اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية
كلمة أولى
لا شكَّ عندي أن حضرات المستشرقين، من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين، يعجبون منا نحن الضعاف الذين يُطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت. إنهم رجالٌ عظماء انقطعوا للعلم والبحث في اللغات الشرقية القديمة — بائدها وقائمها — لا لأنهم يريدون أن يستعملوا لغتنا العربية أو غيرها من تلك اللغات الشرقية فيما بينهم، أو اتخاذها وسيلة للتفاهم بين أقوامهم، بل لأنهم في الحقيقة مؤرِّخون، مهمَّتهم النبش في الحفريَّات اللغوية القديمة، فهم يَنبشون آثار الفراعنة لتعرف لغتهم الهيروجليفية، ويَنبشون آثار الأشوريين والكلدانيين واليمنيين، كيما يَعثُروا على نصٍّ منقوش في الحجارة، يستدلُّون منه على لغة كل قوم. ثم هم يُقارنون ويضاهئون كيما يَخرُجوا من المقارنة ومضاهأة القديم بالقديم، وتطبيق القديم والحاضر بعضهما على بعض، بنتيجة يُقرِّرونها تفيد الناسَ العلمَ بماضي كل لغة وما طرأ عليها من التطور حتى وصلت إلى أهلها في عهدهم الحاضر، كما تفيد غالبًا العلمَ بما طرأ على كل أمة من ناحية رقي حضارتها وتدهورها. وللمُستشرقين لذة خاصة في هذا النبش والبحث والاستقصاء، لكن عملهم هذا شيء وإمساك أية لغة بخناق أهلها دهرًا طويلًا شيء آخر.
حياة اللغات وتطورها
كلنا أصبح يَعلم علمًا ضروريًّا أن اللغة كائن كالكائنات الحية، ينمو ويهرم ويموت، مخلفًا من بعده ذرية لغوية مُتشعبة الأفراد، هي أيضًا في تطور مستمر. ولم يستطع قوم للآن أن يُغالبوا هذه الظاهرة الطبيعية؛ فإن التطور يكبح شراسة من غالبه.
كان قدماء المصريين أعزَّ أمة، فذهبت ريحهم وذهبت معهم لغتهم، وربما خلفَها في اللغة القبطية — التي ماتت هي الأخرى إلا في بطون الأوراق — لهجةٌ بعيدة عنها بعدًا شاسعًا، ولم يستطع أحد من سلالة المصريين القدماء أن يخلِّد لغة هؤلاء الأجداد.
وكانت اليونانية القديمة لغةَ شعرٍ وحكمة، فلما اشتدَّ التبلبُل في ألسنة أهلها اضطرُّوا — على الرغم منهم — أن يتخذوا من عاميتهم لهجةً جعلوا لها قواعد نحو وصرف، وهي التي يتكلَّمونها ويكتبون بها اليوم.
وكانت اللاتينية لغة الإمبراطورية الرومانية، فأتى عليها التطور، فاشتقَّت منها الإيطالية والفرنسية والإسبانية وغيرها، وأصبح لكلِّ لغة منها قواعدها الخاصة.
وقلَّ مثل هذا عن الألمانية القديمة وما تفرَّع منها.
وكل لغة من تلك اللغات الذراري هي كل يوم في تطوُّر، غير أن العلماء يُراقبون هذا التطور ويجارون الناس على ما آلت إليه اللغة في بيئتهم، حتى يوحِّدوا بين لغة الكلام ولغة الكتابة جهدَ الاستطاعة.
اللغة العربية
لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة؛ لأنها مع سريان التطور في مفاصلها وتحتيَتِها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله، لم يَدُر بخلَد أية سلطة في أي بلد من تلك البلاد المُنفصلة سياسيًّا أن يجعل من لهجة أهله لغةً قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفُها، وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ، وفي الكتابة معًا؛ تيسيرًا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والإسبان، أو كما فعل اليونان. لم يعالج أي بلد هذا التيسير، وبقيَ أهل اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة.
إن أهل اللغة العربية مُستكرَهون على أن تكون العربية الفُصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنَّة وفي آذانهم وقرًا، وأن يَردعوا عقولهم عن التأثُّر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة — رغم أنوفهم — في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرَّع فروعًا لا حدَّ لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافة الخُلف بينها وبين الفصيحة جَدَّةِ جَدَّاتها اتِّساعًا بعيدًا.
هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلُّم العربية الفصحى كيما تصحَّ قراءتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغْيٌ؛ لأنه تكليف للناس بما فوق طاقتهم.
ولقد كنا نَصبر على هذه المِحنة لو أن تلك العربية الفصحى كانت سهلةَ المنال كبعض اللغات الأجنبية الحيَّة، لكن تناولها مِن أشقِّ ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنُذكِّر ببعض هذه المشقة:
بعض صعوبات العربية
-
(أ)
إن الأفعال فيها مجرد ومزيد، ولئن كان المزيد سهل التصريف، فإن المجرَّد وهو الثلاثي له ستة أوزان، وليس في أي فعل منها علامة مميِّزة تدلُّ على الوزن التابع هو له، وليس لهذا التمييز مِن دلالات سوى قواعد معقَّدة لا تُسمن في غالب الأحيان ولا تغني؛ ففعْل «ظَفِر» مثلًا لا يَعرف القارئ إن كان ماضيه مكسور العين أو مفتوحها أو مضمومها، ولا إن كان مضارعه مفتوح العين أو مكسورها أو مضمومها، بل عليه أن ينجِّم ويخمِّن، أو يَرجع لمعاجم اللغة. ومثل «ظفِر» عدد كثير من الأفعال الثلاثية.
-
(ب)
إن الفعل الثلاثي الواحد قد يتبع أوزانًا مختلفة، فيكون في الماضي مفتوح العين أو مكسورها مثل بقَى بَقِيَ، ويكون مضمومها أو مكسورها مثل بَعِد وبَعُد، بهِت وبهُت، بل يكون صحيحًا بالحركات الثلاث مثل بَغَض وبَغُض وبَغِض؛ أي صار بغيضًا، ومثل أنَس وأنِس وأنُس، ضد توحَّشَ. وقد يكون الفعل مفتوح العين في الماضي مكسورها أو مضمومها في المضارع، مثل بطش يَبطِش أو يبطُش بكسر الطاء أو ضمِّها، وقد يكون مكسور عين المضارع أو مفتوحها مثل بات يبات ويبيت. وفي هذا التغايُر في الماضي أو المضارع في الفعل الواحد بعينه مُنتهى الحرج. وهو حرَجٌ يَدعو ابن اللغة — وبالأَولى دعيُّها — أن يفرَّ منها راضيًا من الغنيمة بالإياب.
-
(جـ)
أثقل من هذا أن الفعل الواحد له جملة مصادر، مما لا شبيهَ له في أية لغة من لغات الخلق، وهذا وقْرٌ آخر يقصم ظهر متعلم العربية، فمثلًا «بات» و«بغى» لأولهما ثلاثة مصادر: بيتًا وبياتًا وبيتوتة، ولثانيهما خمسة: بُغاءً، بَغْيا، بُغًى، بِغية، بُغْية، وذلك عدا المصدرَين الميميين للأول «مباتًا» أو «مبيتًا»، والمصدر الميمي «مبغى» للثاني. بل يَجوز أن يكون للفعل الواحد تسعة مصادر؛ مثل فعل لبِث، فإن مصادره: لَبْثًا، لُبثًا، لَبَثًا، لَباثًا، لُباثًا، لَباثة، لُباثة، لَبثانًا، لَبِيثة، عدا المصدر الميمي «ملبَث».
-
(د)
إن الأفعال فوق كونها تُبنى للمعلوم أو للمجهول، فإنَّ فيها الصحيح وفيها المُعتلَّ، ونظرية الإعلال والإبدال من أشقِّ ما يكون في العربية.
-
(هـ)
إنه بقطْع النظر عن الحروف وعن الأفعال، فإنَّ الأسماء منها مُعرَب ومبني. وإذا كان المبنيُّ من الأسماء عددًا ضئيلًا لا صعوبة فيه فإنَّ المُعرَب يكاد يشمل كل مفردات اللغة (فوق المصادر وما اشتُقَّ منها من الصفات ونحوها)، وهذا المعرَب تتغيَّر أواخر كلماته بتغير العوامل الداخلة عليها. وهي صعوبة لا تُوجد في معظم اللغات الحية.
-
(و)
فوق هذا فإنَّ الأسماء منها المصروف ومنها الممنوع من الصرف، ومنها ما هو مقصور أو منقوص، ولكلٍّ طريقة إعراب خاصة.
-
(ز)
وأثقل من هذا أنَّ الجموع متعدِّدة في العربية؛ فمِن جمْع مذكَّر سالم إلى ملحق به، إلى جمع مؤنَّث سالم إلى مُلحَق به، إلى جمع تكسير للقلَّة، إلى جمع للكثرة، إلى جمع جمع. ولئن كان الخَطبُ في جمعَي المذكَّر والمؤنث السالمين هينًا، فإن جمع التكسير متعدِّد الصيَغ، ومتعدِّد للكلمة الواحدة؛ بحيث إنَّ دراسته لا وقاية لرأس الإنسان فيها من الدُّوار.
-
(ح)
إنَّ أسماء المعاني والذوات يتشكَّل اللفظ الواحد منها جملة أشكال، فمثلًا كلمة آلاء (أي نِعَم) كالوارد في القرآن الشريف فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مفردها إلْى، إلَى، ألَى. ولو سألت أي متعلم عنها — ممَّن عدا الاختصاصيين — لما عرف لهذا الجمع مفردًا، بَلْهَ أن يعرف أن مفرَده متعدِّد على تلك الصور. وأنثى الأسد — مثلًا — هي: لَبْأة، لَبَاءة، لبُؤَة، لَبْوَة، لَبُوَة، لِبْوَة، لَبَة، لَبَاة، لَبٌ. فهذه تسعة أسماء من أصل واحد لحيوان بعينه. ودراسة هذه التغيرات مصيبة على المتعلِّم، بل إن كلمة «اسم» قال بعضهم إن فيها عشر لغات: اسم، سم، سما، كلٌّ منها مثلَّثة الأول، فهذه تسع، ثم سَمَاة تُكملها عشرًا. لكن البعض لم يقنع فجعَلها ثماني عشرة لغة، منها العشر المذكورة وتُضاف إليها ثمانٍ أخرى.
