُودعين مُعظَم الوقت). معظم الوقت، يُؤتي هذا النموذج القائم على تجميع المُخاطَرة المالية ثمَّ إعادة توزيعها ثِماره بشكلٍ جيد جدًّا، كما هي الحال مع مخاطَرات الطاقة الكهربائية.
ثمة اختلاف جوهري بين البنوك وشبكة الكهرباء؛ فالمدَّخرات قابلة للتخزين (حتى وإن كان ذلك تحت مرتبة السرير فحسب)، في حين أنه لا يُمكن تخزين الطاقة الكهربائية، إلا بكمياتٍ صغيرة في البطاريات. ولعلك تظنُّ أن هذا جعل النظام المصرفيَّ أكثر استقرارًا، ولكنه يؤدي إلى العكس. إذا كنتَ تَخشى أن شبكة الكهرباء خاصتك قد تتعطَّل، فلا فائدة من الاندفاع نحو استخدام كل الكهرباء التي تتوقَّع أن تحتاجها في المستقبل. ولكن إذا كنت تخشى إفلاس البنك الذي تتعامل معه وإذا لم يكن لديك تأمين على الودائع، فعليك أن تسحب جميع مُدَّخراتك الآن، كما رأينا في الفصل السابع. وإذا فعل الجميع ذلك، فإن البنك سيُفلِس بالتأكيد؛ ولعلَّه أجرى استثمارات حكيمة ولكنها لن تكون استثمارات يمكن تحويلها إلى نقودٍ سائلة في أيِّ لحظة. ومن ثمَّ يحتاج النظام المصرفي، أكثر من شبكة الكهرباء، إلى الحماية من هذا النوع من الذعر الذي يجعل الجميع يسحبون مُدخراتهم في نفس الوقت.
الدروس الثلاثة الخاطئة المُستخلَصة من أزمة ثلاثينيات القرن العشرين
مع أن التهافُت على سحب الودائع المصرفية من بنك نورثرن روك كان ملهمًا؛ لأن المُودِعين الذين شعروا بالذعر كانوا مجرَّد الواجهة الظاهرة لذُعرٍ أعمق أكثر ترسُّخًا؛ ألا وهو ذعر المُستثمِرين المُحترفين. كان لديهم ذُعر من جانبهم من أن مُصمِّمي النظام المالي العالمي ومُراقبيه قد غفلوا تمامًا عن أمورٍ مهمة مع ارتياحهم لحلِّ الأزمة المصرفية الأمريكية التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين. بدأ النظام المصرفي يتفسَّخ في عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، ليس لأنَّ الجماهير الجاهِلة توقَّفت عن الثِّقة بالبنوك؛ وإنما لأن البنوك المُطلعة، أي المُستثمرين الكبار، فقدت الثقة بعضها في بعض. كان هذا تهديدًا أكبر بكثير، وهو تهديد لم يتوقَّعه سوى قليلين حتى من المُتغلغلين داخل النظام. لماذا غفلوا عن هذا التهديد؟
الدرس الأول: لا تفرَّ من الأسُود
كان الدرس الأول المستخلَص على نحوٍ خاطئ من أزمة ثلاثينيات القرن العشرين أن نَوبات الذُّعر هي سبب إفلاس البنوك، وليس أن إفلاس البنوك الوشيك هو السبب في الذعر. مثل الرأي القائل بأن الفرار من الأسُود هو ما يستفزُّها لتأكُلَك، ثمة قدْر ضئيل من الحقيقة في هذا الرأي، إلا أنه قدر ضئيل جدًّا، وليس من الحكمة أن يُنصَح المُودع العادي غير المؤمَّن عليه، كنصيحتك للسائح العادي المُعرَّض للخطر في حديقة حيوان مفتوحة، بالأخذ بهذا الرأي. في الواقع، الكثير من حالات الذعر يحدُث لأسبابٍ وجيهة.
