موقع الضبط

بلغةٍ سيكولوجيةٍ معاصرة بوسعنا أن نقول إن شطرًا كبيرًا من جهد «الفلسفة» العلاجي يقوم على نقل «موقع الضبط»، يشير مفهوم «موقع الضبط» locus of control إلى إدراك الشخص لما تَكُونه الأسباب الرئيسة لأحداث الحياة: هل تعتقد أن مصائرك تصنعها أنت بنفسك، أو تعتقد أن مصائرك يصنعها الآخرون أو يصنعها الحظ أو القدر؟ هل تعتقد أن سلوكك تُسيِّره قراراتُك الداخلية، أو تعتقد أن سلوكك تسيره الظروف الخارجية؟ هل ترى أن نتائج أفعالنا مترتبةٌ على ما نفعله نحن (ضبطٌ داخلي internal L. O. C) أو ترى أنها مترتبة على أحداثٍ خارج سيطرتنا الشخصية (ضبطٌ خارجي external L. O. C
يعد «موقع الضبط» جانبًا مهمًّا من جوانب الشخصية، وهو مفهوم أسسه جوليان روتر Jullian Rotter في الستينيات من القرن العشرين، وكان يُسميه «موقع ضبط التدعيم» L. O. C. of reinforcement، يعقد روتر صلةً بين السيكولوجيا السلوكية والسيكولوجيا المعرفية، فقد ذهب إلى أن السلوك تُسيِّره «التدعيمات» reinforcements (المكافآت والعقوبات، أو الثواب والعقاب)، وأنه من خلال التدعيمات يؤسس الناس اعتقاداتهم عن أسباب أفعالهم، ثم تقوم هذه الاعتقادات بدورها بتحديد الاتجاهات والمواقف والسلوكات التي يتبنونها.

بصفة عامة، وبشيء من التبسيط والتقريب، يُعد الضبط الداخلي أفضل تكيفيًّا من الضبط الخارجي، وتقوم كثيرٌ من التدخلات العلاجية النفسية والتعليمية على نقل موقع الضبط لدى الشخص من الخارج إلى الداخل حتى يُصبح مالكًا لإرادته متحكِّمًا في أفعاله محددًا لمصيره.

والحقيقة أن العلاج في «عزاء الفلسفة» هو علاجٌ ذاتيٌّ، أو تعليمٌ ذاتي، يهيب بالقارئ أن يتجاوز محنته ويعلو فوقها، فما الشخصيتان المتحاورتان في النص سوى وجهين من شخصية بوئثيوس نفسه، أو حالتين من «حالات ذاته» ego-states، بلغة السيكولوجيين: إحداهما يائسة عاجزة انهزامية تطلب العون، والأخرى معلِّمة مرشدة تُقدِّمه، وتعمد «الفلسفة» إلى أن تُظهر السجين اليائس على أن المسألة برمتها مسألة «منظور رؤية» perspective، وأن بيده أن يقرأ قَدَرَه وفق إرادته ويتخذ موقفًا حرًّا من أحواله، ويَكُف عن أن يرى نفسه ألعوبةً في يد الأحداث الخارجية تُقَلِّبه كيف شاءت، فإذا كان في محنةٍ فإنه هو الذي خلق محنته، بمعنى ما، وأوثق أغلاله، حين اختار أن يَعُد نفسه ضحيةً لا حول لها، بينما كان بوسعه أن يعلو فوق المحنة وينظر إلى الأحداث وهو بمعزلٍ فيسلكها في سياقها الأكبر ويضعها في نصابها الصحيح.
للطبيب النمسوي فيكتور فرانكل Victor Frankl، خبرةٌ وجودية عميقة كنزيلٍ بمعسكرات الاعتقال النازية، وقد أسَّس على هذه الخبرة مدرسةً كاملة في العلاج النفسي أطلق عليها «العلاج بالمعنى الوجودي» logotherapy، يذهب فرانكل إلى أن سعي الإنسان إلى البحث عن معنى في حياته هو قوة دافعية أولى وليس تبريرًا ثانويًّا لحوافزه الغريزية، ويرى إلى الإنسان بوصفه كائنًا معنيًّا في المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء أهواء وإشباع غرائز، أو مجرد التوافق مع المجتمع والتكيف مع البيئة، يذهب فرانكل إلى أن الوجود الإنساني تجاوزٌ للذات أكثر مما هو تحقيق لها، وأن الحرية ليست دائمًا تحررًا من الظروف ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف، وأن لا شيء يعين الإنسان في أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى في حياته، يقول فرانكل: «إن السعادة تأتي ولا يُؤتى بها.» فكلما التمسنا الإشباع الذاتي عن عمدٍ وقصدٍ راوغنا وأفلت منا، ولكن كلما حققنا معنى يتجاوز ذاتنا واتتنا السعادة عن رضا وطيب خاطر.١

لاالفلسفة، والرواقية على الأخص، خير ما يغرس في الإنسان «موقع ضبطٍ داخليًّا»، فالحكيم الحق هو شخص لا سلطان للأهواء والانفعالات على نفسه، وإن سهام الحوادث لتنكسر تحت قدميه (بتعبير سينيكا)، وإنه لا يعرف الهم ولا الوجل ولا الأسف ولا الرجاء، غنيٌّ من غير مال، ملك من غير مملكة (بتعبير شيشرون)، يضاف إلى هذه الخصال شيءٌ أهم: هو أنه لا شيء في الوجود يستطيع أن يسلبه إياه، وهو ما تُلِح عليه «الفلسفة» في حديثها مع «بوئثيوس»، «إذا كنت سيد نفسك فأنت تملك شيئًا لا تود أن تفقده ولا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه»، «لو كانت هذه الأشياء التي تتظلم لفقدانها هي ملكك حقًّا لما كنت تفقدها أبدًا»، ذلك أن المنحة الحقيقية التي منحنا الله إياها هي الحرية، فحرية النفس تفلت من سلطان الناس وسلطان الأشياء، ومن ذا الذي يستطيع أن يتغلب على إرادتنا نفسها؟ فالله الذي منحنا الحرية محالٌ أن يسلبنا إياها، والمنحة الإلهية لا تُسترد كالمنح البشرية، أما الأشياء التي يمكن أن تُسلب من الإنسان فليعلم أنها لم تكن ملكه: إن هي إلا قرضٌ أقرضه الحظ والآن يحلو له أن يكُفَّ يده، ويستعيد ما أقرضه.

يقول يوبيتر كبير آلهة الرومان (زيوس عند الإغريق) لإبيكتيتوس: «لقد منحتك جزءًا من نفسي: مَلَكة الاختيار بين البدائل، الطلب والإعراض، الرغبة والنفور، إذا استطعت أن تحفظ هذه العطية، وأن تجعلها ملكك الحقيقي، فلن تعرف القيد أبدًا ولا العجز، ولن تئن ولن تشكو، ولن تتملَّق أحدًا كيف تستهين إذن بكل هذه المزايا؟!» (إبكتيتوس، المقالات الأخلاقية).

١  رولو ماي: مدخل إلى العلاج الوجودي، ترجمة عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٩٩م، ص١٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