مسيحية بوئثيوس

من المثير للحيرة أن يخلو «عزاء الفلسفة» من أية إشارة صريحة إلى المسيحية، وهو الذي سطره رجلٌ مسيحي على مشارف الموت، ومن الأيسر له أن يلجأ إلى العزاء الديني والخلاص المسيحي!

غريبٌ حقًّا أن يعتمد بوئثيوس في «العزاء» على مذاهب مستمدة من أفلاطون وأرسطو والرواقيين والأفلاطونيين المحدثين، ويقتبس الكثير من أقوالهم ولا يقتبس شيئًا من الأناجيل أو العهد القديم أو كتب آباء الكنيسة، الأمر الذي دفع بعض الباحثين، مثل أوباريوس Obbarius وشارل جوردان Ch. Jourdain إلى القول بأن بوئثيوس لم يكن مسيحيًّا، أو كان مسيحيًّا بالاسم فقط.١
غير أن هذا الرأي فيه تطرفٌ وعَنَت، فهو يغفل الرسائل اللاهوتية الهامة التي كتبها بوئثيوس، والتي تُنسب له أربعٌ منها نسبةً تاريخيةً مُحقَّقَة،٢ ويغفل أنه كان من المحال في مطلع القرن السادس أن يتقلد أي شخص وثني أعلى مناصب الدولة مثلما فعل بوئثيوس، ويغفل قول «الفلسفة» في الكتاب الثالث «إنه الخير الأسمى إذن ذاك الذي يدبر كل شيء بقدرةٍ ورأفة.» ورد السجين عليها بأنه سعيد على الأخص بالكلمات نفسها التي تستخدمها، وهي إيماءة بأنه يتذكر هويته المسيحية حتى وسط التعليم الفلسفي كلما راودت مسامعَه أصداءٌ من الكتاب المقدس.٣

وإذا كان «العزاء» يخلو حقًّا من أي إشارة صريحة إلى المسيحية، فإنه يخلو بالمثل من أي شيء يتناقض معها على نحوٍ قاطع، صحيح أنه يعتمد على «نظرية التذكر» الأفلاطونية التي تفترض وجودًا سابقًا للروح قبل الولادة، ويعتمد على فكرة «ديمومة العالم» التي تنطوي على إنكار للخلق من عدم (في محاورة طيماوس) إلا أن هاتين الفكرتين، بعد كل شيء، لا تشكلان جوهر العزاء.

وأقرب إلى الصواب أن نقول، ببساطة، إن بوئثيوس، وهو الفيلسوف المكتمل الأداة، أراد لعزائه أن يكون فلسفيًّا (كما يشي العنوان) لا أن يكون دينيًّا، ومِن ثَمَّ فقد آثر ألا يستعين بأي حجة خارجة عن نطاق الموضوع الذي يتناوله،٤ وأن يلتزم من ثم بمناهج الفلسفة ولا يجلب أيَّ شيء من معطيات الوحي، ويبقى طوال النص محافظًا على التمييز الصارم بين الإيمان والعقل، إنه، ببساطة، يريد ألا يقع في «خطأ مقولي» category mistake، وهل يُسأل من ألَّف كتابًا في الحساب لماذا لا يستخدم المنهج الهندسي؟!
في كتابه «تطور فكر العصر الوسيط» يقول ديفيد نولز: «لعل التفسير يكمن في تغير الموقف تجاه الفلسفة منذ العصور الوسطى الأخيرة، فالحق أنه ما بين عصر أوغسطين وعصر سيجر البرابانتي كان الاعتقاد العام بين كلِّ مَن يفكر تفكيرًا جادًّا هو أن هناك وصفًا عقلانيًّا صادقًا واحدًا للإنسان والكون وإله ذي قدرة شاملة وعناية، وهو وصفٌ صحيح بنفس الدرجة التي تصح بها حقائق الوحي المسيحية، إن العظام من القدماء، رغم وثنيتهم، قد بلغوا هذه الحقيقة وعبَّروا عنها في فلسفتهم لو اكتَنَهَ المرء تعليمهم بأمانة، وبالاستعانة بهم يمكن تقديم جواب شافٍ عن مشكلات الحياة والمصير الإنسانيين، كانت هذه الإجابات هي ما مكَّن العقل الإنساني من أن يواجه العالم ويواجه كل كوارث الحياة، وبوسع المرء بغير شك، فيما وراء الحجج العقلية، في العالم الغيبي للروح، أن يلتقي بالحب الشخصي للمسيح وأن يتلقى بركته.»٥
ورغم كل ما قيل، فقد يكون السؤال عن مسيحية بوئثيوس لم يُصغ على نحوٍ صحيح! فمن يدري؟ لعل المزيد من المعرفة عن المناخ الفكري للمجتمع الروماني في عصر بوئثيوس أن يُظهر لنا هذا السؤال في ضوءٍ مختلف، وها هي الدراسات المكثفة في السنوات الأخيرة تُظهِرنا على حقائق جديدة حول هذه الحقبة الزمنية كفيلة بأن تغير نظرتنا في أمورٍ كثيرة، يبدو أن احتفاء المسيحية المبكرة بالتراث الكلاسيكي الوثني كان أكبر مما نظن ونتوقع، وأن للمذهب الإنساني المسيحي Christian Humanism تراثًا ممتدًا قبل «عزاء الفلسفة»، فيبدو أن الصلة بين عائلات القناصل النبلاء وكبار رجال الإكليروس في روما كانت وثيقة، وأتت معها بموقفٍ إيجابي تجاه أدب العصر القديم وفكره، بعيد كل البعد عن التحول الديني الذي يقتضي، في نظرنا الدارج، رفضًا للماضي الوثني وتقاليده، فبالإضافة إلى استمرار دراسة الفلسفة الوثنية والاهتمام بأعمال كُتَّابٍ كلاسيكيين من أمثال فرجيليوس وهوراتيوس، والاهتمام بالمباني القديمة وترميمها، فحتى الاحتفالات الوثنية الأصل مثل مهرجان الخصب (اللوبركاليا) وألعاب يوليو في روما على شرف أبولو ظلت قائمةً بتمامها في زمن بوئثيوس، «هذا الشغف المسيحي بالماضي، حتى إذا كان مرتبطًا ببعض المظاهر الخارجية للشعائر الوثنية، لا يخلو من دلالة كخلفيةٍ لتقدير وضع بوئثيوس ودائرته بين الثقافة الكلاسيكية والإيمان المسيحي.»٦
من شأن هذا الوئام وغياب التوتر بين التقليد الوثني والتقليد المسيحي أن يخلق مناخًا كان فيه تصور مدخل ثنائي إلى الحقيقة، أحدهما خلال ممارسة العقل والآخر خلال الوحي، أمرًا طبيعيًّا وسهل التناول، في هذا السياق كانت دراسة «اللاهوت الطبيعي» natural theology مشروعة وصحيحة مثلها مثل دراسة «لاهوت الوحي» revealed theology سواء بسواء، ولقد كان اللاهوت الطبيعي هو ما كرس له بوئثيوس قدراته الفكرية الهائلة طوال حياته.٧