الدرس الثاني: المحترفون لا يُصابون بالذُّعر
كان الدرس الثاني المُستخلَص على نحوٍ خاطئ من أزمة الثلاثينيات هو أن صغار المودعين — أولئك المؤهَّلين للتأمين على الودائع — هم النوع الوحيد من المُودِعين الذي قد يُصاب بالذعر. نحن الآن نعرف أن هذا خطأ، ولكن لم يكن يُوجَد مطلقًا أي سبب وجيه يجعلنا نصدِّق ذلك. فإذا كانت الشركات الكبرى والبنوك الأخرى نفسها لديها ودائع مصرفية تتوقع قدرتها على السحب في وقتٍ وجيز، وإذا كانت تعرف أنه لا يُمكن سحب كل هذه الودائع في الوقت نفسه، إذن حين تُساورهم أي شكوك في أن البنك قد يفلس، يكون لديها نفس القدر من الأسباب التي لدى أرباب الأُسَر، إن لم يكن أكثر، لتُهرَع إلى سحب ودائعها مثلهم. ويبدو أن وجهة النظر القائلة بأن صغار المُودِعين وحدَهم عُرضة للذُّعر كانت نتيجة طبيعية لوجهة النظر القائلة بأن حالات الذعر كانت بسبب مخاوف «غير منطقية»، مِن المُرجَّح أن البنوك الأخرى والشركات الكبرى كانت مُحصَّنة ضدَّها، باعتبارها جهاتٍ مُستثمِرة محترفة مُحنَّكة. كان يُعتقد أن المستثمرين المحترفين سيتجنَّبون البنوك السيئة الإدارة من الأساس، بدلًا من استثمار أموالهم بتفاؤلٍ زائد عن الحدِّ ثم الهرع إلى سحبها مرة أخرى. على أيِّ حال، إذا كان النظام المصرفي يخضع إلى قواعد تنظيمية حكيمة ومُفصَّلة، فربما يظلُّ حدوث سوء الإدارة قائمًا ولكنه سيكون مشكلة فردية يُستبعَد أن تُثير المخاوف على نطاقٍ واسع.
ينهار المنطق المُستنِدة عليه وجهة النظر هذه ما إنْ نَقبل بأن الذعر قد يكون راجعًا إلى خوف مُبرَّر من إفلاس البنوك. لذا ربما يكون المُستثمِرون المُحترِفُون المُحنَّكون، نظرًا لكونهم أكثر اطِّلاعًا، أكثر عرضة، وليس أقل، للشعور بالذعر. في واقع الأمر، ربما يكون المستثمرون المحترفون عُرضةً لنوبات التفاؤل والتشاؤم أكثر من الجمهور العادي؛ وذلك نتيجةً للتدريب، وقُربهم من صانعي القرار، وحوافز تَوافُق التوقعات، ومن خلال قلق معرفة أنهم يجازفون بأموال الآخرين. مع أن القواعد التنظيمية الحكيمة والتفصيلية تَنجح في حصر فشْل الإدارة في حالاتٍ فردية وعرضية، ربما يُوجَد خطر ضئيل من شعور المُحترِفين بالذُّعر على نطاق واسع. ولكن بمجرد أن يصير فشل الإدارة منهجيًّا، فإن ردَّ فعل المستثمرين المُحترفين ربما يجعل الموقف السيئ أسوأ.