تلك الأشواك والعقَبات، وهذا التعدد، تريك الواقع من أن هذه اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموع كل لهجات الأعراب البادين في جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، جمعها علماء اللغة وأودعوها المعاجم، وجعلوها حجة على كل من يريد الانتساب للغة العربية، ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت! أفليس من الظلم البيِّن إلزام المصريِّين وغير المصريين من مُتكلِّمي اللهجات العربية الحديثة بمُعالجة التعرُّف بتلك اللهجات القديمة التي ماجَ بعضُها في بعض فانعجنَت، ولو فرض المستحيل وأمكن عزل أية واحدة منها، لكانت دراستُها — بسبب قدمها — أشقَّ مِن تعلُّم عدة لغات أجنبية حية، كل منها يُعين الإنسان في عمره القصير على مسايَرة العالم في هذه الحياة الدنيا؟
في كل سنة نسمع صيحة مدوِّية يصخُّ البعض بها معلمي العربية بالمدارس، متهمًا إياهم بالقصور أو التقصير في تلقين التلاميذ. والحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء المعلِّمين المساكين بُرآء من هذه التُّهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فإنَّ العيب إنما هو عيب اللغة التي ليس لها في مفرداتها وقواعدها أولٌ يُعرف ولا آخر يُوصف، والتي لها في الأداء جرس ولوكة لسان يضربان صماخ أذن الطفل لبُعد ما بينهما وبين لهجة أمه، فيَنفر منها ومن المعلِّم نفور الطير روَّعْتَه، والظبي باغَتَّه.
جرب في بيتك أن تُخاطب أحد الأطفال باسم الإشارة «هذا» بدل «ده» فإنه لا يَفهمك، بل يظنُّك قد طاف بعقلك مسٌّ من الجنون، فأصبحت تهذي وتتعوَّج في الكلام، ثم تراه ولَّى مدبرًا يحاول تقليدك لمُضاحكة أمه، وسائر مَن يَلقى من الأطفال، بهذَيانك!
هذا الطفل إذا وكلتَه إلى معلم، فكم من الزمن يلزمه بين مُحايَلة ومخايلة، ومحاسنة ومخاشنة، ومعاسرة ومياسرة، حتى يُعوِّد حنجرته ولسانه صحة الأداء؟ وكم يلزمه من الزمن حتى يُعرِّفه أنواع الفعل وتصاريفه ومشتقاته؟ وكم يلزمه حتى يعلِّمه مرفوعات الأسماء ومنصوباتها، ويعرِّفه فعل التعجب وأفعال المدح والذم وأفعال المقاربة، وغير هذا مما يطول شرحه ولا ينتهي امتداده؟ كل هذا فوق ما يلزمه من الزمن لتحفيظه كثيرًا من مفردات اللغة التي تعين على الإنشاء إعانةً لا تقوم بها مفردات لهجة التلميذ العامية؟ وبعد هذا لا تزال تلك الصيحة الظالمة تخرق كل سنة صماخ آذان المعلمين المساكين؟! مع أن أولئك الصائحين يَعلمون هم وغيرهم أن الإنسان يدرس هذه العربية الفصحى ويمارسها حتى يبلغ أرذل العمر، وإذا حاسبتَه لم تجده حصَّل منها شيئًا مذكورًا، إلا من أعان ربك، وقليل ما هم.
تبرؤ وشكوى
لعلَّ البعض يتساءل: ما بال هذا الرجل يُنحي هكذا باللائمة على العربية ويُصعِّب من أمرها؟ ألعلَّه يُريد نبذها والاستعاضة عنها بلغة أجنبية من اللغات الحيَّة؟ حاش لله! وبعدًا لهذا الظنِّ البليد كما بعدت ثمود! وشقحًا له، وحجرًا محجورًا!
إنَّ حصاني الأعرج ليُغنيني عن سيارة جاري، وناقتي البازل المسنَّة لأحبُّ إليَّ من طائرته وأهدى سبيلًا.
إنما هي نفثة مصدور اعتاد رؤية حصانه وناقته فأُغرمَ بهما، والعادة مُحكَّمة، وهي مِن أمهات الغرائز. اعتدتُ ممارسة العربية وهي حصاني وناقتي، فتعرَّفتُ فيها جمالًا رائعًا مستورًا تحت تلك الأشواك والعقبات الجسام، فهيَ شَهد دونه إبر النَّحل. وهذه العربية إذا كانت نهَكَتها كثرة النسل فإنها أيضًا نهكتها كمثلي كثرة الأدواء. كلانا مريض، وكل مريض للمريض نسيب. كلانا يشكو حاله، ولعلَّ أصدق ما يُعبِّر عن شكواها قول عنترة:
ولعلَّ أصدق ما يُعبر عن وقوع المكروه بنا معًا — حتى كدنا مع شدَّة الإلف نَفترق — قول الأعرابي:
ولئن كنتُ استوفيت معظم العمر، وأصبحت — كسنَّة الله — على وشك إجابة داعي الحق، فإنه ليَحزُنني أن أترك تلك الحسناء الأبيَّة الحييَّة التي تُواري جمالها في أقصى زاوية مُعتمة من خدرها، متلفِّفة في أثخن الأبراد — ليَحزُنني مفارقتها يرثها أهلي وأهل العربية على ما بها من الضَّعف والانزواء. وأخشى ما أخشاه أن يملَّ مَن بعدَنا طول مرضها وتحجُّبِها واستعصائها، فيملكهم القنوط فيُهملوها ويعتاضوا عنها لغةً أجنبية من اللغات الحية التي يعمل ذووها على نشرها في الشرق جهد استطاعتهم، لأسبابٍ لا تَخفى على أي بصير. أخشى هذا، وأخشى أن تموت عربيتُنا الحسناء، وألَّا يدركها هذا المجمع ولا عشرون مجمعًا من مثله.
الرسم أهمُّ أسباب مرض العربية
لئن كان قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد هما وحدهما اللذان رانا على جمال العربية فباعَدا بينها وبين أهلها وطلابها، وأنهما وحدهما هما اللذان يَعملان في هدم كيانها، فإنها — مع الأسف الشديد — تكون آيلةً للزوال لا محالة، على الرغم مما فيها من قوة الحيوية الذاتية؛ إذ هذه الحيوية لن تستطيع مغالبة قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد إلا إلى حين.
لكن الواقع — لحسنِ الحظِّ — أنَّ السبب الحقيقيَّ الذي هو الفاعل الأول في مرض هذه اللغة الجميلة وانزوائها في كسر بيتها، إنما هو استبداد أهلها وإكراههم إياها على الظهور في ثوبٍ غير مَقيس عليها، وصورة مبهمة مُشْكلة لا تجلِّي من جمالها شيئًا؛ أريد رسم كتابتها.
إنَّ رسم الكتابة العربية هو الكارثة الحائقة بنا في لغتنا، إنه أكبر عون لقانون التطور، وللإحساس بما فيها من الصعوبات، وللالتفات عما يزينها من جمال.
إنه رسم لا يتيسَّر معه قراءتها قراءةً مُسترسلة مضبوطة حتى لخير المتعلمين؛ وذلك لخلوِّه مِن حروف الحركات.
لقد عالج أسلافنا الاستعاضة عن حروف الحركات بالشكلات، للفتح والضم والكسر والسكون والمد والشد والتنوين، ولكن ظهر في العمل أن هذه الوسيلة لا فائدة فيها، بل هي مجلَبة لكثير من الأضرار؛ لأن الشكلة المنفصلة عن الحرف كثيرًا ما تقع على حرف قبله أو بعده؛ لعدم ضبط يد الكاتب الأصلي أو الناسخ أو الطابع، فيَرتبك الفهم للخطأ في استعمال وسيلة النُّطق الصحيح. ولذلك جرى الناس في الكتابة العادية، وفي الصحف وكتب الأدب، وكافة الأعمال بالدوائر الحكومية على إهمال الشكل، فأصبح لا يوجد في غير القرآن الكريم ومعاجم اللغة إلا نادرًا.
وأنت عليم بأنَّ عدم وجود علامات الحركات ولا حروف الحركات يَجعل الكلمة مركَّبةً من حروف أصواتٍ جوهرية، لا تعرف حركاتها بادئ الرأي فيُصحِّفها القارئ غير المتمرِّن، على جميع أوضاع الحركات التي تَحتملها الحروف. أما المتمرن فإنه يعرض نفسه لحلول عينيه؛ إذ هو لا يقع بصره على الكلمة إلا وهو يُجيله فيما بعدها من الكلمات حتى يعرف معنى تلك الكلمة، أهي اسم أو حرف أو فعل، وما وظيفتها في الجملة، وماذا تستحقُّه من البناء أو حركات الإعراب.
وهذه المشقَّة تحملني على الاعتقاد بأنَّ اللغة العربية من أسباب تأخُّر الشرقيِّين؛ لأن قواعدها عسيرة، ورسمُها مضلِّل. فمن تَحدُثُ في نفسه فكرة مفيدة للناس ويحب نشرها فيهم بالكتابة أو الخطابة، يأخذُه خوف انتقاد عبارته فيَكتم فكرته في نفسه ويُميتها، أو هو يَنشُرها بلغة من اللغات الأجنبية التي أصبحَت عند كثير من الشرقيِّين أيسر عليهم من لغتهم العربية.
لكنَّ مصر وبابل هما موطن السحر القديم، ومَهبط هاروت وماروت، وهما وكلُّ الشرق موطن الإلهام والإشراقات الباطنية!
خذ أبسط كلمة مثل «قد»، إنها تُصوِّر لك حرف التحقيق، وتصوِّر لك قامة الإنسان «قدٌّ»، وتصوِّر لك فعلًا ماضيًا «قدَّ» بمعنى قَطع، وماضيًا مبنيًّا للمجهول «قُدَّ» أي قُطع، وفعل أمر بمعنى اقطع «قُدَّ»، وهي صيغة مُشترَكة في النُّطق مع المبني للمجهول، وفعل أمر آخَر «قُدْ». ولا أدري كم مدلولًا آخر تصوِّره أو لا تصوِّره!
ألا إنَّ المشاهَدات دالَّة على أنَّ جميع الأمم التي تَستعمل حروف الحركة في كتابتها هي الأمم الراقية علميًّا وصناعيًّا، هم أهل أوروبا وأمريكا إطلاقًا. لا تحتجَّ باليابان؛ فإنهم في علمهم وصناعتهم لم يَقتصروا على لغتهم المُزعنفة الرسم الكتابي، بل إني سمعتُ أنهم مِن زمن مديد أنشئوا في بلادهم عدَّة جامعات تُدرِّس بالإنجليزية على النظام الإنجليزي، وبالألمانية على النظام النمساوي. فعلماؤهم وطلبتُهم الجامعيون الكثيرون يعرفون الإنجليزية والألمانية، وقد يَعرفون غيرهما مِن لغات أوروبا.
أما الأمم التي لا حروف حركات عندها كالصين وإيران والتُّرك (قبل الآن) والعرب، فكلها من الأمم المتأخِّرة علميًّا وصناعيًّا. ولا تَستشكل بالإسرائيليِّين، ولغتهم العبرانيةُ هي كالعربية، لا حروف حركات فيها، لا تَستشكِل فإنَّ الإسرائيليِّين متفرِّقون في كل البلاد الراقية، عارفون بلغاتها! فهم قوم عالميون. وإني وإن كنتُ لا أعرف شيئًا في العبرانية إلا أني سألتُ سيادة الحاخام الأكبر الموجود بينَنا بالمَجمع، فعلمت منه أمرَين: «أولهما» أن حروف كل كلمة تُكتَب مُنفصلة لا متَّصلًا بعضها ببعض. و«ثانيهما» أنَّ أَواخر الكلمات تلزم دائمًا حالة واحدة ولا تتغيَّر بتغير العوامل الداخلة عليها. وهما أمران في غاية الأهمية؛ لأنَّ أولهما يوحِّد شكل الحروف ويمنع اللَّبْس الناشئ عن التصاقها. وثانيهما — على الأخصِّ — يُعفي أهل تلك اللغة من مصيبة الإعراب وضرورة تغيير الحرف الأخير من الكلمة تبعًا لوظيفتِها في الكلام.
