الجنس الأدبي١ في «عزاء الفلسفة»

العزاء consolatio جنسٌ كتابيٌّ قديم، يندرج ضمن المقال النقدي، وينتمي في العالم اليوناني والروماني إلى مجال الفلسفة بصفة خاصة، وقد تَبَنَّته جميع المدارس الفلسفية، وفي زمن سينيكا Seneca أصبح «فن العزاء» نوعًا من الدواء الأخلاقي، وما هو إلا أن تفتح الدرج الموكل بمرضٍ معينٍ حتى تجد بين يديك العلاجات الأنسب لشفاء هذا المرض، لعل هذا هو مصدر تلك الاستعارات الطبية التي تستخدمها «الفلسفة» في هذا النص، و«التشخيص» diagnosis الذي تضعه، في الكتاب الأول، ﻟﻟ «الداء» الذي ألمَّ بمريضها، و«فحص» examination الحظ، واستخدام أمثلة تاريخية للعبرة، وفلسفة العزاء التوفيقية الرائجة التي تتبطن شطرًا كبيرًا من الكتاب الثاني، والتي تتضمن الفقرة النثرية المأثورة التي تترسم خطى شيشرون في «حلم سكيبيو» Dream of Scipio وتكشف عبثية المجد والشهرة الأرضية المحلية.٢

غير أن «عزاء الفلسفة» يصهر ببراعة أكثر من جنس كتابي واحد، فهو حينًا يكون مناجاة ذاتية (مونولوج) تقريبًا، وحينًا يكون حوارًا (ديالوج) يحذو حذو محاورات أفلاطون، غير أن «العزاء» في مُجمَله قد صُبَّ في قالب صنفٍ معين من الحوار، هو الحوار المقدس الذي يصور فيه المؤلف كيف تجلى له روحٌ قدسيٌّ أو قوة علوية غير معروفة له في البداية، ثم لا تلبث أن تفصح عن نفسها وتَبُثَّه شيئًا من الحكمة الخفية.

ثمة تضامٌّ في «العزاء» بين الحوار الرؤيوي وما يسمَّى ﺑ «النثر المنظوم أو النظم النثري»  Prosimetrum/Menippean Satire،٣ وهو شكل من الإنشاء ذو أصل يوناني ثم دخل إلى اللاتينية، وفيه مقاطع نثرية تتبادل مع الشعر، كان هذا الشكل الكتابي معروفًا قبل بوئثيوس، وأشهر أمثلته رائعة مارتيانوس كابيللا «زواج الفيلولوجيا وعطارد»، لم يكن إلمام بوئثيوس بهذا العمل ليقدم إليه كبير عون، وإن كان من المحتمل أن يكون قد ألهمه باختيار الشكل الأدبي، على أن بوئثيوس قد بلغ بهذا الجنس الأدبي ذُرى عاليةً غير مسبوقة.
١  genre.
٢  Watts, V., Translation of Boethius’ Consolation of Philosophy, p. xxii.
٣  لم يكن مصطلح Satire يعني في الأصل أكثر من «لحنٍ خليط» medley، ثم تغير معناه تغيرًا عنيفًا عبر تاريخه الطويل حتى صار يعني عملًا أدبيًّا يسخر من التقاليد الاجتماعية أو من عمل فني آخر أو من أي شيء يراه المؤلف معيبًا، وقد ابتكره مينيبوس الجاداري في القرن الثالث ق.م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