كانت وجهة النظر القائلة بأن المُستثمرين المحترفين كانوا حَذِرين وحكماء — لا يسهل إقناعهم بالمشاركة بأموالهم أو أن يكونوا عرضةً لنوبات الذُّعر ويطلبوا استعادة أموالهم فجأة — ذات أهمية محورية للاتفاق الجماعي المُتزايد بين واضعي السياسات في البلدان الصناعية الرئيسية، بدايةً من ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها، على إمكانية استمرار القواعد التنظيمية ببعض التراخي. وبالطبع، لا يُمكن أن يُؤتمَن أي بنك على مراقَبة نفسه، وبالطبع لا يُمكن توقُّع أن يضطلع مُودِعوه بهذه المهمة؛ فهم ليسوا مُطَّلعين بالقدْر الكافي وعلى أيِّ حال أفقدهم التأمين على الودائع دوافعهم للاهتمام بشدة. وبالطبع، لا بدَّ أن يضع المُراقبون البنك نصبَ أعينهم للتأكُّد من أنه لا يخاطر مخاطرات مُفرطة بأموال الغير. ولكن المراقبين مثقلون دومًا بأعباء العمل، ويتقاضَون دومًا أجورًا متدنية مقارنةً بأولئك الذين من المفترض أنهم يُراقبونهم؛ ومن ثمَّ كان يُعتقد أن الأمور لن تتحسَّن إلا إذا استُكْمِل عمل المُراقبين على أيدي خبراء آخرين — مثلًا، الدائنين ووكالات التصنيف الائتماني التي تُصنف كلًّا من السندات المالية الصادرة عن البنك والأصول التي يستثمر فيها. وانطلاقًا من تلك النقطة، كانت تفصلنا خطوة صغيرة عن استنتاج أنه كلما زادت مشاركة المستثمِرين المحترِفين في الأسواق المالية، قلَّت كمية العمل الذي يقوم به المراقبون. ورغم أن هذا المنطق مُغرٍ، فإن تداعياته كارثية. فهو أشبه بادِّعاء أن الطاهي سيتمكَّن من القيام بعمله على نحوٍ أفضل إذا كان لديه بعض مُقشِّري البطاطس لمساعدته، واستنتاج أنه كلما زاد حجم العمل الذي يتركه الطاهي لمُقشِّري البطاطس، صارت جودة الوجبة أفضل.
الدرس الثالث: حافظ على معنوياتك مُرتفِعة
كما هي الحال مع شعور الأشخاص سريعي التأثُّر بالدغدغة، فإن شعورهم بمقدار ثرائهم مُتوقف أيضًا على ما يعتقدونه. قد يبدو هذا غريبًا. لا بدَّ أنك تظنُّ أن ثروة شخصٍ ما تُقاس بما لديه من ممتلكات؛ منزله وأثاثه وغير ذلك من السلع والمنقولات، وأرصدته في البنوك وخطط تقاعُده ومَحافظ أَسهمُه. هذه حقائق موضوعية، لا تَعتمِد على ما يعتقدُه المرء. ولكن حتى إذا تغاضَينا عن حقيقة أنني لا «أمتلك» منزلي إلا بفضل اتِّفاق ضمني مع بقية أفراد مجتمعي بعدَم التدخُّل في معيشتي هناك، فإن الكثير من مكوِّنات ثروتي لا تستمدُّ قيمتها إلا بفضل معتقدات الآخرين بشأن المستقبل. فإذا كنتُ أمتلك أسهمًا، فإنه لا قيمة لشهادات الأسهُم بحدِّ ذاتها. فأنا لا أستطيع أن آكلها أو أرتديها أو أتَّخِذها مأوًى لي، وحتى استخدامها كورقِ حائطٍ سيبدو إسرافًا مُبالَغًا فيه. فهي لا تستمد قيمتها إلا من الحقوق التي تقتضي الحصول بموجبها على منافع مُستقبَلية عديدة، كثير منها متوقف ضمنيًّا، لا صراحةً، على حُسن الحظ وحُسن نوايا الآخرين. فعندما ترتفع أسعار الأسهم ليزداد معها ثرائي، يكون هذا لأن الآخرين غيَّروا معتقداتهم بشأن العواقب المُحتملة لامتلاك تلك الأسهم. وإذا زادت قيمة منزلي، فهذا أيضًا لأنَّ الآخرين غيَّروا معتقداتهم بشأن منافع امتلاك منزلي. وإذا اعتقدتُ أنني سأرث مبلغًا كبيرًا من أحد أقاربي المُسنِّين، فهذا في حدِّ ذاته سيجعلني أشعر بمزيدٍ من الثراء؛ وقد يؤثر بالفعل على سلوكيات الادخار والإنفاق التي أنتهجُها.