وجوب تغيير رسم الكتابة العربية
إذن فأول واجب على أهل اللغة العربية هو أن يَبحثوا عن الطريقة التي تيسِّر لهم كتابة هذه اللغة على وجه لا تَحتمل فيه الكلمة إلا صورة واحدة من صور الأداء. ولقد علمتَ أنَّ تشكيل الكلمات ضارٌّ، فلا بدَّ من التفكُّر في طريقة أخرى تؤدِّي هذا المراد.
خطَر بفكر أحد زملائنا أن يُعالج المسألة لا من جهة الرسم، بل من جهة الإعراب؛ وذلك بحذف حركاته وتسكين أواخر الكلمات. وكان من السهل إجابته إلى فكرته؛ لأن موضوعها ليس غريبًا عن أصل العربية، بل هو يُوافق بعض لهجاتها القديمة. وقد قُرئت آية: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي مثلًا، من القرآن الشريف هكذا: «ويَضيقْ صدري ولا يَنطلقْ لساني» بتسكين القاف في الكلمتين، غير أنَّ الذي يَمنع قبول هذه الفكرة أنها إذا تحقَّقت عملًا أخلَّت إخلالًا كليًّا بكلِّ ما وصل إلينا من شعر الجاهلية وشِعر المسلمين وغير المسلمين إلى اليوم؛ لأنَّك إذا فكرت مثلًا في تسكين كلمات البيت الأول من بَيتَي عنترة السابقين، وجعلته «فارتاعْ مِن وقع القنا بلبانهْ، وشكا إليَّ بعبرة وتحمحمْ» لأخللتَ بوزنه حتمًا وصيَّرته كلامًا منثورًا عاديًّا لا رونَقَ له ولا روعة. ومِن جهة أخرى فإنَّ هذا العلاج إذا كان يُزيل صعوبة الإعراب، فإنه لا يُفيد شيئًا في الصعوبة الآتية من تغيُّر الصيَغ والصور للكلمة الواحدة. فقد رأيتَ أن لفظ «قد» له صور مختلفة، ومهما سكَّنتَ آخرَه فلا يُفيدك ذلك شيئًا في بيان تلك الصور المُختلفة وفهم مدلولها، وأظنُّ أن حضرة الفاضل صاحب الفكرة لاحَظَ ما عليها من هذه الاعتراضات فلم يقدِّم بها اقتراحًا للمجمع.
إنَّ مجلس المجمع — لآخر مرة — أحال على لجنة الأصول اقتراحًا قدَّم له خاصًّا بتيسير كتابة العربية، وتلك اللجنة ندبتْ من بينها من يفحصون هذا الاقتراح، فاشتغل حضرة زميلنا الأستاذ علي بك الجارم بهذا الموضوع شُغلًا مُتواصِلًا يستحقُّ كل حمد وثناء، ثم قدم للجنة تقريرًا، أساسُ الفكرة فيه استبقاء رسم الكلمات العربية كما هو بحروفه المعروفة، وأن تُكمَل الحروف ذاتها في الكلمة التي هي منها بزوائد تدلُّ على الكسر والضمِّ والسكون والتنوين البسيط، وأن يُلصَق بالشدَّة المنوَّنة حركاتها الثلاث، على أنَّ كل حرف لا تُزاد فيه علامة يُعتبَر مفتوحًا، وفي التقرير استثناءات لبعض الأحوال.
على أنه لا محلَّ لدرس هذه الملاحظات مع اختصاصيِّين أو غير اختصاصيِّين، فإنَّ الناس في كتابتهم يَستعملون الخط الرقعيَّ عادة، على اختلافٍ بينهم في الجودة والقُبح، وهذه المخطوطات الرقعيَّة لا بدَّ — طبعًا — أن تتمشَّى عليها القواعد الجديدة، فلا يُفيدهم عمل الاختصاصي في الطباعة فائدة ما.
لقد فكَّرتُ في هذا الموضوع من زمن طويل، فلم يَهدِني التفكير إلا إلى طريقة واحدة؛ هي اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات بدلَ حروفنا العربية كما فعَلت تركيا.
أخطر هذا في بالي أني عقب أن أمَرَ المرحوم مصطفى كمال باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية التي كانت مُستعمَلةً في كتابة اللغة التركية، لاقَيتُ أحد نظار المدارس الابتدائية بالأناضول، فسألتُه عما يكون أحدَثَه هذا الانقلاب في التعليم عندهم، فأخبَرَني أنَّ اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحرَكات قد امتعَض منه الأهالي في بادئ الأمر، ومنَعوا أطفالهم من الذهاب إلى المدارس، فتلطَّفَ الأساتذة بهم مبيِّنين لهم مزية هذا المشروع، ثم تدخَّلت الحكومة وابتدأ تعليم الأطفال اللغة مرسومةً كلماتُها بتلك الحروف، فكانت دهشة الأساتذة ودهشة الأهالي كبيرة؛ إذ وصَل الطفل في شهرَين أو ثلاثة إلى قراءة أي متن مكتوب بها قراءة صحيحة، وإن كان لا يفهم بعض المتون لأنها علمية أو فنية، لمَّا ينضجْ عقله لإدراك معناها. وذلك من بعد أن كان الطفل عندهم يستغرق سنين في قراءة التركية مكتوبةً بالحروف العربية ويُصحِّفها بكل ضروب التصحيف على مثال ما هو حاصلٌ عند أهل العربية من أطفال ورجال.
بقيَتْ هذه الفكرة تشغَل بالي إلى أن عرَض — من نحو شهرَين — أمر تيسير الكتابة على لجنة الأصول بالمجمَع، وإذ كنتُ من أعضائها فقد أحببتُ أن أعرف ماذا عسى أن تكون تجربة تركيا في الست عشرة سنة الماضية، قد أظهَرت مِن مساوئ هذه الطريقة أو مِن محاسنها؛ لأنَّ النظر شيء والتجربة شيء آخر. فعمدتُ إلى المفوضية التركية، وهي آمَنُ مَورِد يُستقى منه الخبر، عمدتُ إليها على غير سابق معرفة بأحد فيها، فأنستُ بلقاء سعادة الوزير وحضرة السكرتير الأول واستطلعتُ طِلعهما معًا، فقال سعادة الوزير بحضور السكرتير ما حاصله: «أنَّ طريقة الرسم الجديد قد أفادَت أهل تركيا فائدةً عظمى؛ إذ أصبَح الطفل بعد قليل جدًّا من الزمن يَستطيع قراءة أي كتاب قراءةً صحيحة لا تحريف فيها وإن لم يفهمه. وأنه بفضل هذا الانقلاب قد زالت الأمية في تركيا تمامًا، أو كادت. وغاية الأمر أنَّ الكتابة بالحروف العربية كانت كتابة اختزالية فيها اقتصاد في العمل وفي الوقت، أما الكتابة الجديدة فإنها، بسبب حروف الحرَكات وأشكال الحروف الأُخرى، تَستغرِق عملًا أكثر ووقتًا أزيد.» ثم قال: «إنَّ الضرر الحقيقي الذي شاهَدناه هو أن الطريقة الجديدة قطعت الصِّلة بين الجيل الجديد وبين مخلَّفات السلف في العلوم والآداب والفنون.»
فقلتُ لسعادته أولًا: «إنَّ الطريقة التي أزالت الأمية في تركيا أو كادت، لا أهمية ألبتَّة لأن يكون فيها شيء من بُطءٍ في العمل أو تراخٍ في الوقت.» فأمَّن على قولي.
والواقع في هذا الصدد أنَّ الأمور بمَقاصدها، وأنَّ كل تدقيق أو إتقان يَستلزم بالبداهة العقلية من المدقِّق ومن المُتقِن عملًا أزيَدَ ووقتًا أطول؛ فإنَّ العالم المدقِّق والصانع المُتقِن يَشتغل كلاهما أكثر من غير المدقِّق ومن غير المتقِن، ويَستغرق كلاهما زمنًا أطول. ولا يستطيع أحد أن يَزعم أن في التدقيق والإتقان محلًّا للملاحظة، لمجرَّد كونهما غير اقتصاديين في الفعل ولا في الزمن. على أنَّ في الحق أن الكلمة إذا خلا رسمُها عن علامات الحركة، من شكل أو حروف حركة، كان — كما أشرتُ إليه آنفًا — رسمًا أبتر لا يُشخِّص لفظها أمام العين تشخيصًا استقلاليًّا مانعًا من صدقه على كلمة أخرى. وهذا في ذاته نقصٌ شنيع. ولو كان للكلمة أن تُنطق لصاحت كحصان عنترة، متوجِّعةً مُطالِبةً بحقها من وجوب تصويرها للناس في صورتها الكاملة وإبرازها في ثوبها المَقيس عليها، لا في صورة بتراء وثوب أقصرَ مِن قَدِّها. فإذا كان في الرسم العربي اختزالٌ فإنَّ فيه ذلك الأذى البالغ الذي عمل رجلُ تركيا المرحوم مصطفى كمال على توقِّيه، وقد توقَّاه فعلًا، فاستفادت تركيا تحديد طريقة أداء اللفظ وسرعة زوال الأمية، وهما فائدتان غاية في الأهمية والجلال، يَحسدها عليهما العدو ويَغبطُها الصديق. على أنَّ كل أمم أوروبا وأمريكا — وهي أرقى الأمم المُتحضِّرة في العالم — لم يخطر ببال فرد من أفرادها أن حروف الحرَكات معوِّقة لرسم لغاتها، وأنَّ من اللازم حذفَها اقتصادًا في الوقت وفي الزمن.
أما الضرر الحقيقيُّ الذي أشار إليه سعادة الوزير فقد قلت له: «إنه ضرر حقًّا، ولكنه موقوت، وعلاجه من أيسر ما يكون؛ هو إنفاق مبلغ من المال لطبع أمهات المعاجم اللغوية، وأمهات كتب العلم والأدب والفنون بالرسم الجديد، وإنَّ بِيَدِ حكومتكم التعجيل بالإنفاق فيَقصُر عمرُ هذا الضرر، أو التأخُّر في الإنفاق فيطول عمره.» فقال: «هذا صحيح، ولكنا شُغلنا عنه مؤقَّتًا بأمرٍ آخر، وهو تنقية اللغة التركية مما فيها من الألفاظ العربية والفارسية، والبحث عن ألفاظ قديمة من لغتِنا الطورانية لاستبدالها بها. وهذا المشروع قد فشلنا فيه نهائيًّا؛ فإنا إذا كُنا قد عثرنا فعلًا على كثير من الألفاظ الطورانية القديمة تقوم في دلالتها مقام الألفاظ التي أردنا الاستغناء عنها، إلا أن الجمهور أبى استعمالها لغَرابتها عنده، ولزمَ الألفاظ العربية والفارسية التي اعتادها، ولا وسيلةَ لإكراه الجمهور في ألفاظ اللغة وأساليبها على ما لا يريد.»