مَن يدري؟ لعل هذا، بالإضافة إلى الجهود التأويلية اللاحقة، وبمعزل عن تخبُّط العصور الوسطى الأخيرة وصدمة الحداثة التي تلتها، هو ما أتاح للعقل الغربي أن يقيم صرحه الحضاري الحديث وهو يحمل داخله ولافًا سعيدًا بين عقلانيةٍ شديدة الصرامة والانضباط ولاهوتٍ مغرقٍ في التعقيد والغيبية، دون أن يعاني تناقضًا مشلًّا أو تنافرًا معيقًا.

١  عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٤م، ص٣٧٣.
٢  في رسالته «في الإيمان الكاثوليكي» يُعبر بوئثيوس بصريح العبارة عن إيمانه بالمذهب المسيحي في الخلق.
٣  وكذلك ذكر الجحيم والمطهَر في الكتاب الرابع، مقطع نثري ٤ حيث وعدت «الفلسفة» بالعودة إليه فيما بعد (وإن لم تعد)، وكذلك أصداء «أبانا الذي» في قصيدة ٩، الكتاب الثالث، ويَعُد المعلقون حوالي خمسة وعشرين موضعًا في «العزاء» فيها أصداء للكتاب المقدس وإن لم يُشَر إليه صراحةً، (على أننا ينبغي أن نعترف أن بعض النقاد لا يرى في العبارة المشار إليها أكثر من تعبير عن عاطفةٍ أفلاطونية محدثة إزاء اجتماع القوة والسلاسة في كلِّ فعلٍ إلهي، أما ابتهاج «بوئثيوس» بلباقة التعبير فيرونه، ببساطة، صدى للفلسفة الإيلية والأفلاطونية في توكيدهما على ضرورة مراعاة سمو اللغة في وصف الإلهيات).
٤  تقول «الفلسفة» في المقطع النثري ١٢، الكتاب الثالث: «فإذا كنت أتناول حججًا لا تُستمد من الخارج بل من داخل المسألة المطروحة فلا عجب في ذلك، لقد تعلمت على عهدة أفلاطون (في طيماوس) أن علينا أن نستخدم لغةً مثيلةً بموضوع الخطاب.»
٥  David Knowles, The Evolution of Medieval Thought, Longmans, 1962, p. 55.
٦  Henry Chadwick, The Consolations of Music, Logic, Theology and Philosophy, Clarendon Press, Oxford, 1981, p. 15.
٧  Watts, Translation of Boethius’ Consolation, p. viii.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