أم أحمد
لو رجعتُ إلى الذاكرة ما وجدتُ إلا صورًا متناثرة لا تعني شيئًا؛ قمرًا يُطل من نافذةٍ عالية، أقمارًا ثلاثة يخرجن من تحت القبو صفًّا واحدًا، حنطورًا يتهادى في الميدان بامرأةٍ كالمحمل. الزمن القديم في الحي العتيق، لم يَبقَ من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة؛ مناظرُ غائمة، وأصواتٌ غائبة، وحنينٌ دائم، وقلبٌ يخفق كلما حرَّكَته روائح الذكريات. ما كان أجدرَ ذلك كله أن يتلاشى في ظلمة الماضي، فلا يستطيع الحب أن يستنقذه من الموت، لولا خالدة الذكر أم أحمد! قوية، سمراء، متحدِّية، في ملاءتها اللَّف، ووجهها السافر، وشبشبها الرنَّان، وصوتها الغليظ النافذ، ولسانها الذي لا يَهمُد ولا يعرف الحرج، بيتها كان يقع ملاصقًا للشُّرفة التاريخية لبيت القاضي، يصل إليه الزائر من ممَرٍّ ضيقٍ متصاعدٍ مترب، في جانبه كارُّو قديمةٌ مركونة مهملة، وأحيانًا يرى حمارًا واقفًا يقتاتُ التبن من مِخلاةٍ تُطَوِّق علاقتُها عنقه، كان يشدُّني إلى مأواها العربة المُهمَلة والأمل المثابر العنيد في الالتقاء بالحمار الهادئ العذب، وهناك أراها وهي تطهو الطعام أو تُطعِم الدجاج أو تتسلى بمشاجرةٍ شفهية عابرة. في شبابها اليافع — الذي لم أشهده — كانت زوجة لمعلِّم كارُّو.
أنجبَت منه بِكرَيها أحمد وزينب وسيدة وسنية، ولعلِّي لمحتُ الرجل وابنه مرة أو مرات كشيئَين من الأشياء التي يموج بها الميدان التاريخي، ميدان بيت القاضي، ولكني علمتُ مع الأيام أن المعلِّم قُتل في معركةٍ بأرض المماليك، وأن ابنه أحمد مات في السجن. ولم أشهد أم أحمد في حزنها، حتى حين لحِقَت زينب بأبيها وأخيها لمرضٍ فتك بها في زمنٍ متأخر نسبيَّا. كلا، لا أذكر أني رأيتُها باكية أو مُوَلوِلَة أو شبه يائسة، ما عهدتُها إلا متماسكةً قوية ضاحكة أو محدثة، غارقة حتى قمة رأسها في أعمالها، ومشروعاتها، تعيش يومها وتَبني للغد. وأذكر قول أمي عنها «لولا قُوَّتها الخارقة لأهلكَتْها الأحزان.» وهو قولٌ لم أَعِ معناه تمامًا إلا فيما بعدُ، فعلمتُ أن أم أحمد التي عرفتُها ما هي إلا الثمرة الأخيرة لصراعٍ طويل مع الألم كُتب لها فيه النصر؛ فمنذ وجدَت نفسها وحيدةً توثَّبتْ بهمةٍ صُلْبة للكفاح في الحياة المتاحة، حتى ظفِرتْ بوظيفتها المرموقة في الميدان والحارات المتفرعة عنه، فباتت أشهَر شخصية دون منازع، هي الخاطبة والماشطة وإخصائية التجميل والسعادة الزوجية، وشقَّت طريقها إلى سرايات الحي جميعًا وبيوت الطبقة الوسطى، إلى قيامها بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسَّنتْ أحوالها، ثم تَوَّجَت كفاحها بتشييد بيتٍ لها من طابقَين على كثَب من قسم الجمالية. وألحقَت سيدة بالمدارس فصارت معلِّمة، أما بنتها الصغرى، وكانت أجمل إنتاجها كله، فقد أحبَّها ابن الأسرة الساكنة في الطابق الأول من بيتها وتزوَّج منها، وأصبَحوا فيما بعدُ من رجال التربية الكبار في مصر. المهم أن أم أحمد جذبَتْني بسحر حكاياتها عن الجيران، وخاصة أهل الطبقة العليا، وهي حكاياتٌ لا يعرف مدى الصدق فيها إلا الله، ولكنها تُحرِّك الشهية دائمًا لدورانها حول أولئك السادة الممتازين. ولم تنقطع أم أحمد عن زيارتنا عقب انتقالنا إلى العباسية؛ فقد سبقنا أهل السرايات إلى العباسية الشرقية، فانتقل المجال الحيوي لأم أحمد من حي الحسين إلى العباسية تبعًا لذلك، مؤصلة ممارسة وظائفها الساحرة. ولم تتوقَّف عن نشاطها حتى بعد أن تقدَّم بها العمر، أو بعد أن أدَّت فريضة الحج وأمست الحاجة أم أحمد، ولكنها اضطُرَّت إلى لزوم دارها بعد أن زحَف عليها العجز وضعُف بصرها وقلَّت حركتُها قبل رحيلها عن الدنيا في ختام الثمانينيات. ولا أزعُم أنها أحسنَت تعريفي بأفراد السادة والسيدات من أهل سرايات حارتنا، ولعلها هي نفسها لم يُتَح لها أن تعرف حقيقتهم، ولكنها اهتمَّت بعمومياتٍ لا بأس بها، وبشئونٍ مما يتصل بعملها، وعلى أي حالٍ فقد عَرفَت حقائقَ عن الأُسر ككلٍّ، كما عَرفَت أشياء عن مصائرها. وهي في جملتها تُعَد ثروةً هامشيةً تُضاف إلى التجارب التي حصَّلها الإنسان بنفسه وحواسِّه وقلبه. ورغم ما عُرفَت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حَظِيَت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانةً مرموقة بين أرقى سيدات ذلك الزمان. ولن أنسى أيضًا منظرها وهي واقفة فوق الكارُّو بين جاراتٍ لها في إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوِّي لسعد ومصر.