اعتذار واستئناس
قد يقول النابهون فيكم — وكلُّكم نابهون — قد يقولون أسرفتَ فأَوجِز، وبَيِّن طريقتَك التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، واقصص علينا كيف نفعَل وفي العربية نغمات أصوات لا تؤدِّيها تلك الحروف اللاتينية التي تُريدنا عليها، وقد قلتَ فيما قلت إنها لم تفِ بمطالب كلِّ النغمات الصوتية في التركية؟
حلمَكم أيها الرجال! إني لم أسرف، ولكني حقًّا أمللتُكم وكدتُ أذهب بصبركم. وعلَّة هذا الملل — كما يُدركه مَن كان في مركزي أمامكم — أنَّ لكل تجديد غضَّة، وفي كل خارج عن المألوف غَضاضة، وإنما تَنجع المقالة في المرء إذا صادفَتْ هوى في الفؤاد. على أني لولا ثِقتي بأنَّ مهمَّتكم هنا هي الإصلاح ما استطعتم، وأنكم في سبيله أحرار الضمائر، متسلِّبون من كل تعصُّبٍ لعادةٍ أو تمسُّكٍ بقديم، متى وضَح لكم وجه المصلحة في الجديد، لولا هذه الثقة وأني آوي من سماحتكم إلى ركن شديد، لما عَنَّيتُ نفسي قطُّ بعرض فكرتي عليكم.
هاكم طريقتي، منها تعلمون أنَّ تلك العقبات التي تشيرون إليها إنما هي عقبات وهمية، وأن ما قد يَعترض من هنات بسيطة هو مذلَّل تمام التذليل.
بيان الطريقة
إنَّ في اللغة العربية ثلاث عشرة نغمة صوت جوهرية، كلها خاصة بها إلا ما ندر، وكل منها يؤدِّيه حرفٌ هجائيٌّ مُفرَد، ولا تؤدِّي حروف الهجاء اللاتينية المفردة شيئًا منها، وهي نغَمات: «الهمزة، الثاء، الجيم، الحاء، الخاء، الذال، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، العين، الغين، القاف».
أما حرف الهمزة فإنه إنما يُنطَق به عرَضًا في اللغات اللاتينيةِ الحروف، في أول كل كلمة مبدوءة بحرف من حروف الحركة، وهو عرض ملازم؛ لأنَّ حرف الحركة إنما يشخِّص نبرةً هوائيةً مُطلَقةً خاليةً عن التركُّز والانضباط؛ فهي من قبيل النفَس الخارج من الرئتين لا تُكيِّفه الأحبال الصوتية، ولا أعضاء الفم والحلْق التي تضبط مخارج النغمات الصوتية الجوهرية وتميِّز أنواعها. ولذلك لا تجد عندهم حرفًا خاصًّا يشخِّص هذه الهمزة العرضية. على أنه لا يُهمُّنا أن تكون الهمزة عندهم عرضًا ملازمًا، أو فصلًا منطقيًّا هو جزء مِن ماهية حرف الحرَكة، يجعله حرفًا جوهريًّا متى ابتدأت به الكلمة. لا يُهمنا هذا فيما نحن بسبيله أصلًا. لكن الهمزة في العربية حرف جوهري أصيل، تجب — مبدئيًّا — كتابته برسمه الخاص، سواء أكان ملفوظًا به في أول الكلمة أم كان ملفوظًا به في وسطِها أو في آخرِها، إلا ما سيُتلى بعد.
وفي كل اللغات اللاتينية الحروف تُوجد نغمة «الشين» ولكن ليس هناك حرف مُفرَد يدلُّ عليها، بل الفرنسيُّون والإيطاليون والإنجليز والألمان يؤدِّيها كل منهم بتركيب مزجيٍّ خاصٍّ به من بين التراكيب الآتية:
ch | ci |
sh | sch |
والذي عنَّ لي — بعد طول التفكير — أنَّ الهمزة والجيم والحاء والخاء والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين، هذه الأحرف العشرة يجب أن تؤدَّى بذات رسمها العربي. ومن المصادَفات أن هذا الرسم يتمشَّى مع رسم الحروف اللاتينية ويتَّسق معها كل الاتِّساق؛ لأنها إذا رُسمت كالعربية كانت كما تراه في الملحق رقم ١.
ترتيب أحرُف الهجاء
يكون ترتيب حروف الهجاء على ما هو عليه عندنا الآن تمامًا وبأسمائها العربية مِن الألف إلى الياء. مع ملاحظة أنَّ الألف هو في الحقيقة صوت مدٍّ؛ أي حرف حركة مستطيلة النبرة تَنتهي نبرته بالسكون؛ ولهذا يجب أن تُوضع فوقه علامة مميِّزة تفيد هذا المعنى كالعلامة القَرَبوسية (ˆ) الفرنسية، أو مجرد شرطة أفقية فوقه وهو الأَولى، ثم يستمرُّ الترتيب على حاله إلى حرف «لا» الذي يجب استبعاده ووضع حرف الهمزة مكانه، فتبقى حروف النغمات الصوتية الجوهرية عندنا ثمانية وعشرين، وتَبقى عدَّة حروف الهجاء تسعة وعشرين كما هي الآن ببقاء حرف الحركة الممدود، وهو الألف ضمنَها، وإن كان لا يمثِّل نغمة صوتية جوهرية إلا عَرَضًا كما سيأتي:
حروف الهجاء جميعها وحروف الحركة
وخلاصة ما تقدَّم أن رسم حروف الهجاء التسعة والعشرين يكون كما هو في المُلحَق رقم ١.
ورسم حروف الحركة هكذا:
كسرة | ضمة | فتحة |
i | u | a |
- إحداهما: حالة المقطع الأخير من كلمة موقوف عليها متى كان قبل حرفها الأخير
الموقوف عليه «ألف» أو «واو» أو «ياء» ممدودة، أو حرف نغمة مفرَد غير متحرِّك مسبوق أو
غير مسبوق بحرف مدٍّ من هذه الأحرُف الثلاثة؛ وذلك كما في الأمثلة السابقة، وفي مثل
المقطع الأخير أيضًا من كلمات:
«كبار، يعملون، يؤمنون، يمرُّ، يفرُّ، فارٌّ.»
- وثانيتهما: أن يكون المقطع في أول الكلمة، أو في وسطها متى كان مركبًا من حرف
متحرِّك بألفٍ ممدودة بعدها مباشرةً حرف نغمة مشدَّد؛ أي مضعَّف، نغمته الأولى تالية
مباشرةً لسكون الألف؛ وذلك مثل مقطعي كلمتي «حافِّين، ضالِّين» ومثل المقطع الثاني
من كلمة «مشاحِّين» ومن كلمة «يوادُّون».
مع ملاحظة أنَّ حرف «الألف» إذا كان بأصل وضعه هو حرف مدٍّ كما أسلفنا فإن حرفَي «الياء» و«الواو» ليسا بأصل وضعِهما — كما يبدو لي — من حروف المدِّ؛ إذ هما لا يمدان شيئًا في مثل: «أين، لولا، مَيْن، أوَد» وهكذا. غاية الأمر أنَّ «الياء» إذا وقعت بعد حرف مكسور و«الواو» إذا وقعت بعد حرف مضموم فإنَّ سكونهما يُثقل النُّطق به فيَسهل بمدِّ «الياء» لحركة الحرف المكسور الذي قبلها و«الواو» لحركة الحرف المضموم الذي قبلها. ولن يزال اللافظ بهما في هاتين الصورتين مُستصحبًا نغمة الياء أو الواو في كل الْمَدَّة، ولا زالت الياء والواو ساكنتَين لأنَّ كلَّ مد ينتهي حتمًا بالسكون.٦
مَفاد هذا أن حرفي النغمة كلما تجاورا، سواء أكانا من نغمة واحدة، كالحرف المشدَّد الذي هو حرفان مُدغمان، أم كانا من نغمتين مختلفتين، فإن أولهما يكون ساكنًا حتمًا، ويكون من جهة أخرى، وحده أو مع ما يسبقه من حروف المد — «ألفًا» أو «واوًا» أو «ياءً» — جزءًا مُتمِّمًا للمقطع المبتدئ بالحرف المتحرِّك الذي قبله أو قبل حرف المد السابق عليه. أما ثاني حرفَي النَّغمة المُتجاورين فيكون متحرِّكًا حتمًا إلا في حالة الوقف عليه، ذلك الوقف الذي قد يحدث معه أن يكون المقطع الأخير من الكلمة مُنتهيًا بثلاث سكنات؛ كما في كلمتي «مواد، بار».
ومع وضوح هذه القاعدة التي لا تَلتبس معها معرفة الحرف الساكن، فلا محلَّ لوضع علامةٍ خاصَّةً للسكون.
بعض ملاحظات
-
(أ)
ما دامَت الألف هي وأحرف الحركة الثلاثة i, u, a إذا وقَع حرف منها في أول الكلمة أو كان مُنفردًا فلا يُمكن النُّطق به إلا بالاعتماد على همزة جبرية تَسبقه، فأرى أنَّ الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة ممدودة كانت أو مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة بدون مدٍّ، فإنه لا لزوم مُطلَقًا لرسمها، بل يُكتفى بالألف أو بحرف الحركة. ويَستوي في هذا أن تكون الكلمة اسمًا أو فعلًا أو حرفًا. وعلى ذلك فكلمات: «آمين، أمرَ، أوتي، إقبال» وحرف الشرط «إنْ» وأمثال هذا، وأداة التعريف «ألْ» متى كانت همزتُها همزة قطع ترسُم كما في الملحَق «رقم ٢».
-
(ب)
همزة الوصل في «أل» وكل همزة وصْل أخرى تَسبق اسمًا أو فعلًا يُرمز لها بعلامة شولة مثل الشولة الفرنسية virgule (’) توضع مكان الهمزة عالية نوعًا عن سطر الكتابة المليء؛ كيلا يَلتبس بها الترقيم. فأداة التعريف «أل» وكلمات: اسم، اكتب، استقم، انتقل. التي تَسقُط همزتها في القراءة المُسترسِلة وتَصير همزة وصل، تُرسم كما في الملحق رقم ٢.بحيث إذا دخلَت أداة التعريف في هذه الحالة على اسمٍ أوله همزة وصل أيضًا، فلا بدَّ من وضع الشولة بالشكل المذكور نفسه قبلها ثم بعدها؛ فعبارة «بالاستقامةِ» تُكتَب هكذا bi’l’stiqâmati (كما في الملحَق).