هذا بالطبع لا يعني أنه يُمكنني ببساطة التلاعُب بمعتقداتي؛ فلا بدَّ أن تكون ذات أساس متين. فإذا اعتقدت أن رصيدي في البنك سيُضافُ إليه مبلغ كبير من المال بمجرد تحرير شيك لنفسي، فسرعان ما سيتبيَّن أن اعتقادي مجرَّد وهْم. ومع ذلك لنفترض أنني توصَّلتُ إلى اتفاق مع صديق لي أن يتبادل كلٌّ منَّا منزله مع الآخر بثلاثة أضعاف قيمته السوقية الحالية. هل سيجعلنا ذلك أكثر ثراءً؟ ربما سينتابنا شعور جيد لبعض الوقت، لا سيما لو كان في مَقدورنا عندئذٍ أن نقول إننا نَمتلك بيتين باهظَي الثمن، ولكن لن نستغرق طويلًا حتى نُدرك أن مكاسبنا هذه فارغة. سيكون الأمر أشبه بطريقةٍ ملتوية بدرجة غير كافية لدغدغة أنفسنا. وسيكون من الصعب إخفاء زيف هذه الصفقة حتى مع رغبتنا الجدِّية في تحقيق الثراء دون جهدٍ ملموس.
في الواقع، كان التضخم في أسعار العقارات يحتوي على بعض عناصر مُخطط بونزي ضخم. كان تشارلز بونزي، الذي تُوفي عام ١٩٤٩، مسئولًا عن تحويل مبدأ الرسائل المُتسلسلة الأقدم إلى خطة جادة لابتزاز المال. مُعظمنا على دراية بالرسائل المتسلسلة؛ وأول مرة شاركتُ فيها في واحدة كنتُ في السادسة من عمري، وحينئذٍ كانت جائزة إرسال رسالة واحدة هي تلقِّي بطاقة بريدية ودودة من أولئك الذين يسبقونني في السلسلة. تلقيتُ عشرين بطاقة بريدية تقريبًا مقابل رسالة واحدة أرسلتها، واعتبرتُ نفسي محظوظًا. الرسائل المُتسلسِلة التي تتعلَّق بأموالٍ حقيقية هي شكلٌ مُغرٍ من أشكال الاحتيال، خاصةً لأن المشاركين فيها يمكن أن يُقنعوا أنفسهم بأن الآخرين يتطوَّعون بالمشاركة ولا أحد يتعرَّض للخداع. أو بالأحرى، ينخدع المشاركون عن طيب خاطر على نحوٍ ما؛ إذ لا يحتاج الأمر إلى مستوًى مُعقَّد من الرياضيات لإدراك أن الرسائل المتسلسلة لا تَصنع ثروة وإنما تنقلها من شخص لآخر فحسْب. فلكَي يَجني شخص ما المال لا بدَّ أن يَفقِدَه شخص آخر، ولكي يُضاعف شخصٌ ما ثروته بمقدار عشرة أضعاف، لن يَحصل تسعة أشخاص آخرون على شيء بتاتًا. بعبارة أخرى، الرسائل المُتسلسِلة أشبه بورقة اليانصيب، وليس عملية احتيال، ومن يخسر أمواله في اليانصيب لا ينبغي أن يلوم أحدًا إلا نفسه.
حوَّل بونزي الرسائل المتسلسلة إلى عملية احتيال. ففي الرسائل المتسلسلة، تموَّل أرباح المشاركين في المراحل الأولى من خلال مُساهَمات المُنضمِّين لاحقًا، حتى تَنهار السلسلة (ويجب أن تَنهار؛ لأنه لكي تُحقق السلسة نجاحًا حقًّا لا بدَّ أن تضم سكان كوكب الأرض بأكملهم في أقل من عشر جولات). ولكن على الأقل في الرسائل المتسلسِلة يستطيع الجميع استيعاب ما يحدث؛ أما بونزي فقد ألغى تلك التفصيلة الصغيرة؛ إذ قدَّم خطة استثمار بعوائد رائعة للغاية (استندت إلى استغلال خللٍ حقيقي في التسعير في سوق القسائم البريدية العالمية). إلا أنه كان يستحيل أن تُولَد هذه العوائد الرائعة على هذا النطاق الواسع؛ ففي الواقع كان بونزي يدفع للمستثمرين الأوائل من مُساهمات أولئك الذين انضمُّوا لاحقًا؛ ولكنه كان يَتظاهر بأن العوائد أتت من الاستثمارات ذاتها. نجح الأمر مع المستثمرين السُّذَّج؛ والأغرب أن بيرني مادوف أثبت بعد عقودٍ عديدة أن الأمر قد ينجح أيضًا مع بعض المستثمرين المُحنكين جدًّا.
