حياة بوئثيوس وأعماله

ولد أنيكيوس مانليوس سييرنيوس بوئثيوس لأسرة أرستقراطية عريقة تحوَّلت إلى المسيحية في القرن الرابع، ويُعَد هذا تحولًا مبكرًا بالنسبة لأسرة رومانية محافظة وطيدة الأركان، ومن ثم حازت نفوذًا وثراءً عظيمين، وكان من بين أسلافه وأقاربه كثير من القناصل، ومنهم اثنان من الأباطرة، وواحد تقلَّد منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية، وتَقَلَّد والده نفسه منصب قنصل عام ٤٨٧م على عهد الملك أودويسير، ولكنه تُوفِّي وابنه بعدُ صبي صغير، فتولى تربيتَه روماني نبيل رفيع المكانة هو كوينتس أوريليوس سيماخوس الذي تقلد منصب قنصل عام ٤٨٥م، ثم صار فيما بعد حاكمًا لمدينة روما ورئيسًا لمجلس الشيوخ، وهو الذي قدم بوئثيوس إلى عالم الأدب والفلسفة، وزوَّجه ابنته.

وقد بَدَت على بوئثيوس، فيما يروي قريباه إينوديوس وكاسيودوروس، مخايلُ النبوغ الاستثنائي منذ الطفولة المبكرة، وبدا شغفُه بالتحصيل والدرس، وتلَقَّى أعلى ضروب التعليم، فما ناهز الشباب حتى كان حاذقًا لجميع الفنون الحرة من البلاغة إلى المنطق والفلك، وقد بَلَغ من إحكام العبارة وبلاغة الأسلوب وإتقان اليونانية مبلغًا لم يُتح إلا لقِلَّة قليلةٍ في نهاية القرن الخامس.

وقد استرعى بوئثيوس التفات الملك القوطي تيودوريك، الذي قهر أودويسر وقَتَلَه عام ٤٩٣م، فقرَّبه إليه وعهد إليه ببناء ساعة مائية ومزولة واستعان به في أمورٍ فنية أخرى، وفي عام ٥١٠م تَقَلَّد بوئثيوس منصب قنصل، وبذلك تسنَّم في الثلاثين من عمره أرفع المراتب الرومانية جميعًا وحقق ما لا يقدر أغلب الرجال على تحقيقه في عمره كله، ثم قلَّده الملك تيودوريك، في تاريخ غير معلوم، منصب «رئيس مستشاري البلاط» magister officiorum وهو منصب يضع على كاهله مسئوليات جسامًا، وفي عام ٥٢٢م حظي بشرفٍ لا يحظى به أحدٌ إذ عُيِّن ولداه قنصلين في يومٍ واحد، وهو تكريمٌ يعكس علو مكانته عند تيودوريك وإمبراطور القسطنطينية معًا.

على الرغم من هذه المناصب السياسية الرفيعة التي حازها بوئثيوس فقد ظلَّ شغفُه وهواه ومَهْوَى فؤاده هو البحث والدراسة وممارسة الفلسفة، يقول بوئثيوس في تعليقه على كتاب أرسطو «في التأويل»: «أود أن أترجم أعمال أرسطو كلها، بقدر ما تتوافر لدي، إلى لغة الرومان، وأنقل عباراته كلها بأمانةٍ إلى اللسان اللاتيني، كل ما سطره أرسطو في الفن العسير للمنطق، وفي المجال المهم للخبرة الأخلاقية، وفي الفهم الدقيق للموضوعات الطبيعية، سوف أترجمه على النحو الصحيح، وفضلًا عن ذلك فسوف أجعل كل هذا مفهومًا بتزويده بشروحٍ مُفسِّرة، وأود أيضًا بالتأكيد أن أترجم كل محاورات أفلاطون، وأشرحها بالمثل، وأعرضها بذلك في صيغةٍ لاتينية، وبعد أن أفرغ من ذلك لن أتردد في إثبات أن أفكار كل من أرسطو وأفلاطون متوافقة في كل النواحي، وأنها ليست متناقضة فيما بينها كما يُفترَض على نطاقٍ واسع، وسوف أبين كذلك أنها تتفق فيما بينها في النقاط الحاسمة فلسفيًّا، هذه هي المهمة التي سأكرس لها نفسي بقدر ما يتيح لي الأجل والفراغ.»