-
(جـ)
حرفَا الواو w والياء y هما — على خلاف حرف الألف — حرفان جوهريان يشخص كل منهما نغمة صوتية جوهرية كما سبقَت الإشارة إليه. وإذن فلا يَجوز استعمالهما مطلقًا لتحريك الحرف الذي قبلهما بالضمِّ أو الكسر أو المدِّ بذاتهما، بل يجب أن تُوضَع قبلهما علامة ضمِّ الحرف أو كسرِه. فكلمة سرور مثلًا وحرف الجر «في»، وكلمة «هي» ضمير المؤنثة الغائبة إذا وقف عليه، وكلمة «نيل» تُكتب جميعها كما في المُلحَق.
-
(د)
ما عدا ما تقدَّم فإنَّ كافة حروف المعاني تُكتَبُ كاملةَ الحروف الهجائية بحسب أصل وضعها اللُّغوي تمامًا، مع كتابة حرفي «إلى» و«على» بصيغتَي إلىْ، علىْ (كما في الملحق)، وهي الصيغة الوضعية التي يأخذانها عند دخولهما على الضَّمائر.
-
(هـ)
وكل ما يصحُّ التجوز فيه هو أن تلاميذ المدارس متى عرفوا أنواع حروف المعاني من عاطفة وجارة ونافية وغير ذلك، فهناك يُمكن حذف الحركة من واو العطف وواو المعية، ومن فاء العطف وفاء السببية، ومن باء الجر وكاف التشبيه والجرِّ، والاكتفاء بالرمز لهذه الحروف بحرف هجائي واحد w, f, b, k لأنَّ كلًّا منها كلمة مركبة مِن حرف مُتحرِّك واحد ملازم دائمًا لحركة واحدة. ومتى جرت العادة برسمها كذلك عُرفَت فلا يقع فيها لبْس.٩أما واو القسم ولام الجر فتجب كتابة أُولاهما كاملة wa تمييزًا لها عن العاطفة وعن التي للمعية، وكتابة ثانيتهما بحسب صيغتِها أيضًا li, La؛ لأنها تكون تارةً مكسورة وأخرى مفتوحة، فلا يؤمن اللبس إن رُمز لها بحرف لام l فقط غير متبوع بحرف الحركة i أو a.
-
(و)
وكذلك تُكتَب الأسماء والضمائر والأفعال بكافة حروفها، ولا يسقط منها شيء مما يسقط في درج الكلام.
-
(ز)
والغرض من كتابة الحروف والأسماء الظاهرة والضَّمائر والأفعال بكافة حروفها أن تُعرف على حقيقتها؛ إذ لو حُذف منها ما يَسقط بالدرج لسقط ضمير المتكلِّم وضمير الغائبين والمخاطبين في مثل: «جاء أبي اليوم، اكتبوا اليوم، واسمعا الكلام، اسمعوا الكلام، لا تقولوا الباطل» وهكذا، وفي هذا مُنتهى العبث والتضليل.
وصحيح الأمر أنَّ سقوط بعض الحروف في درج الكلام إذا كان حاصلًا في العربية فهو حاصلٌ أيضًا في غيرها من اللغات. والمعوَّل فيه لا على اختزال الرسم، بل على ضرورات النُّطق وعلى التلقين. ويَتبع هذا أحوال الحروف الشمسية والقمرية؛ فإن المعوَّل فيها أيضًا على التلقين، ولا ينبغي مسُّ لام التعريف أو أول حرف في الكلمة الشمسيةِ الحرفِ الأولِ بشيء.
-
(ح)
كافة الحروف والأسماء الظاهرة والضمائر والأفعال تُكتب منفصلًا بعضها عن بعض بقدر الإمكان، فلا يتصل منها بالفعل الماضي سوى ضمير المثنَّى الغائب «ضربًا» و«ضربتا» وضمير جمع الغائبين المذكَّر «ضربوا»، أما المضارع فيتَّصل به ضمير المخاطبة «تضربين» وضمير المثنَّى مطلقًا «يضربان، تضربان» وضمير جمع الذكور مطلقًا «يَضربون، تضربون». أما نون جمْع الإناث «يضربن، تضربن» فلا تتَّصل لأنها مقطَع واحد من حرف متحرِّك واحد، وتمكن كتابته والنطق به منفصلًا، ومثله ضمير الغائبات في الماضي «ضربن».
-
(ط)
كافَّة أسماء الذوات والمعاني يكون حرفها الأول من النوع الكبير؛ وذلك فقط في كتب الهِجاء والتمرين التي تُوضَع للأطفال. أما باقي أنواع الاسم مِن ضمير ومصدر مفيد للحدَث وصفة وما أشبَهَ، وكذلك كل الأفعال وحروف المعاني فيكون كل حروف رسمِها من نوع أصغر، ما عدا الكلمة التي تقع في أول الجملة المُنفصلة عما قبلها فصلًا تامًّا، فإنَّ الحرف الأول من رسمها يكون كبيرًا بقطع النظر عن كونها اسمًا أو فعلًا أو حرف معنى.
أما بعد المرحلة الأوَّلية مِن مراحل التعليم فلا يُكتب في الجمل بحرف كبير سوى الحرف الأول من العَلَم ومِن المسنَد إليه؛ أي الفاعل أو المبتدأ، ومن أول كلمة في الجملة.
حروف إضافية
المقارنة بين هذه الطريقة وطريقة تيسير الكتابة مع التزام الأحرُف العربية
إنَّ طريقة حضرة الجارم بك تَقتضي أن تكتب عبارة: «خير البرِّ ما تعهَّد به المرء نفسه، وخير برِّ النفس أن تربأ بها عن مواقف الاعتذار.» وكذلك مثل بيت أبي تمام:
على الهيئة التي تراها في الملحق رقم ٣.
يكفي أن يطَّلع الإنسان على هذا التيسير حتى يَستعسِرَه ويُغمض بصره من دونه. وقد قلتُ لسيِّدي الجارم بك شفهيًّا يوم أن عرض مشروعه على اللجنة في الشهر الماضي: إنَّ هذا الرسم مشوِّهٌ لجمال الرسم الراهن، فقال: إنا لا نبحث عن الجمال، ولكنا نبحَث عن «المنفعة». لكني أؤكِّد لكم أني أربأ بنفسي وأفرُّ بها عن كل منفعة تأتيني من هذا الرسم الذي لا يَلبث أن يذهب بما في قوة احتمالي وجلَدي من بقية. ولقد أشرتُ إلى هذا المعنى في تقريري الذي قدمتُه للَّجنة في هذا الصدد؛ إذ قلت: «إنَّ تلك الزوائد الواردة في هذا الرسم تردُّ البصر حسيرًا لتشويهها جمال الرسم الأصلي؛ إذ هي تبدو كالزعانف في الجسم السويِّ، أو كالعجر والعقد في جذوع الأشجار المُهمَلة التثقيف، وإني لا أوافق عليه مطلقًا.» ولقد اطَّلعتُ أول مِن أمس بعد انصرافي مِن جلسة المؤتمر على تقرير يردُّ به الأستاذ الجارم على مُلاحظاتي، فإذا هو يُردِّد قوله الشفهي السابق مُستبدلًا كلمة «الصحة» بكلمة «المنفعة»، ولستُ أرى أني استفدتُ مِن هذه الكلمة شيئًا غير نقيضها وهو المرض.
وأقول لكم الآن: إنَّ المسلمين إذا كانوا من مبدأ أمرِهم نظروا إلى فنِّ النقش والتصوير بعين الكراهة لأنه يُذكِّر بأصنام الكعبة التي نَعى عليها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنهم وجَّهوا ملَكتَهم الفنية في مجرى آخر هو مجرى فن العمارة وتزويقها، وعلى الخصوص إلى فنِّ الكتابة، فنبذوا خط الجزم وهو الخط الكوفي الأصلي البدائي العسر القراءة، وصبُّوا خيالهم الفني في الخط العربي المستعمَل الآن بأنواعه من ثُلثي ونسخي وفارسي ورقعي وغير ذلك، مما تجدون نماذجه مجموعة في آخر معجم «المنجد» الحاضر بين يديكم. وكل نوع من هذه الأنواع له جماله الخاص الفاتن كما ترَون.
والناس لا يَعيشون بالعقل فقط، بل العواطف والخيال الفني لهما قسط عظيم في تَهوين الحياة وتيسيرها على الإنسان، فإذا كنتُ أقول إن تلك الطريقة تردُّ بصري حسيرًا فإني متَّفِق مع نفسي وشعوري، ولا أريد حقيقة أن أقبَلها مهما يكن فيها من تحقيق منفَعة أو صحة أداء.
على أنه ما هي تلك المنفعة أو الصحة التي سمعتُ ذكرها؟ أهيَ تجعل الناس يقرءون العربية قراءة مضبوطة؟ كلا، ثم كلا. إنها — كما ترَون مما رسمتُه لكم بحسبها — موقعة في اللبس الشديد؛ إذ تلك الزوائد تَشتبه الكسرة منها بالميم أو الهاء الساقطة. أو كما قال الأستاذ الشيخ حمروش في ردِّه الذي وُزِّع علينا أيضًا ضمن ما وزِّع أول من أمس: إنها تَشتبه بالياء في إحدى طرُق الرسم العربي، وإن الضمَّة فيها تَشتبه بالدال، خصوصًا إذا كانت في آخر الكلمة. ويَشتبه التنوين المضموم بالهاء الأخيرة في بعض طرق الرسم، كما قال الأستاذ الشيخ حمروش أيضًا. وتَشتبه الواو الساكنة بالفاء والمضمومة بالقاف، وهكذا مما ترَون أمامكم من مُلاحظاتي وملاحظات الأستاذ الشيخ حمروش.
كلنا يَعلم أنَّ الكتابة إما مخطوطة باليد، وإما حاصلة بآلات الطباعة. فلئن كان المشروع مُقترَحًا فيه من جهة الطباعة أن تُسبك قوالب خاصة لهذه الحركات والسكنات والشدَّات والتنوينات تُوضَع في مواطنها إلى جانب الحروف مُنفصلة قائمة بذاتها، لئن كان هذا، فإنَّ الذي يَكتُب بيده لا يضع هذه العلامات منفصلة، بل حركة يده المستمرة هي التي تؤدِّيها فتصلها حتمًا بالحروف فتخرج الكتابة الخطَّيَّة فضلًا عن تشويهها مرتبكة معقَّدةً داعية إلى اللبس والاختلاط.
ثم إذا كان ما يلاحظ على طريقة الحروف اللاتينية أنها غير اقتصادية في الوقت ولا في العمل، فإنَّ طريقة هذا المشروع بما فيه من الزوائد تَربو كثيرًا على ما يزيد في العمل والوقت إذا استعملت الحروف اللاتينية.