تدريجيًّا، حلَّت الابتسامات محلَّ تنهُّدات الارتياح، مع توسع البنوك في عمليات الإقراض خلال سنوات الازدهار في الألفية الجديدة، وارتفَعَت أسعار العقارات على نحوٍ غير مَسبوق نتيجة لذلك، ثم ساد شعورٌ رائع بنشوة مُستحَقَّة. لقد بدأت عملية دغدغة الذات الجماعية تُجدي نفعًا.
الانهيار وآثاره
ومن قبيل المُفارقة، أنه ما إن حدَثَ الانهيار حتى زادت منه نفس الآليات التي من المفترض أن تعمل على منع حدوثه من الأساس. إحدى اللَّبِنات الأساسية لبناء الثقة في النظام المالي هي أنه يجِب إغلاق البنوك المُفلِسة لكيلا تُستنزَف مدَّخرات المزيد من المُستثمِرين التعساء الحظ في محاولة يائسة للتَّعافي. قد تُواجه البنوك الهشَّة هذه المُغريات أيضًا، ولهذا السبب يضعُها المُراقِبون تحت المراقَبة الشديدة، وقد يُبادِرُون باتخاذ إجراءٍ حتى قبل أن تتخطَّى حدَّ الإفلاس. هكذا، تتحكَّم هذه اليَقَظة، الضرورية جدًّا لحماية المُودِعين، بقبضةٍ باردة في استعداد البنك لإقراض الآخَرين، بمن فيهم العُملاء ذوي الجدارة الائتمانية التامة. لماذا تُقرِض شركة ممتازة في مثل هذه الظروف إن كان بإمكانك الاحتفاظ بأموالك في صورةٍ نقدية؟ عبر مختلف القطاعات الاقتصادية، ربما يعجز من هُم بحاجةٍ إلى الاقتراض عن العثور على قروض، حتى وإن كان ذلك من أجل مُجرَّد دفْع رَواتب القوى العاملة لديهم والحفاظ على استمرارية أعمالهم، في حين لا يجرؤ الآخَرُون، ممَّن لديهم مدَّخرات ولكن ليس لديهم أوجه تستحقُّ إنفاق هذه المُدَّخرات عليها في الوقت الراهن، على وضع تلك المدخرات في البنك خشية أن يَختفيَ هذا البنك من على وجه الأرض في الغد. وحتى إن لم يَعُد لهذا البنك وجود، فإن هذا سيكون لأنَّ المراقبين أغلقُوه. وهذا انهيار مفزع لهيكل الثقة الاجتماعية الذي يدعمه النظام المصرفي؛ حيث إن المراقبين، الذين يُعَدُّون واضعي هيكل الثقة، يُعتَبرون أيضًا مهندسي الخراب الذين يمكنهم زعزعة حجر الزاوية في أيِّ لحظة.