لم يُمهله الأجلُ حتى يتم مشروعه، غير أنه أتم ترجمة «مدخل فرفوريوس إلى مقولات أرسطو»، وأعمال أرسطو في المنطق وتشمل «في التأويل» On Interpretation، «الطوبيقا» (المواضيع) the Topics، «التحليلات» Analytics الأولى والثانية، و«المغالطات السوفسطائية» Sophistical Fallacies، ومن الواضح أيضًا أنه عرف كتاب «الميتافيزيقا» Metaphysics و«الفيزيقا» Physics، و«في الكون والفساد» On Generation and Corruption، و«الشعر» Poetics.
كما كتب بوئثيوس تعليقات على «مدخل» فرفوريوس، وعلى «المقولات والعبارة» لأرسطو، وربما على كل أعمال أرسطو التي ترجمها، وعلى «المواضيع الجدلية» لشيشرون (Topics).

ولم تقتصر أعماله الفلسفية على النقل، فقد ألف خمسة أعمال في المنطق خاصة به (في القياس الحملي، والقياس الشرطي، والقسمة المنطقية، والفروق الطوبيقاوية)، وألف خمس رسائل فلسفية (أربع منها على الأقل صحيحة النسبة إليه) حدد فيها العقائد الإيمانية وشرحها بطريقة عقلية: (١) في الثالوث الأقدس. (٢) هل الألوهية تقال جوهريًّا على الأب والابن والروح القدس؟ (٣) كيف يكون الخير في الجوهر الخيِّر؟ (٤) في الإيمان الكاثوليكي. (٥) كتاب ضد يوتيخوس ونسطوريوس.

وله مؤلفات علمية منها واحد «في الموسيقى» (في خمس مقالات)، والثاني «في الحساب» (في مقالتين).

كان تأثير بوئثيوس هائلًا من الوجهة التاريخية، فلم يعرف الغرب أرسطو إلا من خلال ترجمات بوئثيوس لأعماله المنطقية، ومن خلال ترجمته الدقيقة للمصطلحات الفلسفية خلق مفردات فلسفية جديدة للفلاسفة المدرسيين (الإسكولائيين) في العصور الوسطى، وقدم لهم في تعليقاته نموذجًا احتذوه في تعليقاتهم على أرسطو، والجدل الكبير حول «الاسمية» nominalism و«الواقعية»  realism تجد بذورَه عند بوئثيوس في تعليقه على فرفوريوس؛ ولذا وُصِف بوئثيوس بحق أنه «آخر الرومانيين وأول المدرسيين»١ فقد كان بوئثيوس هو القناة التي عبرت خلالها الفلسفة من العالم القديم إلى العالم السكولائي في العصور الوسطى.٢
وكان للفنون الحرة أهمية لدى بوئثيوس، مثلما كانت لدى أوغسطين، كتمهيد دراسي للفلسفة، وهو ما جعله يكتب الرسائل في الحساب والهندسة، وربما في الفلك والميكانيكا، وكان لرسائله أهمية كبرى في تطوير التعليم في العصر الوسيط، فقد ظلت رسالته في الموسيقى، على سبيل المثال، تُدَرَّس في أكسفورد حتى القرن الثامن عشر، وبوئثيوس هو الذي أعطانا لفظة «الرباعية»  quadrivium (الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك) باعتبار أن من المحال أن يبلغ المرء قمة الإتقان في مباحث الفلسفة ما لم يقارب الفلسفة بنوع من الطريق الرباعي.

وفي رسائله اللاهوتية محاولة للتوفيق بين مناهج الفلسفة العقلية المنطقية وبين حقائق الوحي القائمة بحقها الشخصي، وفي تطبيقه للمنهج والمصطلحات الأرسطية على المشكلات اللاهوتية يعد بوئثيوس بحق رائدًا للمدرسيين.

في رسالة، أوردها كاسيودوروس، باسم تيودوريك إلى بوئثيوس (يطلب فيها أيضًا ساعةً شمسية) جاء ما يلي:

في ترجماتك يقرأ الإيطاليون فيثاغوراس الموسيقي وبطليموس الفلكي، ويسمع الأوسونيون نيقوماخوس الحسابي وإقليدس الهندسي، ويتجادل أفلاطون اللاهوتي وأرسطو المنطقي بصوتٍ روماني، لقد رَدَدت أرشيميدس الميكانيكي باللاتينية إلى الصقليين، وأي مبحثٍ أو فن علَّمته بلاغة اليونان من خلال شتى الرجال فقد تَلَقَّته روما بفضلك وحدك بلغة آبائها، لقد جعلت هذه الأعمال اليونانية واضحةً بأسلوب مشرقٍ وتعبيرٍ مبين بحيث إن مَن عَرَف الاثنين سيفضِّل ترجمتَك على الأصل.

١  أطلق عليه هذا اللقب إدوارد جيبون مؤلف «الرومانية وسقوطها».
٢  Watts, V., Translation of Boethius’ Consolation, p. xvii.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