ومن جهة أخرى فإننا جميعًا نشكو من الطباعة ومِن التصحيف الذي يجري فيها فيحرِّف الكلمات ويشوِّش المعنى على القارئ. لكنا لو فكرنا قليلًا لوجدنا أن العلَّة الأساسية لهذا التصحيف إنما هي مَلَل عامل الطباعة عندنا من صعوبة عمله؛ إذ بينما قوالب الحروف اللاتينية لا تزيد على (٢٥ أو ٢٦) خمسة وعشرين أو ستة وعشرين، وهو عدد حروف أبجديتها، فإنَّ حروف الهجاء العربية فيها ثلاثة وعشرون حرفًا، لكل واحد منها قوالب أربعة بحسب ما يكون منفردًا، أو في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها، فهذه (٩٢) اثنان وتسعون قالبًا. ثم الستة الباقية وهي الألف والدال والذال والراء والزاي والواو لكل منها قالبان بحسب ما يكون متَّصلًا بغيره أو منفردًا. فهذه اثنا عشر قالبًا بها تكون جملة قوالب الهجاء العربي (١٠٤) مائة قالب وأربعة قوالب؛ أي أربعة أمثال قوالب اللاتينية. فتعدُّد القوالب يَكسر قلب العامل، ويُورثه السآمة والملل، فيخاطر بفضيلة الإتقان ويهرب منها؛ لأنَّ وقته في العمل محسوب عليه، وتردُّده بين صناديق القوالب المختلفة للحرف الواحد يوقعه حتمًا في الخطأ ووجع الدماغ. لكن المشروع يُلزم عاملنا فوق هذه المشقة بمشقة أخرى؛ هي أن يرجع أيضًا لصناديق الضمة والكسرة والسكون والتنوين البسيط والتنوين المشدَّد مضمومًا ومفتوحًا ومكسورًا!
كل ذلك إذا فرضنا أنَّ مراد المشروع هو استبقاء قوالب الحروف العربية بحسب ما هي عليه اليوم، في عددها وهيكلها الموجودَين الآن، وأن تلك الزيادات إنما تأتي مُجاورةً لها غير متصلة بها. أما إذا فرضنا أن المراد هو أن تعمل في قوالب الحروف فجوات تتلبَّس بها هذه الشكلات، أو فرضنا أن المراد أن تكون بعض تلك الزوائد جزءًا أصليًّا من بنية الحروف، إذا فرضنا ذلك فإن المصيبة على عامل المطبعة تكون أدهى وأمرَّ.
لئن كان كل كتاب من كتُبنا الأدبية أو العلمية التي تُطبع الآن ينتهي بصحيفتين، أو أكثر لبيان ما وقع في الطبع من الخطأ وبيان صوابه؛ فإنَّ زيادة العمل التي أتى بها المشروع ستُضاعف الأغلاط والتصويبات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الحروف اللاتينية إذا كانت تقطع بين الجديد والقديم، كما أشار إليه حضرة الأستاذ الجارم بك في ردِّه الكتابي علينا، فإن طريقته تقطع بينهما أيضًا؛ لأنَّ من يتعوَّدها لا يَستطيع أن يقرأ رسم الكتابة الحالي. على أني كنتُ أودُّ من صميم قلبي أن توجد طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية، ولا زلتُ أتمنى هذا، ولكني لم أظفَر، وأتخيَّل أني لن أظفر بتحقيق هذه الأمنية المحبَّبة لنفسي ولأنفس أهلي وأهل العربية. ومن يُحقِّق لي هذه الأمنية — وهي جعل كل حرف في الكلمة يدلُّ بذاته على صورته الصوتية دلالةً صادقةً — فإني أعدُّه وعدًا حقًّا بمكافأته جهد استطاعتي على أحسن وجهٍ يُكافأ به فاعل هذا الخير العميم.
مزايا استعمال الحروف اللاتينية
-
(أ)
مزيَّة طريقتنا على طرُق اللغات الأخرى أنَّ الحروف الهجائية بحسب ما وضعناها لا تُخلُّ بشيء من نغمات الحروف العربية، بل هي تُبرزها جميعًا بلا استثناء، وكل نغمة منها يشخِّصها كما هو الحال الآن حرف واحد لا يَشترك غيره معه في أدائها، خلافًا للحاصل في بعض النغمات التي يَستعمل الإنجليز والفرنسيون والألمانيون والإيطاليون مركَّبًا حرفيًّا لإبرازها. ثم هي لأدائها جميع نغمات العربية تُفضِّل الطريقة التركية التي لا تؤدِّي الحروف المتَّخَذة لها كل ما في اللغة التركية من نغمات اللسان التركي الأصلي، ولا من نغمات بعض حروف النغمات التي كانت مُستعارةً من العربية وغيرها.
-
(ب)
أنَّ حروف الهجاء العربية الموجودة الآن عدَّتها ثمانية وعشرون حرفًا بعد استبعاد اللام ألف (لا) التي لا تؤدِّي نغمة خاصة. مِن هذه الثمانية والعشرين حرفًا ثلاثة عشر فقط غير منقوطة، أما الخمسة عشر الباقية — وهي أكثر مِن النِّصف — فكلُّها منقوطة؛ منها ما له نقطة واحدة مِن تحته أو مِن فوقه، ومنها ما له نقطتان من تحته أو مِن فوقه، وما له ثلاث نُقط من فوقه.
أما الحروف المقترَحة فعدَّتها تسعة وعشرون حرفًا، منها عشرون غير منقوطة، أما التسعة الباقية فمنها خمسة حروف فقط هي المنقوطة، وهي «ج، خ، ض، ظ، غ»، وكلُّها مأخوذة من العربية، ولكن كلًّا منها ليس له إلا نقطة واحدة من فوقه ما عدا الجيم، أما الأربعة الأخرى فقد أضيف للأصل اللاتيني لكلٍّ منها شَرطة أفقية لتحديد النغمة التي اتُّخذ لها، كما أنَّ حروف الحركة ليس منقوطًا منها سوى i المتَّخَذ للكسرة.وبما أنَّ كثرة النقطات واختلاف أعدادها ومَواضعها هي، كالشكل، من الأسباب المشوِّشة للرسم، المضلِّلة للقارئ، الموقعة في ضروب من الخطأ والتصحيف؛ فلا شكَّ أن طريقة الحروف اللاتينية التي لا يَكثر فيها النقط ولا تختلف أعدادُه ولا جهات مَواضعه، بل يَنزل إلى وحدته الصُّغرى وتقلُّ مواضعه وتتوحَّد جهتها (ما عدا الجيم) — لا شكَّ أن لها فائدة كبرى من هذه الناحية التي تعمُّ فيها بلوى الرسم العربي وتَكثُر منه الشكوى، وعلى الأخصِّ في المخطوطات.
-
(جـ)
أنَّ اتخاذ حروف الحركة يَضبط كيفية أداء الكلمة ويَحصر هذا الأداء في وجهٍ واحد بعينه لا يَحتمِل شكًّا ولا اشتراكًا، فأوزان الأفعال المجرَّدة والمزيدة والماضي منها والمُضارع والمبني للمعلوم والمبني للمجهول وأوزان الاسم، والممنوع من الصرف، وحركات البناء وحركات الإعراب جميعها؛ من فتْحٍ وضمٍّ وكسْرٍ وسكونٍ وشدٍّ وتنوينٍ بسيط وتنوين مشدَّد، ومَواطنُ الشدِّ في الأسماء والأفعال والحروف، كل ذلك يؤدِّيه رسم الكلمة بذاته على ذلك الوجه المعيَّن الموحَّد بدون احتياج لشكلات أو زيادات أو أية وسيلة أخرى. وهذا منتهى ما يتمناه كلُّ محب للعربية.
-
(د)
أنَّ الحروف اللاتينية تُرسم في المطبوعات كلٌّ بأصل هيكله المعيَّن له، وتوضع في الكلمة الواحدة مُتجاورةً فقط لا متصلًا بعضها ببعض ولا مجنيًّا على أصل هيكلها باتصال متعدِّد الهيئات، كما هو الشأن في الرسم الحالي. ثم هي في المخطوطات اليدوية تُرسَم كذلك غير متَّصلة إلا بذنباتها الطرفية مع بقاء جوهر هَيكلِها سليمًا محفوظًا من كل تغيير مُضلِّل. هذا الرسم البسيط المُدرجة في غضونه حروف الحركات، فيه ما لا غاية بعده مِن تسهيل القراءة الصحيحة على الكافة. وحَسْب مُعلِّمي الأطفال أن يُفهموهم نظرية المَقاطع — وهي بسيطة كما أسلفنا — حتى يستطيع الطفل أن يَقرأ أي مطبوع بعد نحو شهرَين أو ثلاثة فقط، كما دلَّت عليه التجربة في تركيا، وكما هو مُشاهَد كل يوم في أولادنا الذين يتعلَّمون لغة أجنبية في مدارس الحكومة أو غيرها. فإنهم بعد زمن وجيز جدًّا يستطيعون قراءة أي نصٍّ مطبوع منها قراءة مضبوطة لا تَحتمل شكًّا ولا تصحيفًا. بينما هم قبل ابتدائهم تعلُّم اللغة الأجنبية، أو في الوقت نفسه الذي ابتدءوا فيه تعلُّمها، يكونون قد حُوول تعليمهم العربية، لكنَّهم مع الجد في تعلمها وزيادة ساعات الحصص المقرَّرة لها، يقضي الواحد منهم كل سني الدراسة من أوَّلي وابتدائي وثانوي وعالٍ أو جامعي، ويخرج بعد هذا الزمن الطويل العريض غير مُستطيع — بسبب سوء الرسم — قراءة أي نصٍّ مطبوع — بلْه المخطوط — من لغته العربية قراءة صحيحة. وهي خصوصية جهل لا تتحقَّق في أمة من الأمم المُجاورة لأوروبا إلا في أهل العربية، حتى ليصحَّ أن يُعرَّف الواحد منهم — أنا أو غيري ممَّن ليسوا هنا — بأنه «كائن عريض الأظفار، كاتب، قارئ، جاهل قراءةَ ما يكتب هو وما يُكتب له قراءةً صحيحة!» يا للخَسار، ويا للعار والشنار!
وبعد هذا يتهمون المعلِّمين بالقصور أو التقصير، ويَفرضون لهذا المجمع اللغوي قوَّة سحرية لم يهبها له الله ولم يَكسبها أحد من أعضائه بعمله، فيطلبون إليه تحسين شأن العربية! كيف يكون هذا التحسين والوسيلة الأساسية إليه خائبة كما ترى؟!
-
(هـ)
أن طريقتنا التي توجبُ كتابة كل كلمة قائمةً بذاتها من أسماء ظاهرة وضمائر وصفات وظروف وحروف، وعدم وصل كلمة بأخرى إلا عند التعذُّر كما سبق البيان، وأن يكون رسم كل كلمة مستوفيًا صورته اللغوية الوضعية، وأن يُكتب الحرف الأول من الأسماء وحدها بخط كبير (في كتب الهجاء والتمرين للأطفال فقط)، هذه الطريقة فيها كل تسهيل للتعليم والتعلُّم؛ إذ المبتدئ بمجرد نظرة يُلقيها على النص المكتوب يدرك الاسم ويدرك الضمير ويدرك الظرف ويدرك كل حروف المعاني التي اعتادها، فتضيق الدائرة التي يبحث فيها عن الفعل وعن المصادر والصفات، وهي فائدة لا تخفى على أحد.
