مشروعية الشعر

أول شيء فعلته «الفلسفة» حين هبطت إلى زنزانة السجين هو أن طردت ربات الشعر اللائي يُحِطن به ويلهمنه الشعر الباكي ويواسينه بالغناء الحزين، فربات الشعر «ليس لديهن علاجٌ لأوجاعه بل سمومٌ محلاةٌ تزيدها سوءًا … فليَغْرُبن إذن وليتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه.»

ذلك أن علاج الصدمات الثقيلة والمحن الكبرى لا يكون بالمواساة السطحية بل بالمواجهة العميقة، إنها تريد أن تمنح «مريضها» حرية عقلية تخلِّصه من السجن المادي، يعرف ذلك كل معالج نفسي تخصَّص في علاج الصدمات، ويعرف أن العلاج الأمثل في هذه الحالة ليس العلاج التدعيمي السطحي، بل العلاج التبصيري العميق … العلاج بمواجهة الصدمة واقتحامها، هذه المواجهة هي العلاج الحقيقي والكامل لهذا الاضطراب، والحق أن كل أصناف العلاج على اختلاف تقنياتها ومنطلقاتها النظرية تلتقي في هذه الفكرة العلاجية المحورية: مواجهة المحنة والألم النفسي وعدم التهرب منهما، وذلك بالتناول الاستيعابي أو الاختراق working through للأحداث المؤلمة، على جرعات متدرجة في الشدة، وتأويلها تأويلًا سليمًا، ووضعها في نصابها الصحيح، وتحويلها من خبرة ناشزة خام إلى خبرة مهضومة ومتمثَّلة.

قد يكون ذلك مؤلمًا وممضًّا في الجلسات الأولى، تمامًا مثل تنظيف الجرح (نستعين عليه بوقفات تلطيف وتسكين واستراحة مثلما فعلت «الفلسفة» مع «بوئثيوس») ولكنه يؤدي فيما بعد إلى الالتئام التدريجي، وإلى سيطرة المريض على الصدمة بعد أن كانت مسيطرة عليه، وتحويل المحنة إلى جزء من خبرته الشخصية ومن بنائه النفسي، بعد أن كانت كيانًا دخيلًا مؤرِّقًا كالجسم الغريب.

لا بأس البتة في استخدام الشعر والموسيقى وبقية الفنون في خدمة الحقيقة وعلاج المصاب، على أن يكون ذلك ضمن رؤية علمية أو فلسفية، وبإشراف العالم الخبير وعلى مرأى منه، وفي المراحل الأولى من العلاج نجد «الفلسفة» تستخدم الشعر بكثرة،١ وها هي تقول للسجين في الكتاب الثاني بصريح العبارة: «لقد آن لك إذن أن تأخذ جرعةً خفيفةً سائغةً تشيع في داخلك وتُمهد الطريق بعدُ لجرعاتٍ أنجع، جرِّب إذن الأثر المهدِّئ للبلاغة المعسولة التي تمضي في طريقها الصحيح ما لم تحد عن مبادئي، ودعنا نصغي إلى الموسيقى، خادمة داري، تَرن في أوزانٍ خفيفةٍ أو ثقيلة وفق طلبي.»

ونحن نريد أن نمضي أبعد من ذلك فنقول: إن لغة الشعر مشروعة تمامًا حتى داخل اللغة الفلسفية والعلمية! ذلك أن الدراسات اللغوية الجديدة قد دعمت الرأي القائل بأن حرفيَّة اللغة، بما فيها لغة العلم، ليست هي الصراط السوِي إلى الحقيقة كما كان يُفترَض في الماضي، فالتصور الذي يذهب إلى أن الواقع «قائمٌ هناك» بانتظار أن يُدرك إمبيريقيًّا، ثم يوصف عن طريق الاستخدام الحرفي للغة هو تصور لم يَعُد مقبولًا على إطلاقه، فقد بات واضحًا للجميع، منذ ثورة كانت على أقل تقدير، أن الواقع هو نتاج تشييدٍ عقلي أو بناءٍ ذهني، وأن هذا العالم كما ندركه هو، على حد قول جون إكلس «صورتنا الرمزية للعالم الموضوعي المستقل عنا.»

من الخصائص الشعرية الجوهرية التي يمكن أن تندمج في أجناس الكتابة وتنصهر في سبيكتها: الرمز، المجاز، الصورة، الاستعارة، ألست ترى أننا نفزع جميعًا إلى المثل أو التشبيه أو المجاز أو الشعر الصريح حين تضيق بنا سُبُل التعبير ويعجز القول المباشر عن وصف حالة باطنة عميقة أو نقل معنى دقيقٍ مرهف أو العروج مع الفكر إلى آفاق تجريديةٍ نائية؟ ذلك أن الاستعارة الحية، كما يقول بول ريكور، ليست زينة وليست زخرفًا يمكن أن يقوم القول بدونه وتتم الدلالة بمعزلٍ عنه، إن تدمير المعنى الحرفي في الاستعارة يتيح لمعنًى جديدٍ أن يظهر، وبنفس الطريقة تتبدل العملية الإشارية في الجملة الحرفية وتحل محلها إشارة ثانية هي التي تجيء بها الاستعارة، وقد يبدو أن الاستعارة لا تفعل أكثر من تحطيم العملية الإشارية، غير أن هذا في الظاهر فقط، فالاستعارة المبدعة الحية تخلق إشارةً جديدة تتيح لنا أن نصف العالم أو جزءًا من العالم كان ممتنعًا على الوصف المباشر أو الحرفي، إن اللغة الشعرية تدفع عالمًا جديدًا إلى الظهور، ذلك هو عالم التعبير الشعري، هذا العالم يندمج بالعالم الحياتي وينصهر بعالم الفعل اليومي، ويمثل بالنسبة لي عالمًا ممكنًا، عالمًا بوسعي أن أعيش فيه وأعمل وأعاني، نخلص من ذلك إلى أن الإبداع الشعري للاستعارة يتيح لنا أن نقول شيئًا ما جديدًا عن عالم خبرتنا المعيشة.

إن اللغة هي وسيلتنا لإدراك العالم والتعامل معه، وكلما كانت اللغة أكثر قدرةً على الترميز وأوفر حظًّا من «النشاط الإشاري» كان العالم الذي ترسمه أوسع وأرحب، وكانت الخبرات التي تبثها أثرى وأخصب، من هنا ينبع مجد الاستعارة، ومن هنا تأتي أهميتها الكشفية والجمالية والنفسية، فالاستعارة وسيلة سيمانتية (دلالية) للإمساك بقطاعات من الواقع ومن خبايا النفس لا يطالها التعبير الحرفي ولا يملك منفذًا إليها، بوسع الاستعارة أن تقبض على مستويات عديدة من المعنى في وقتٍ واحد، وتربط المعنى المعرفي المجرد بالمعنى الحسي البدائي المشحون بالعاطفة والانفعال، وتعقد بينهما وصلًا مُثريًا وتكاملًا صحيًّا، والاستعارة إذ تهيب بالخيال الصوري تدعم «الذاكرة البعيدة» وتنمِّي الإنتاج اللفظي وتحفز الفهم التكاملي، والاستعارة إذ تجلب كل ملحقات المشبه به وتلصقها بالمشبَّه فهي تتيح كمًّا معلوماتيًّا كبيرًا بمبذولٍ لفظيٍّ صغير، وهي بهذا «الاقتصاد الذهني» تجعل الفكر أبعد مدى وأكثر طموحًا.

١  ليس من قبيل المصادفة أن «عزاء الفلسفة» يبدأ بالشعر وينتهي بالنثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