وحارة قرمز ذات جدرانٍ حجرية عالية، تُغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسرٍّ إلا لمن ينظر في داخلها، هناك يرى ربعًا آهلًا بالفقراء والمتسوِّلين يجمعهم الفِناء للعمل المنزلي وقضاء الحاجات، أو يرى جنة تَغْنى بالحديقة والسلاملك والحراملك، من نافذةٍ صغيرة عالية قُبيل القَبو يلُوح أحيانًا وجهٌ أبيض كالقمر، أراه من موقعي في نافذة بيتنا الصغير المُطِلة على الحارة فأَهيم رغم طفولتي في سحر جماله، وقد أسمعُ صوتَه الرخيم وهو يبادل أمي التحية إذا خلَتِ الحارة من المارة، فلعلَّه بَثَّ في روحي حُب الغناء، فاطمة العمري، حُلم الطفولة المجهول، وموعد اللقاء النافذة، وإذا توارت يومًا فإنما لتُلقِّنني الألم قبل أوانه. وكلما غابت حدجتُ أمي بنظرة عتابٍ كأنما هي المسئولة عن غيابها، فتضحك طويلًا وتحكي لأم أحمد عن العاشق الصغير فتتلقَّف الخبر لتزُفَّه إلى فاطمة، ثم ترجع إلينا برسالةٍ سعيدة أن أشد حيلي، وأنها ستنتظر عريس الهنا مهما يطُل الانتظار، ثم تقول: ولكنك تعشق أمها أيضًا، فما حكايتك؟
أمها؟! أراها أحيانًا في الحنطور وهو يتهادى بها في الميدان، وعيناها الجميلتان تُطِلَّان عليَّ فوق حافة البرقع الأبيض، وجسمها المتمادي في العظمة يملأ المقعد بتمامه. وتضحك أم أحمد ثم تقول لأمي: زينب هانم قالت لي إنها رأَتْه «مشيرة إليَّ» وهو يتطلَّع إلى ما بين ساقَيْها المنفرجتَين حتى اضطُرَّت إلى ضمِّهما .. أيُعجبكِ هذا؟!
مَن هؤلاء الناس الذين ليسوا كبقية الناس؟ العمري — والعهدة دائمًا على أم أحمد — رجل قد الدنيا، صاحب فابريكة النحاس ومحل بيع النحاس بالصالحية، أصلهم من القدس، والجد الكبير هاجر إلى مصر ليستثمر أمواله، أنشأ فابريكة في الخلاء قُبالة الجبل، ويوم حُملَت الآلات من محطة مصر إلى الفابريكة محمولةً على الكارُّو تجمع الأهالي ينظرون ويُسبِّحون لله القادر على كل شيء، ومن يومها ما من عروسٍ تُزفُّ إلا وتقتني نحاسها من محل العمري. وآل الخيرُ كلُّه لحسين بك العمري زوج زينب هانم، وشيَّد الرجل سراياه في درب قرمز، وأنجب فاطمة الجميلة وثلاثة ذكور.
وكانت زينب هانم وأمي يتبادلان الزيارة، فتجيء الهانم وحدها دون فاطمة وتذهب أمي وحدها بدوني رغم توسُّلاتي الباكية. وبقَدْرِ ما كانت تُعجبني عينا زينب هانم إلا أن جسمها الضخم كان يُخيفني. ومن عجبٍ أن الحارة كانت أُسرةً كبيرةً واحدة لا تعترف بالفوارق الطبقية. أجل، لم يكن التزاوُر ممكنًا بين الرَّبْع والسراي، ولكن السرايات كانت تفتَح أبوابها لأهل الرَّبْع في رمضان والأعياد، يجلسون في الحديقة، ويأخذون حظوظهم من اللحوم والكعك ويستمعون لتلاوة القرآن من كبار القارئين. وكشفَت أم أحمد عن جانبٍ من دورها في سراي آل العمري، فقالت إنه بفضلها استقَرَّت الحياة الزوجية بين حسين بك وزينب هانم، وبفضل وَصَفاتها النادرة تمادَت المرأة في العظَمة حتى حاكت المحمل السلطاني، وقالت وهي تُقهقِه: وهي اليوم تضرب زوجها باليد والعصا!