-
(و)
إن المعلمين ليَخدعون أنفسهم عندما يُصحِّحون ورقة الإنشاء الذي هو أهمُّ ما يُقصَد من التعليم، ذلك بأن التلاميذ لا يستعملون الشكل، بل يكتبون الكلمة محتملة لأوجه مختلفة من الأداء؛ فالمعلم يَقرؤها على الوجه الصحيح، فيظن أن التلميذ كتبها على هذا الوجه، وغالبًا ما يكون هذا غير مُوافق للواقع من نية التلميذ. فإذا كتب التلميذ فعل «ظفِر يظفَر» من غير شكل فإنَّ المعلم يقرأه على هذا الوجه الصحيح (المشكول هنا)، ولو أنه سأل التلميذ قراءته فغالبًا ما يقرؤه «ظفَر يظفِر أو يظفُر» على هذا الوجه غير الصحيح. لكن الأستاذ لا يسأل أحدًا من تلامذته قراءة ورقة الإنشاء. وهذا كتْم للدم على القُبح. أما لو أن كتابة التلميذ كانت بالحروف اللاتينية لما انخدع المعلم ولما بقي التلميذ قارًّا على خطئه.
-
(ز)
بل كما يَخدع التلميذ مُعلمه — بقصد أو بغير قصد — فإن رسم العربية الحالي ييسِّر لكثير من الكُتَّاب أن يعيشوا بجهلهم على حساب سلامة نية القراء؛ فبعض مَن يضعون مقالات ويُرسلونها — مثلًا — إلى الأستاذ أنطون الجميل بك لنشرها في جريدة الأهرام التي يُديرها، إذا هم كتبوا فعل «ظفِر» ماضيًا أو مضارعًا كما كتبه التلميذ، فإن حضرة أنطون بك يقرؤه صحيحًا كما يقرؤه المعلِّم، ويظن أن نية محرر الرسالة عند الكتابة إنما هي تعمد الوجه الصحيح. فيستمر محرر الرسالة على جهله لأن المدير في الغالب لا يراه ولا يُلاحظ له على رسالته شيئًا. لكن لو أن الكتابة هي بالحروف اللاتينية لألقى كل كاتب باله لما يَكتب؛ لأنَّ خطأه يكون بارزًا يلحظه مدير الجريدة وغيره عند القراءة ويُقدِّر درجة علمه بالأوضاع العربية أو جهله بها. وإلقاء البال مفيد جدًّا في تعويد الكتَّاب أوضاع الفصحى ومُفيد في تعميمها.
-
(ح)
أنَّ الطفل متى انتهى في زمن وجيز — بسبب الحروف اللاتينية — إلى صحة القراءة، توافَرَ له الزمن ولو للعب وتنمية جسمه. ومتى شبَّ وقراءته صحيحة استفرغ مجهوده للعلم دون سواه. وهذه مزية كبرى.
-
(ط)
أنَّ هذا الطفل متى تعوَّد من صغره صحة النُّطق بالألفاظ العربية أصبحت هذه الصحة عادةً له في كتابته وقراءته، وامَّحت من خلايا مخِّه الأوضاع الخاطئة، وأصبح يُنكر كل خطأ منها ويعدُّه شذوذًا. وهذه من أكبر المزايا المرقية للعربية والداعية لتعميمها.
-
(ي)
أن بلاد العربية بسبب موقعها الجغرافي وكونها الممر الطبيعي بين الشرق والغرب، وزيادة طرُق المواصَلات العالمية، وعدم إمكان إغلاق حدودها أبدًا دون الأجانب، لا بد لأهلها من تعلم لغة من اللغات الأجنبية الحية حتى يُسايروا غيرهم من الأمم وينقلوا عنهم ما عندهم من العلوم والفنون والصناعات التي تيسر سبيل الحياة. وهذه حقيقة أدركتها مصر وغيرها، فلا تخلو بلد منها من تعليم لغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية، بل وكالإيطالية والألمانية وغيرها — على التوزيع — في معظم مدارسها. فالطفل الذي يتعلم العربية على الطريقة التي نَقترحُها يسهُل عليه جدًّا سرعة تعلم أية لغة من تلك اللغات الحية؛ وذلك بسبب توحيد أشكال الحروف بينها وبين العربية، وعدم وجود ثنائية١١ في هذه الحروف وفي طريقة الكتابة تُتعب الطفل وتوقعه في الارتباك، كما نشاهد جميعًا في أطفالنا الذين يتعلمون لغة أجنبية مع العربية في آنٍ.
-
(ك)
طريقة الحروف اللاتينية تُسهِّل قراءة الأعلام الأجنبية والكلمات المعرَّبة، ومنها الاصطلاحات العلمية وهي كثيرة، وتُسهِّل على الأخص ما كان من تلك الكلمات والمصطلحات فيه جزء من أصلٍ يوناني أو لاتيني؛ إذ هي تُعين على فهم معناها فهمًا صحيحًا بفهم ذلك الجزء اليوناني أو اللاتيني القديم. وهذه ميزة من أكبر الميزات؛ فكلنا يعلم أن كتابة تلك الأعلام والمصطلحات بالرسم العربي تُنكر المعنى وتُشوِّه طريقة أداء الأصل بحسب ما يؤديه به أهله المنقول هو عنهم.
-
(ل)
من مزايا هذه الطريقة أنها تُسهِّل على الأجانب تعلُّم العربية، وقد تمنعهم من تشويه أعلامنا وتنكيرها علينا، نحن أهل العربية، كما شوَّهوا أسماء: محمد وابن سينا وابن رشد والقاهرة مثلًا، فجعلوها «مهمت، أفيسين، أفيرويس، كيْرو أو كير.» ولا شكَّ أن للعربية ولأهلها مصلحة كبرى في نشرها بين الأجانب، كما أن لها ولهم مزية كبرى في عدم تشويه أسماء رجالها العظام وتنكيرها هي والأعلام الجغرافية وغيرها، لدرجة أن قارئها منا بلغتهم لا يفهم غالبًا حقيقة عَلَمِنا المشوَّه.
-
(م)
أنَّ بعض النغمات الخاصة بالعربية ما دام لها حرف مفرد واحد فالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، لا بدَّ أن يفكر أهلها يومًا ما في اتخاذ حروفنا المُفرَدة بدل مُركَّباتهم المزجية، فيستعملوا حرف t (وعليه شرطة ثانية) وحرف «خ» بدل Kh. Ch. Th.. ويَستعملوا «ح، ع» فيما ينقلونه عن العربية بدل استعمالهم حرفي a, h اللذين لا يؤديان النغمة. وفي هذا تسهيل علينا لفهم ما يَقصدون.
-
(ن)
أنَّ طريقة الحروف اللاتينية تسهل الطباعة تسهيلًا كليًّا علينا وعلى غيرنا ممن يَطبعون شيئًا من نصوصنا العربية، ففيها اقتصاد عظيم في العمل وفي الزمن، ثمَّ في النفقات أيضًا لاشتراك معظم الحروف بيننا وبين غيرنا.
-
(س)
أنها تُطمئن مؤلِّفي الكتب الأدبية وتؤمِّنهم مما يتَّقون من تصحيف الطابعين والقارئين، وتوفِّر عليهم ما نجده في كتبهم من قولهم — تحديدًا لنغمة حروف الكلمات وحركاتها: «بالنون، بالتاء المثناة، بالثاء المثلَّثة، بالباء الموحَّدة، بالقاف المثنَّاة.» وقولهم في ضبط كلمة «وَضَم» مثلًا: «بفتح الواو، تتلوها ضاد موحَّدة الفوقية وزان قمر.» وهكذا من التوصيفات التي تشغَل بالَهم وتزيد عملهم وتُضيِّع وقتهم، والتي لا نجد لها مثيلًا في أي كتاب أدبيٍّ أجنبي نقرؤه.
-
(ع)
أنها تُعفي كتبنا الأدبية والعلمية من الدلالة الإشارية لعبارة «جلَّ من لا يسهو.» أي مِن معرة الأخطاء الكثيرة والتصويبات التي لا يخلو منها آخر؛ أي كتاب عربي. وتُعفينا من تصوير مُصحِّح الكتاب لمِلَلِه وحرق نابه على الطابعين؛ إذ يقول بعد صحف الخطأ والصواب: «وهناك بعض أخطاء مطبعية لا تخفى على القارئ.» والواقع أن الذي هناك لا بعض أخطاء، بل جمهرة من الأغلاط يخشى صاحب الكتاب أو مُصحِّحه أن يلحَّ على الطابع في تصحيحها فلا يَلقى منه إلا المهاترة والإعنات.
خلاصة
ها قد علمتم أضرار الرسم الحالي، وأنه هو علَّة العِلَل في صعوبة لغتنا العربية، وأنه هو المنفِّر منها والمانع من جريان الألسن بها، ورأيتم ضرر رسمها المُقتَرح بالأحرف العربية المستعمَلة الآن مع وصلها بجميع الشكلات، ما عدا الفتحة، وقليلًا من غيرها في صور استثنائية قليلة، وأنَّ هذا الرسم، فوق كونه قاطعًا أيضًا بين الحديث وبين القديم من آثار السلف، سواء في المَطبوعات والمخطوطات، فإنه دميم الديباجة، ظاهر التعسير، بعيد عن التيسير.
علمتُم ورأيتُم هذا وذاكم، ورأيتم طريقة الحروف اللاتينية التي أقترحها، وعلمتم أنها الوسيلة الوحيدة المتعيَّنة لتجلية لغتنا الفصحى في جلالها وجمالها على الوجه الواحد المتعين من أوجه النُّطق بكلماتها، وأن هذا متى تحقق اعتادها الناس من أول تنشئتهم بدور التعليم، وامتنعت الاشتراكات اللفظية والمُداوَرات والتصحيفات المتفشية، وسَهُلت أعمال الطباعة في المطابع أو بالآلات الكاتبة، وأن هذا هو خير ما يُيسِّر الفصحى ويُعمِّمها في بلاد العربية ويَستميل لها من يريد من الأجانب. وفي اعتقادي أن هذا خير ما يخدم به مجمعكم لغتنا الجميلة الأبيَّة، المُستعصية على طلابها، وأن كل الأبحاث الأخرى التي يشتغل بها هي دون هذا في الأهمية بمراحل.
كلمة أخيرة
إني أتحسَّس أنكم، وإن كنتم متبيِّنين صحة اقتراحي، وأنه هو الطريقة الوحيدة التي تُخدم بها العربية وأبناؤها، إلا أنكم تقفون أمامه متهيِّبين أن يُنسَب لكم الأخذ به.
أتحسَّس هذا مما أراه الآن فيكم من الإمساك عن الاعتراف بصدق شيء من المزايا التي بيَّنتُها، هذا الإمساك الذي ليس في نظري سوى محاكاة لمن ينكر ضوء الشمس وهي طالعة، أتحسَّسه وأتحسَّس علَّته أيضًا عند الحاضرين منكم والغائبين.