لماذا نفعل ذلك؟
لماذا تَخدع المجتمعات الإنسانية نفسها على نحوٍ ممنهَج بهذه الطريقة؟ ما الذي يجعلنا نُعاني جماعيًّا من اضطرابٍ ثنائي القطب في حين أن الأفراد المُصابين به بيننا لا يُمثلون سوى أقلية صغيرة؟ وطرح السؤال بهذه الطريقة لا يعني ضمنًا أن الجميع كانوا يتصرفون في سنوات الازدهار الاقتصادي بطريقةٍ لا عقلانية؛ فعلى النقيض من ذلك كان الكثير من الخبراء الماليِّين يُقامرون بعقلانيةٍ شديدة على قُدرتهم على جنْي الأرباح إذا ما سارت الأمور على خير ما يُرام وعلى الخروج من الأزمة إذا ساءت الأمور. السؤال الأعمق هو لماذا تَواطأ بقيَّتُنا في خداع أنفسنا في حين أنه، كما حاولتُ أن أُبرهن في هذا الفصل، كانت تُوجَد أدلة وافرة كان يَنبغي أن تجعل المُراقبين وواضعي السياسات والمواطنين يُفكرون مليًّا. ربما قادَت القواعد المَعيبة بعض الخبراء الماليين العقلانيِّين إلى التصرُّف بطرُقٍ أضرَّت ببقية المُجتمع، ولكن لماذا أظهرَت بقية المُجتمع هذا الحماس للسَّماح لهم بفعل ذلك؟
ويُمكن إضافة عوامل أخرى، وسأذكُر منها ثلاثة. الأول قصور منهجي في قُدرتنا على تقييم مخاطر صغيرة لأحداث مدمرة للغاية لم تقع في الماضي القريب، مثل حالات التخلُّف عن السداد الترابُطية لفئاتٍ مُتنوعة من القروض التي تبدو مُنخفِضة المخاطر. ويصحُّ هذا بصفةٍ خاصة حين تحظى أصولنا بالحماية أغلب الوقت، كما هو حالها حين يعمل النظام المصرفي على أكمل وجه؛ لأنه يُشجِّعُنا على أن نصرف تفكيرنا بعيدًا عن المخاطر.
العامل الثاني الذي يجعلنا في وضعٍ هشٍّ هو افتتان بتفكير استراتيجي من الدرجة الثالثة والرابعة لا يُمكن تطبيقه على مشكلاتٍ من الدرجة أَلْف؛ فعندما نواجه الأدلة على عدم إمكانية استمرار الرواج العقاري إلى الأبد، فإننا لا نُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح وإنما نُحاول ركوب موجة الرواج حتى النهاية، من أجل أن نتفوَّق قليلًا على الآخرين. والعامل الثالث هو وجود ضعف تجاه المَيل إلى الثِّقة في مجموعات المُطَّلعين على بواطن الأمور أمثالنا (على سبيل المثال؛ المُتخصِّصين في الشئون المالية)، مقترن بعُدوانية غريزية تجاه الرسائل غير المرغوب فيها إذا وصلَت عن طريق شخصٍ مُختلِف عنَّا بدرجة كافية، وحساسية شديدة تجاه الفوارق الضئيلة في المكانة بين من نَسمَح لهم بدخول دائرة المُطَّلعين على بواطن الأمور الخاصة بنا وأولئك الذين لا نَسمح لهم. هذه كلها سِمات شائعة بين الرئيسيَّات التي تعيش في مجموعات، والتي تطوَّرنا منها.
كما أكَّدت الفصول السابقة من هذا الكتاب، ليس من المُستغرَب أن نجد بعض نقاط الضعف النفسية في تركيبة «الإنسان العاقل»، ذلك النوع من القِرَدة العُليا الذي ظهر لأول مرة في غابات السافانا الأفريقية ما بين ١٠٠ ألف و٢٠٠ ألف عام مضت. باستثناء القلق الذي دفع هذه القِردة العُليا إلى مغادرة أفريقيا، لا شيء ممَّا فعلته أثناء أكثر من ٩٠٪ من وقت وجودها باح بأي اهتمام بالعمل المصرفي والشئون المالية، ولا بأيِّ مواهب قد تُؤدِّي بالتبعية إلى العمل في وول ستريت. كان عبارة عن نوع من الرئيسيات يعيش في مجموعات، وله خصائص شائعة بين أغلب أنواع هذه الرئيسيات، مزيج لافت للنظر من غرائز تنافُسية قوية مع نزعة إلى تكوين تَحالُفات ومجموعات، وانتباه حسَّاس للغاية للفروقات في المكانة والرُّتبة. إلا أنه كان أيضًا نوعًا غير مُعتادٍ جدًّا من الرئيسيات، قِردة عُليا اجتماعية ذات دماغ كبيرة تستعمِر بيئة إيكولوجية تَشتمِل على الصيد وجمع الثمار على نحوٍ تعاوُنيٍّ وبطرُق متزايدة التعقيد. ولقد تطوَّرت مواهبها التعاونية المُذهِلة على خلفية عداءٍ عنيف أدَّى إلى تدمير الكثير من الإنجازات الأولية لمحاولاتها الأولى لتكوين بِنية اجتماعية واسعة النطاق. وعندما أقامت أخيرًا نظامًا ماليًّا اشتمل على تريليونات من الدولارات امتدَّ في الكرة الأرضية بأكملها، لم يكن من المُستغرَب اكتشاف أن عدَّة عيوب تسلَّلت إلى داخل هذه البِنية.