وذُهلَت أمي فقالت أم أحمد مستدركة: بالدلال والحب!
ليس كالضرب الذي نستعمله! أيُّ نوعٍ من الضرب ذاك؟!
– وهذا اللحم الأبيض الذي تغوص اليد بين طيَّاته الطريَّة من صنع يدي!
مرةً أَمرتِ الحنطور أن يتوقف حيالي وأنا ألعب في الميدان، ومدَّت لي يدًا بضَّة بذراعٍ مُطوِّقة بالأَساور الذهبية لتَهَبني قطعة من الملبن بالقشدة، فتناولتهُا فرحًا متلقيًا في ذات الوقت مما ذقتُه من عبيرٍ جميل نافذ كأنه عصيرٌ مركَّز لحديقة ورد، وكم شغفَتني زياراتُ الهوانم بهداياها اللطيفة اللذيذة!
– ووَددْتُ أن أُسرِع في تسمين فاطمة، ولكنَّ أُمَّها أجَّلَت إلى ما بعد الزواج.
وتساءلَت أمي عما يُؤخِّر زواج الجميلة رغم بلوغها الخامسة عشرة، فقالت أم أحمد: حسين بك مُصمِّم على ألا يُزوِّجها قبل الثامنة عشرة.
– ولكنها سنٌّ متأخرة يا أم أحمد!
– لحسين بك رأيه أيضًا، ولكن الاختيار ينحصر في اثنَين؛ أحدهما وكيل نيابة والآخر طبيب.
وأحسستُ على نحوٍ ما بأن فاطمة ستمضي ذات يوم إلى بعيدٍ مثل أخواتي وإخوتي، ولن يبقَى منها في أحلامي إلا الشَّذا. حتى الطفولة المبكِّرة لم تخلُ من حسراتٍ على أشياءَ جميلةٍ ومحبوبة يترصَّدها الضياع والفناء. ودهمَتْنا ثورة ١٩١٩ ونحن ننعَم بالهدوء النعسان. استيقَظتُ بغتةً على دوِيِّ الهُتاف وفرقَعة الرصاص ورأيتُ الألوف الغامضة، حتى أم أحمد رأيتُها فوق الكارُّو تهتف. وزارتنا بعد أيام لتسأل إن كنا رأيناها، كانت تتيه دلالًا بالعزة والنصر.
– سينصرنا الله على الإنجليز ويتم لنا الإفراج عن سعد .. وهي التي أبلغَتنا بعد ذلك باعتقال حسين بك العمري تمهيدًا لتقديمه للمحكمة العسكرية الإنجليزية، ولكنه أُفرِج عنه فيمن أُفرِج عنهم عقب الإفراج عن سعد، فرجع إلى حارة قرمز رجوع الأبطال. فُرشَت أرضها بالأكمة وتناوحَت في سمائها الثريَّات والأعلام، وزَغردَت النساء من وراء المشربيات، وتعالى هُتاف الفقراء رغم ما فقَدوا من أبناء، ووفَّت أم أحمد بنَذْرها، فرقصَت أمام باب السراي وهي تُنشِد: «سلمى يا سلامة.» وحتى مأمور قسم الجمالية جاءه مهنئًا، بعد أن اعتقد الجميع أن الإفراج عن سعد ما هو إلا مقدمةٌ للاستقلال التام، وبعد فترةٍ قصيرةٍ حملَت المرأة إلينا خبرًا مزعجًا وهو أن آل العمري استقَر رأيهم على الانتقال إلى العباسية؛ حيث اشتَرَوا أرضًا فضاء لإقامة سراي كبرى. وتساءلَت: أمي هل هان عليهم حقًّا أن يهجروا الحارة التي هي أصل الخير والبركة؟ فقالت أم أحمد بيقين: بعد عامٍ أو عامَين لن تَجدي أسرةً واحدة من أسر الأعيان في الحارة.
يا له من خبر! .. وكيف تكون الحارة إذا انطفأَت أنوارهم؟!
– الدنيا تتغير بسرعة، الأحياء الإفرنجية هي الموضة اليوم، والعباسية مترامية الأطراف، وفيها متَّسَع للمستورين أمثالكم.
– ونبعُد عن الحسين؟!
– سوارس تنقلُكِ إليه في نصف ساعة.