فأما أحدكم حضرة الأستاذ الجارم بك، ذلكم الرجل اللغوي النحوي الأديب الشاعر العالم الذي لا يكلُّ من العمل ولا يملُّ، فعِلَّة انكماشه أن «كل فتاة بأبيها معجبة!»
وأما حضرة الأستاذ جب، ذلكم المستشرق العلامة الكبير الذي تحفَّز في الجلسة الماضية لإيصاد الباب دفعةً واحدة في وجه اقتراحي، فإنه رجل من أهل التدقيق والتمقيق والتحقيق، ورسم الكتابة إذا تغيَّر انهارت الأرض واختفى موضوعُ عمله، وأنس من نفسه عدم الرضا؛ لأنَّ مشاقه أصبحت هيِّنة. والرجل العظيم لا يرضى عن نفسه إلا إذا حمَّلها أشد المشاق، و«على قَدرِ أهل العزم تأتي العزائم.»
وأما رجلُنا النابغة الدكتور طه بك حسين فإنه من خير عشاق العربية. وهو شخصيًّا يودُّ أن لو استطاع تعليمها للناس وتفقيههم فيها في يوم واحد وليلة. لكنه بإغراقه في تمني هذا المستحيل أصبح — كما أشرتُ إليه في بعض الجلسات السابقة — لا يملُّ المحاردة والمناكفة بسببها كلما طاف به طيفها، فقارن بين حالها وحال ما يُتقنه من لغة أجنبية حديثة أو قديمة. حتى لقد أصبحت هذه المناكفة بسبب العربية ديدنًا له، ومن أخص لوازمه البادية للناس أجمعين. فلكأني به يريد استبقاء الرسم الحالي كيما يُبقي الفرصة سانحةً لمُحاردة معلمي العربية بالمدارس في كل سنة وإسماعهم من قبل رجال وزارة المعارف وغيرهم تلك العبارة التي توجَّه لهم بقصد استنهاضهم من أنهم قاصرون أو مُقصِّرون، ولو اتخذت الحروف اللاتينية لضاعت عليه تلك الفرصة المحبَّبة إلى نفسه المتوثِّبة. لكني أعود فأقول إنه متى جدَّ الجد زأر وحارد نفسه، وأبى أن يجعل عقله مطية لهواه.
وأما أستاذنا صديقي لطفي باشا السيد، فإنَّ له في الأشياء والأحداث نظرة تعلو نظرتي ونظرة غيري. إنه رجل حكيم، تَحمله فلسفته على اعتبار كل ما في هذا الوجود مُستغلَقًا، وأن النافع والضار إنما هما وصفان لحقيقتَين اعتباريتَين، أو على الأكثر نسبيتَين، وأنَّ الحقيقة الحق عنقاء مُغرب لا يعلمها إلا واجب الوجود. أما ابن آدم فلا يَستطيع بعقله المحدود إدراك كنهها، بل إنَّ شأنه في الحياة إنما هو محاولة تعليل ما يَزعم أنه الحق، وإن كان هذا الحق الذي يَزعم بعيدًا عن حقيقة الحق بُعد الأرض عن السماء!
ومِن أجلِ هذا نَسمع أستاذنا لطفي باشا كثيرًا ما يُردِّد قول شيخ المعرَّة جليس الدكتور طه بك وأنيسه:
ومِن أجل هذا فسيان عنده أن تبقى حروف العربية كما هي أو تُستبدل بها الحروف اللاتينية أو الصينية.
أما باقي إخواننا الأجلاء — وهم في الطليعة من علمائنا وأدبائنا وشعرائنا — فعِلَّة إمساك أغلبهم الخوف من قيام قيامة الناس — لا قيامة الحق — عليهم لو مسُّوا القديم. وكأني بهم يُحبُّون ألا يَذكروا من القواعد المعروفة إلا قاعدة «بقاء القديم على قِدَمه.» وعلى الأخص الأستاذ الشيخ المغربي الذي تحفَّز هو أيضًا في الجلسة الماضية للحيلولة دون استيفاء بياني. لكني أُصارحهم بما يعلمون ويُهملون، أصارحهم بقاعدة «الضرر يُزال»، وقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، وقاعدة «درء المفاسد أولى من جلب المصالح» وأصارح الأستاذ المغربي بما تكرَّر وروده في القرآن الشريف من النَّعي على من يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ … وأستغفر الله من أن أُريد بالإشارة إلى الآيات الكريمة مثلَ المقام الذي نزلت فيه، وإنما ما ذكرتُ هو خير عبارة عربية أقتبسها للتعبير عن مرادي. ثم أصارحه بأن رسم العربية الحالي لم يُنزل الله به من سلطان.
على أني إذ أصارحكم بما قدمت، فإني في قرارة نفسي أشكو إلى الله وحده بثِّي وحزني من أن تُلجئني ظروف العربية إلى اقتراح العدول عن رسمها إلى رسمٍ أجنبي لا نحن منه ولا هو منا. إنها مرارة أتجرَّعها وأطلب إليكم أن تتجرَّعُوها، وهذا علينا جميعًا كثير جدًّا وجُّد أليم. غير أن المسألة مسألة حياة للعربية أو إزمان مرض، ثم موت يُعجِّل به ما يبدو من الأمم القوية من العمل المتواصِل على تبسيط لغتها لنشرها بين أمم الشرق الضعيف. وعملها هذا إذا كان — كما هو الواقع — من الضرورات الحيوية لنا سياسيًّا واجتماعيًّا، فإن ثمنه — بالبداهة العقلية — تَراخِينا في خدمة لغتنا، فإنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. واللغات كالسِّلَع يُنفَق منها البسيط الرخيص ويَكسد الغالي المتين. وليس بنافع في علاج لغتنا أن يَقترح حضرة الأستاذ كرد علي بك — عقب مقاله التاريخي الضافي الذي تلاه على المؤتمر بالجلسة الماضية — إيجاب تعليم العربية تعليمًا عمليًّا بالتخفيف من قواعدها وبمُضاعفة العناية — في المدارس — بتعويد الأطفال صحة النطق بها «أي سجية» كما كان يَنطِق الجاهليون، أو أهل صدر الإسلام. إنه اقتراح نظريٌّ ظريفٌ، ولكن ما السبيل إلى تحقيقه مع تعقُّد الرسم الحالي؟
لقد فكرت كثيرًا في إمكان تعديل الرسم العربي بصورة تؤاتي الناس في صحة النطق بالكلمات، فعجزتُ بعد طول التفكير، ويئست من إمكان تحقيق هذه الأمنية إلا «بالشكل» المتعذِّر في المخطوطات والجالب للضرر في المطبوعات، ورأيتُ أن لا سبيل سوى اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات، فاعتقدتُ بضرورتها. والضرورات — كما أسلفتُ — تُبيح المحظورات.
ألا إنَّ الأفراد بائدون، كلٌّ في ميقات يوم معلوم. أما النوع فباق إلى يوم يبعثون. ألا وإنَّ أمم العربية أمامها في الوجود دهور ودهور لا يُحصيها إلا ربك واجب الوجود الذي لا يعلم الغيب إلا هو.
ألا وإنَّ الأحياء الذين يَبغون استبقاء ما ألفوا، لو أرْخَوا أوكية صدورهم وخلُّوا بين دخائل أنفسهم وبين ألسنتهم، لنطقَت هذه الألسُن فشهدت عليهم أنهم إنما يحافظون لا على اللغة العربية، بل على ما في قماطرهم من ذخائر مؤلَّفات، كلفتهم هم وأسلافهم الهيل والهيلمان، وأن هذه الكتب بعينها لو وجدوها — بين غمضة عين وانتباهتها — قد رسمت لهم بأي رسم جديد ضابط لصحة أداء كلماتها، واقٍ من شرِّ التَّصحيف ومرارة التأويل، لهلَّلوا وخرُّوا لله سجَّدًا على ما أفاء عليهم من هذا الفضل العظيم الذي وضع عنهم وطأة الإنفاق، وكفاهم شرَّ الإملاق، وأن المسألة عندهم إنما هي مسألة مالية بحتة لا شأن لها باللغة التي يُفيدها الرسم الجديد بما ييسِّر من صعوبتها. ثم لاستطردتْ فقالت — مُترجِمة عن باطنهم — إنَّ كثيرًا منهم أَثِرون، مبدؤهم: «أحْيني اليوم وأمِتني غدًا!»
ألا إنَّ باطنهم هذا الذي تشهد به ألسنتهم لو أطلقوها من عقالها، إنما هو وهم وخطأ بعيد! ليعش منهم مَن كتَب الله له أن يعيش عمر نوح، ليَعِش ما شاء عاكفًا على خزائن كتبه وليقرأها بذاتها إلى أن يموت، فإن أحدًا لن يُصادرها ولن يحرمه تسريح عينيه وتقريحهما فيها، ولن يسلبه ملَكة قراءتها، ولكن ليشفق على العربية وعلى بنيه وذراريه، وعلى أمته وبلاد العربية جميعًا! وهذه الشفقة لا تُكلِّفه في حياته شروى نقير. وهو إذا مات فقد فات وانقطع عمله من الدنيا. وربما غفر الله ذنبه بدعوة صالحة يفيض بها قلبُ واحدٍ ممن أراحهم الله من سوء رسم العربية!
ألا إني أحب العربية حبًّا جمًّا، وأُحبُّ وطني وأرجو الخير له ولسائر بلاد العربية، وقد بدا لي أن ما أعرضه حق تدفع إليه الضرورة، فماذا أنتم فاعلون؟
لئن كنتم لاحظتم أني صريح في القول لا ألفُّ ولا أداور، فإني أيضًا أُلاحظ هذا كمثلكم وعلى غراركم.
وليت شعري ما مبعث هذا الذي نلاحظه معًا؟ أهو ضعف من جانبي في أدب السلوك؟ أم هو استحياء من الحق ألَّا آخذ بيده في مأزق يَصطرع فيه مع الباطل؟ أم هو ضعف أمام نفسي التي تزعم لي أنها أكبر منِّي سنًّا وأَسدُّ رأيًا، فتشمسُ عليَّ وتتأبى أن أجشِّمها شيئًا من المصانعة في الحق أو المداورة فيه؟ لا أدري!
ولكن الذي أدريه يقينًا هو أني أؤمن بالله وحده وأكفر بآلهة التاريخ المعبودة من دونه. فسيان عندي ما تُبْرِم تلك الآلهة في مغاور تزييفها من القالات والأساطير وما تنقض، وما تسجِّل في ألواحها الهبائية وما تمحو. ولكأن هذا هو مبعث ما لاحظتموه.
يُطبع كل ما قيل حول تيسير الكتابة في هذا المؤتمر، ويذاع بالطرق المعروفة، فيُرسَل إلى الهيئات المختصة، وينشر على الجمهور، وتتلقى لجنة الأصول ما يرد إليها من ملاحظات، وتعرض تقريرها على المؤتمر المقبل. ويطلب إلى الحكومة أن تضع جائزة مقدارها ألف جنيه لأحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية، على ألا يكون لأعضاء المؤتمر الحق في دخول المسابقة.