إحدى مزايا هذا المنظور طويل المدى هي أنه يُساعدنا على أن نكون مُعتدلِين على نحوٍ مناسب بشأن احتمالات منع وقوع المزيد من الأزمات الاقتصادية في المستقبَل. سنُواصِل طرح هذه الحُجة على بقية صفحات هذا الكتاب. تُعدُّ مجتمعاتنا واقتصادياتنا، في تعقيدها، مُثمرة وهشَّة على حدٍّ سواء. أسَّست القِرَدة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة نظامًا ماليًّا عالميًّا، وألحقت هذه القِرَدة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة أضرارًا كثيرة لذلك النظام، ولا يستطيع أحدٌ إصلاحها سوى هذه القِردة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة. وأي حلٍّ لهذه العيوب لا بدَّ أن يكون مُحكمًا حتى يتسنَّى تطبيقه على أيدي نفس نوعيَّات القردة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة التي تسبَّبت في المشكلة في المقام الأول.
ثمَّة ميزة أخرى لوجهة النظر طويلة المدى وهي أنها تُساعد في الحفاظ على منظورٍ عقلاني بخصوص تكاليف الأزمة. ومن السابق لأوانه جدًّا أن نجزم بأنَّ الاقتصاد العالَمي سيُعاوِد النموَّ مرةً أخرى في غضون ثلاثة أو أربعة أعوام، أو ما إذا كُنَّا سنَشهد فترةَ ركود مطولة؛ فما زلنا نَجهل ما إذا كان عدم الاستقرار والعنف سيُصاحبان التقشُّف الحادَّ الذي سيكون ضروريًّا في بعض الدول. إلا أن هذه المخاطر تتضاءَل بجوار الأخطار التي تغلَّب عليها التعاون الإنساني في الماضي، والانهيار العنيف في النظام الاجتماعي الذي عادةً ما صاحب الحروب مع الغرباء من الخارج وقمع العُزَّل في الداخل. كما أوضَحَ الفصل الثالث، التعاون الذي أُسِّست عليه الاقتصاديات الحديثة هو نفس التعاون الذي نجح، لدرجةٍ يُقَدِّرها عددٌ قليل من مُواطِني العالم المعاصِر، في ترويض نزعتنا ومقدرتنا على ممارسة العنف. وبينما نحسب بقلق مخاطر استراتيجياتنا الاقتصادية الحالية ومزاياها، فإننا نُشبِه لاعبي بوكر على مُنحدَرات بركان، نتلذَّذ باندفاع الأدرينالين في عُروقنا الناتج من اضطِراب حركة أوراق اللعب بينما الخطر الحقيقي يَكمُن تحت أقدامنا.
وكما كتَبَ روبرت فروست: «البعض يقول إنَّ العالم سيَنتهي بالنار، والبعض يقول بالجليد.» وتبدو كفَّة النار الآن أرجح من كفَّة الجليد، وبصرْف النظر عن حقيقة هذا التخمين، بوسعنا أن نثِق على نحوٍ معقول بأن العالَم لن يَنتهي بسبب أزمةٍ مالية. كون الأزمة المالية هي حاليًّا، وقتَ تأليف هذا الكتاب عام ٢٠٠٩، الشاغل الرئيسي لجميع القادة السياسيِّين بالعالَم لا يَشي بضَعف ذاكرتنا ومحدودية آفاقنا فحسْب؛ وإنما أيضًا بالشوط البعيد الذي قطَعناه على نحوٍ مُذهل. وحقيقة أنَّ محدودية آفاقنا هي ذاتها التي مكَّنَتْنا من قطعِ هذا الشوط البعيد ستكون موضوع الفصل التاسع.