وتحقَّق مع الزمن ما خطر لأم أحمد، فانتقل الأعيان إلى العباسية الشرقية وشيَّدوا قلاعهم العملاقة، كما انتقلَت الطبقة الوسطى «المستورون» إلى العباسية الغربية، فسكن البعض بيوتًا صغيرة واشترى البعض ما يناسبه. ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفَين فسرعانَ ما تعرَّضتْ للوهَن والتمزُّق. لأمرٍ ما شُغل كل فريقٍ ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبَين أصبح سدًّا لا يُعبَر إلا في الملمَّات وقد لا يُعبَر أبدًا. عدنا غُرباءَ أو كالغُرباء، بل صرنا مع الزمن أعداءً أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكارًا جديدة تُكرِّس العداوة والانفصام، وحتى الانتماء للحزب الواحد لم ينجح في محو تلك الغربة الزاحفة. واعتَدتُ أن أجعل من العباسية الشرقية مُرتادي ونُزهتي خاصةً في أصائل الصيف، أتمشَّى في شوارعها الواسعة وميادينها الأنيقة، أُقلِّب النظر في القصور الشامخة والحدائق الغنَّاء، وأَتذكَّر أحيانًا الجيرة القديمة الحميمة الصادقة التي تلاشت في الفضاء، وأتذكَّر الوجوه المليحة التي علَّمت القلبَ الحبَّ قبل الأوان، أتساءل: تُرى أين أنتِ الآن يا فاطمة؟ .. وهل خلَق منكِ الزمن زينب هانم جديدة؟ وجاءتنا بالأنباء في حينها أم أحمد التي ظلَّت الرابطةَ الباقيةَ بين الطبقتَين المتباعدتَين. حدَّثَتْنا طويلًا عن تضخُّم ثروة حسين بك خاصةً بعد الحرب، وعن إشراك أبنائه الثلاثة معه في المصنع والمحل، وإصهارهم الموفَّق إلى أُسر من طبقة الباشوات، أما فاطمة فقد تزوَّجَتْ من وكيل النيابة. ووجدتُني قد نسيتُ صورتها تمامًا، فلم يبقَ في خيالي إلا نفحةٌ من جمالٍ مجرَّد وصدى صوتٍ رخيم شديد التَّأبِّي والتَّمنُّع على الذاكرة. وعَلِمنا أيضًا بإصابة زينب هانم بالسُّكر وكيف استفحل معها المرض لعجزها عن الانضباط أمام إغراء الحلوى. أجل، فقدَت الهانم بصرها في الخمسينيات، ثم ماتت في الأسبوع الأول لقيام ثورة يوليو. والحق أن الثورة لم تمسَّ آل العمري بسُوء، ولعله كان من حسن حظ حسين بك أنه هجر الاشتغال بالسياسة عقب انشقاق السعديين عن الوفد، غير أنه شارك أبناء طبقته في خوفهم الثابت وقلقهم الدائم وشعورهم بإدبار الدنيا عنهم. وحديث أم أحمد عن السادة لم يخلُ أبدًا من عطف رغم تعلُّقها بثورة يوليو وزعيمها. أحبَّت ثورة يوليو كما أحبَّت ثورة ١٩١٩، ولكن حبها لزبائنها القدامى لم يفتُر أبدًا، وهي التي قالت لنا يومًا بجزعٍ واضح: أما سمعتم عما حدث لزوج فاطمة هانم العمري؟
آه .. فاطمة الجميلة، ماذا حدث لزوجها؟
سافر المستشار في رحلةٍ قصيرة إلى سويسرا، وهناك قابل أحد رفاق صباه وكان هاربًا من عبد الناصر ولا يكُف عن مهاجمته، ولمَّا رجع المستشار إلى مصر دُعِيَ لسؤاله عن مقابلاته لصديقه القديم، ثم لم يظهر له أثَرٌ بعد ذلك.
– لعلَّه ما زال معتقلًا؟
– أبدًا .. قيل لهم إن سؤاله لم يستغرق إلا ساعةً أُطلِق بعدها سَراحُه.
– لعلَّه وقعَت له حادثة في الطريق؟
– وهل يصعُب الاستدلال على شخصية مستشار قد الدنيا؟!
ويسود صمت، ثم تُواصِل أم أحمد: فاطمة هانم تؤكِّد أنهم قتلوه ودفنوه في أي خلاء وانتهى الأمر.
اليوم — وبعد رحيل أم أحمد عن الدنيا في الثمانينيات — لا أعرف شيئًا عن آل العمري، ولعلَّه لا يهمني أن أعرف شيئًا، ولكني قرأتُ هذا العام نعي فاطمة الجميلة في الأهرام. ولم يمضِ الخبر بلا حزن ولكنه حزن من نوع خاص، لا كالحزن على الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء. إنه حزن يتأدَّى كأنه شعيرةٌ تُتلَى في محراب الوجود على لا شيء أو على كل شيء. ثم قرأتُ عنها رثاءً جميلًا في إحدى المجلات النسائية بوصفها من رائدات رعاية الطفولة، تلك الرعاية التي بدأَتها بتلقائية معي، فحفَرتْ أثَرها الطيب في أعماقِ قلبي.
وآل سعادة بعد آل العمري يُومِضون في غياهب الماضي الجميل، تقوم دارهم كالقلعة فيما وراء القَبو الأثَري العتيق. هناك يطالعك جدارٌ عالٍ مركَّب من أحجارٍ كبيرة تاريخية، أما مدخله فيفتح على عطفةٍ جانبية. ورؤيتي لآل سعادة تتم عادة وأنا في الحارة عندما يخرجون من جوف القَبو في طريقهم إلى ميدان بيت القاضي، تنطق وجوههم المُشعَّة بأصولهم الشركسية. هذا عبد الحميد بك سعادة، رب الأُسرة، بقامته العالية، وعُوده النحيل، ووجهه الأبيض المُشرَب بحمرة، وعينَيه الزرقاوَين، وأنفه الحاد الطويل المقوَّس، يرفُل في بذلةٍ إفرنجية وعمامةٍ بيضاء، متوكئًا على عصًا سوداء ذات مقبضٍ ذهبي، صارم النظرة، متعالي الهيئة، ينظر أمامه، لا يُعنى بما حوله. يبث حيث يسير الخوف فيستقبله الاحترام وتتبَعُه الكراهية، وهذا بِكريُّه الشابُّ فاضل سعادة يُنوِّر المكان بلمعانه وبسحره، بأناقته وحسنه وثيابه الفاخرة. وهؤلاء بنات سعادة الثلاث، بين الطفولة والصبا، جميلاتٌ فاتنات ساحرات، يَسِرن صفًّا إلى الميدان لشراء الشيكولاتة والدندورمة، يذهبن بلا مرافق ويعُدن بلا مرافق غير مبالياتٍ بتقاليد الأُسر الكبيرة والمتوسِّطة، وجمالهن يشفع لهن عند الرأي العام الرافض لتعالي الأسرة وعُزلتِها. أما ربة الأسرة فلا تُرى أبدًا راكبة أو راجلة، دائمًا معتصمة بالقلعة وراء الجدران والستائر. كم وَلِعَت عيناي بالجميلات الثلاث وخصوصًا الصغرى، وكم حلُمتُ بأن ألعبَ معهن تحت القَبو أو فوق السطح ولكنهن كن يذهبن بسرعة الأحلام ويبقَين في النفس بقوة الخيال. وآل سعادة يُمثِّلون البطالة المستغنية عن العمل، المعتمدة في معيشتها على الأوقاف، يقضي الأب وقته بين الكلوب المصري والمقاهي الكبرى في وسط المدينة، ويقنع فاضل بالحصول على الابتدائية. ولا يشُكُّ أحدٌ في ثرائهم الكبير، إلا أم أحمد التي تقول وتُعيد: إنهم أصحاب أصل ولكنَّ ثراءهم دون ما يظُن الناس بكثير .. وعُزلة ربة البيت ليست نتيجة للتقاليد أو الكبرياء وحدَها، ولكنها ردَّة فعلٍ لحزنٍ عميق.
– الحزن؟!
تتساءل أمي، فتقول أم أحمد: الرجل طول عمره عينه زائغة! .. وذوقه قَذِر لا كمظهره .. يجري وراء الخادمات والساقطات، وزوجه والحقُّ يُقال بنت ناس، وآية في الجمال!
– وطبُّك المجرَّب يا أم أحمد؟
– منع الطلاق ولكنه لم ينجُ من القدَر، وقد جرَّبتْ سلطانة هانم الرشاقة ثم نفختُها حتى فاقت زينب هانم في الحجم، ولكن المكتوب مكتوب.
وتفكِّر قليلًا ثم تواصل: ولكنها انتقمَت من الرجل وهو لا يدري، فخانَتْه كما يخونها.
– ولكنها لا تغادر القلعة أبدًا!
فتقول أم أحمد مقهقهة: لا يتعذَّر على اللَّبَّان أن يتنكر في زي امرأة ويندس إلى الحريم.
وفاخَرتْ أم أحمد بأنها الوحيدة في الحي التي تُصافِح عبد الحميد بك سعادة، والتي يقول لها دون تأفف: كيف حالُكِ يا أم أحمد؟
ولعلَّها الأسرة الوحيدة التي شَهِدَت ثورة ١٩١٩ من بعيد، دون اشتراكٍ من أي نوعٍ كان.
وبعد أشهُرٍ من قيام الثورة تُوفِّي عبد الحميد بك، ولم يُشيِّع جنازته سوى نفرٍ من ذوي القربى وشيخ الحارة، ولم يشترك رجلٌ أو امرأةٌ من حارتنا في العزاء. ولمَحتُ البنات الثلاث وهن يبكين في نافذةٍ ففاضت دموعي، وسرتُ وراء المشيعين القلائل حتى جامع الحسين. ولم يكن شيء يثير خيالي وأفكاري مثل الجنازات، وشَهِدتُ جنازاتٍ معدودة لشُبَّان الحارة الذين استُشهِدوا في أوائل الثورة، وصدَّقتُ حرفيًّا الهُتاف المعروف: «فلانٌ حيٌّ لم يمُت.» وكنتُ أتوقَّع أن أراه يعمل ويسير كما كان يفعل من قبلُ، وتساءلتُ عن ذلك دون جدوى. وعلى أي حال، حلَّ فاضل مكان أبيه، وما لبث أن هاجَر إلى العباسية، ولكنا سمعنا أن الأُسرة اشترت بيتًا فوق المتوسط بغمرة ولم تشيِّد قلعةً جديدة في العباسية الشرقية، فتبيَّن لنا صدقُ رأي أم أحمد في درجة ثرائهم. انتقلَت الحارة إلى العباسية ولكن لتعيش في دويلاتٍ مستقلة. ولولا أم أحمد ما عرفنا بزواج فاضل من كريمة وكيل الداخلية.
رضي به زوجًا لابنته، بعد أن رفض يد طبيبٍ فلاح!
وتزوَّجتْ كبرى البنات من صائغٍ غني بالصاغة، والوسطى من وكيل نيابة، أما الصغرى وهي أحبُّهن إلى قلبي فقد عَشِقَت موظفًا بسيطًا وأصرت على الزواج منه رغم معارضة الأم والأخ وبقية الأُسرة، وقد أقامت معه في بين الجناين لا يفصلهما عن بيتنا إلا خطوات، وهي الوحيدة التي كنتُ أُصادِفها في الطريق فنتبادل نظرةً عابرة ولكن مترعة بذكريات الماضي .. وقُدِّر لي أن أرى بِكريَّها الجميل وهو يلعب في الشارع أو في الحدائق التي تكتنف الحي وتسكُب عليه عبيرها، وطبعًا لم أتصور المستقبل المثير الذي كان ينتظره بمنحنى التاريخ. ولما قامت ثورة يوليو مرَّت بآل سعادة بسلام، بل حُلَّ الوقف وأصبحوا أحرارًا في التصرُّف في أملاكهم. وعلمتُ أن الصبي الصغير ابن البنت الجميلة الصغرى من الضبَّاط الأحرار، بل والمقرَّبين. واختير لوظيفة في المخابرات وسرعان ما جرى اسمه على كل لسان، واكتسب سمعةً مخيفة لا تكون إلا لشيطان! وجعلتُ أقارن بين ما يُقال عنه من حقائقَ وأساطير وبين صورة صباه الجميلة الوديعة، وأتساءل وأتعجب. ورحتُ أسأل أم أحمد عن رأيها في ذلك فأرسلت قهقَهتَها العظيمة، وقالت: صدَق من قال: إن الأتراك فيهم عرق جنون.
وكانت أُسرته قد انتقلت بعد الثورة من بين الجناين إلى المعادي، ولم أعُد أرى من أفرادها أحدًا، ولكن أم أحمد حدَّثتنا عن استقالة الأب من الحكومة ليشغل وظيفةً في شركة، وأنهم يتوغلون في العز والجاه بسرعة الإكسبريس. وعلى أي حالٍ فقد اندمج آل سعادة أخيرًا في الوطنية المصرية، بل الوطنية الثورية!
إلى يسار قلعة آل سعادة، وعلى مبعدة خمسين مترًا تقوم سراي آل البنان. أرى علي بك البنان كل يوم في دوكاره وابنه الصغير محمد صديقي وزميلي وربة السراي فردوس هانم حبيبة أمي وأقرب الجميع إلى قلبها> وعلي بك طويل القامة، غامق السمرة، ذو مظهرٍ جذاب في جُبته وعِمامته البيضاء، يمضي به الدوكار كل صباح من السراي إلى الطاحونة في مرجوش. هو أتقى الأغنياء بالحارة وأبرهم بالفقراء وأجودهم بالابتسامة، وفي سراياه يُقام ذكرٌ كل أسبوع يؤمُّه جمعٌ من أهل الطريقة الشاذلية، وتقول عنه أم أحمد: علي بك غني وما غني إلا الله.
ثم ترجع إلى التاريخ بصوتٍ منخفض قائلة: كان أبوه يسرح بالبُن على باب الكريم، وفتح دكانًا صغيرًا في الخرنفش، وقامت الحرب، فأمر الله بالثراء ولا رادَّ لأمره. ومات الأب فأنشأ سي علي الطابونة، وشيَّد السراي، وتزوج من فردوس هانم بنت أكبر حلواني في الحي، وأنجب البنات كالأقمار، ثم جبَر الله بخاطره فأنجب محمد على كِبَر.
أهل حارتنا لا فرق فيهم بين غني وفقير وهم يعترفون بفضل الله عليهم ولا يتنكرون لأصلهم، ودعك من آل سعادة فهم مجانين من ذرية مجانين!
محمد الصغير كان قريني في اللعب في الميدان وفي قطف ذقن الباشا من أشجار البلخ. ودخلنا الكُتَّاب معًا فمكث فيه عامَين أكثر مني لينقطع بعد ذلك عن التعليم ويمارس العمل في الطاحونة والمحل تحت رعاية أبيه، بدأ العمل في العاشرة، وقرَّر علي بك أن يُشعِره بالرجولة قبل مجيئها فألبسه الجُبة والعمامة وعامَلَه بجدية تفوق ما يحتمل عمره. وأذهب إلى مرجوش كلما سَنحَت فرصةٌ لأشاهد صديقي من بعيد وهو يعمل، فنتبادل البسمات الخفية بعيدًا عن أنظار أبيه. وعند فراغه من عمله يرتدي جلبابه ويُهرَع إليَّ في الميدان لنلهو بألعاب الصبيان. ولما قامت ثورة ١٩١٩ شارك علي بك فيها بماله وقلبه ولسانه، واعتُقل في يومٍ واحد مع حسين بك العمري، ولكنه واصل نشاطه السياسي بعد ذلك حتى انتُخب عضوًا في أول مجلس نواب بعد الثورة، وحافظ على عضويته في جميع البرلمانات الوفدية حتى آخر برلمان قبل ثورة يوليو. وعقب الثورة انتقلَت الأسرة إلى سراي جديدة بالعباسية الشرقية، وزوَّج الرجل ابنه محمد وهو ابن خمسة عشر عامًا، وأحيا فرحه صالح عبد الحي وبمبة كشر.
ولم ينقطع ما بيننا وبين آل البنان بالسرعة التي انقطع بها ما بيننا وبين الآخرين، ولكنه انقطع على أي حال. والظاهر أن روح الألفة والتضامن المُنبثَّة في الحارة تتلاشى في الأحياء المترامية. إلا تراث أم أحمد من الخدمات والأساطير فهو باقٍ لا يُقتلَع من صدور الناس على اختلاف طبقاتهم. ويكتسب أهميته المتجدِّدة من ينابيع الحب والجنس والأحلام الخالدة. وهي أم أحمد التي أخبرتنا على المدى بزيجات بنات البنان؛ واحدة من محامٍ، والثانية من مهندس ري، والثالثة من وكيل وزارة، وأن الأولى شهد زفافها سعدُ زغلول كما شهد زفاف الأُخرَيين خليفته مصطفى النحاس، ولكن المجتمع تغيَّر في علاقاته وتياراته وأفكاره، واحتدم الجدل والخصام بين أجياله، حتى قامت ثورة يوليو لتُواجه التناقضات الجديدة قبل أن تجتاحها ثورةٌ شعبية جائحة. ووجد علي بك البنان نفسه في مرمى مدافع التغيير الثوري، وحُمل من سراياه إلى أعماق السجون وهو لا يدري لذلك سببًا، ثم وُضع تحت الحراسة، فرَانَ على الأُسرة ستارٌ أسود من الحزن والغم، وانفجر شريان في رأس الرجل فرحل عن الدنيا مستعيذًا بالله من الناس وشر الناس، على حين انزوى ابنه محمد في ذعرٍ مقيم. وتصوَّرتْ أم أحمد أن تلك الأحداث يُدبِّرها رجال عبد الناصر من وراء ظهره وتمتمَت متنهدة: عيني عليك يا علي بك يا أمير وعلى أيامك الحلوة.
ولحقَت فردوس هانم بزوجها بعد رحيله بعام، ولكن محمد البنان استرد نشاطه في عهد الرئيس السادات، وعاونه الانفتاح فعوَّض خسائره وضاعف ثروتَه، بل وتردَّد اسمه في صحف المعارضة باعتباره من وحوش الانفتاح، فأي حياةٍ وأي سخريةٍ من عجائبها؟!
•••
آل المرداني يُشكِّلون الأسرة الرابعة من أعيان الحارة، وتقع سراياهم عند طرف الحارة الآخر المتصل بين القصرَين. وتُقسِم أم أحمد أنها رأت أباه المرداني الكبير يتجوَّل في الحارة حافيًا.
– ولكنه الحظ والشطارة والحرب!
على أي حالٍ نشأ عباس بك المرداني من كبار تُجار الجملة في العطارة، وهو الذي شيَّد السراي التي تَعتبِرها أم أحمد أجمل وأفخم سرايات قرمز!
– أما زوجته فرحة هانم فهي من أصلٍ مملوكي، جميلة، وما جميل إلا سيدنا محمد.
فتقول أمي: جميلة نعم، ولكنها لا تخلو من عنطزة!
– المال كثير يا حبيبتي.
– أهم أغنى من البنان؟
– عباس بك المرداني أغنى رجل في الحارة.
وتسكت مليًّا ثم تواصل: لم ينجب إلا ولدَين وانقطعت الهانم عن الحَبَل لداءٍ احتار الأطباء فيه!
– وماذا فعلتِ أنت يا أم أحمد؟
– فعلتُ الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة!
وكان عباس بك ضخم الرأس والوجه، غليظ القسمات، بدينًا لحد الإفراط، ولكنه كان كريمًا محسنًا وابن نكتة، وكان سلاملك سراياه صالونًا للظرفاء وذوي الحناجر الطيبة من الهواة وصغار المحترفين. ولمَّا قامت ثورة ١٩١٩ أيَّدَها بماله، ولكنه لم يكن ذا استعدادٍ للاشتراك في الشئون العامة مثل حسين بك العمري وعلي بك البنان. واقتحمَت الثورة سراياه وهو لا يدري فانتزعَت منه بِكريَّه محمود الطالب بالزراعة العليا، حيث قُتل في إحدى المظاهرات. وقالت أم أحمد: لم يَبقَ له إلا شاكر، وكثيرون ينصحونه بالزواج من أخرى.
– مسكينة فرحة هانم!
– وحزنها فاق كل حد، ربنا يصبرها!
وانتقل عباس بك المرداني إلى العباسية الشرقية كآخر الأعيان المهاجرين، ولُوعه الشديد بالهانم زوجته نبذ فكرة الزواج من أخرى، وكان أول من اقتنى سيارة .. «فيات» من الأعيان، وكانت تثير الخواطر إذا مرقَت في شارع العباسية في ذلك الزمان بسحرها الخاص وأزيزها الذي يكدِّر الهدوء الشامل. وانتهت حياة عباس بك نهايةً درامية مأساوية في الثلاثينيات وهو في غاية الصحة والعافية والحيوية. وكان يهم بدخول شيكوريل فأصابته رصاصةٌ طائشة في معركة نَشبَت بين يونانيين فجرت مأساته على أوسع نطاق. وكان شاكر بك ابنه قد أصبح محاميًا فصفَّى تجارة والده، وأخبرتنا أم أحمد أنه تزوج من فتاةٍ بارعة الجمال تَمُتُّ بِصِلَة القربى للسلطان عبد الحميد.
وقد انضم شاكر بك إلى الوفد، وتجلى نشاطه في الصحافة والبرلمان، ولكنه انضم إلى السعديين عند انشقاقهم وتقلَّد الوزارة مرتَين، ولمَّا قامت ثورة يوليو اعتُقل أكثر من مرة وفي مناسباتٍ مختلفة، ثم وُضع تحت الحراسة فهام على وجهه كالمجنون. وكانت أم أحمد تَرثي لحاله وحال أُسرته وأمه ولكني عرفتُ عنه أشياء .. من بعض الصحفيين، لم يكن من المستطاع أن تبلُغ علم أم أحمد. قيل — والله أعلم — إنه عمل مرشدًا للمخابرات، وقيل إنه وضع نفسه في خدمة بعض من العرب كقوَّاد دون لبس أو إبهام، وإنه بهذا وذاك أَمِن المزيد من العَسْف وكوَّن ثروةً كبيرة. وكانت تلك الثروة دعامته في عهد الانفتاح، ليقفز إلى درجاتٍ خيالية من الثراء. اليوم الظاهرة الغالبة عليه هي التديُّن، وكأنما يكفِّر عن تناقضات حياته الحافلة بالألم والذكريات الأسيفة.
خطر لي ذات يوم أن أزور أم أحمد بعد انقطاعٍ طويل. وجدتُها في بيتها مع ابنتها المحالة إلى المعاش بعد خدمةٍ كاملة في التعليم. كان بصرها قد كُفَّ وقدرتها على الحركة قد ولَّت. ولمَّا عرفَتني فتحَت لي ذراعَيها بحرارة وشوق، ثم جلست على كرسي جنب فراشها. لعل لسانها هو العضو الوحيد الذي بقي محافظًا على حيويته، ورحنا نتذكَّر ونتذكَّر ونقلِّب صفحات الماضي البعيد والقريب. جُلنا معًا في جنبات عالمٍ حافل بالأموات، ألا ما أكثر الراحلين! كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسَّنا في ظلمات الوجود، وكأن الثغور لم ترقُص بالضحك، ها هي راوية الحكايات وطبيبة الحب والجنس والسعادة ملقاةٌ على الفراش القديم تُشكِّل عبئًا يوميًّا على أقرب الناس إلى قلبها. وما قيمة الحكايات يا أم أحمد وهي تتكرَّر بصورة أو بأخرى قبل أن تلقى نفس المصير؟ وقد عبَرتُ الحارة من أولها لآخرها وانغمستُ في العطر القديم. رأيتُ قلعة آل سعادة مغلقةً مهجورة كالبيت المسكون، أما السرايات الأُخر فقد صارت إحداها مدرسة، والثانية مستشفًى، والثالثة مقرًّا للحزب الوطني. وتنبثق من الماضي أصواتٌ وألوان ونبضات قلب، فأقول لها: لقد جمعَتْنا هذه الحارة ذات يوم ثم فرَّقَت بيننا الأيام، فإلى اللقاء في المقر الأخير.