مقدمة

لا يَذهب بمصابِكَ مثل أن تعلو فوقَه
وتقتله رصدًا وبحثًا وفَهمًا
ثم تَشربَ في جمجمتِه العِبرة.

الكتابةُ أثناء العَد التنازلي للأجَل المحتوم … هي كتابةٌ أخرى.

الغِناء على إيقاع خطوات الموت الحثيثة المقتربة … هو غناءٌ مختلف.

الإبداع بين شِدْقَي الموت هو إبداعٌ استثنائيٌّ يَمتح من نبع الحقيقة الخالصة؛ لأنه يأتي من برزخٍ سحيقٍ، وينظر من وراء «مسافةٍ نفسيةٍ» هائلةٍ، فيرى الأشياء بحجمها الحقيقي إذ تختفي الصغائر ولا يعود منظورًا من المعاني إلا كلُّ ما له ثقلٌ وحجمٌ ومقدار.

هكذا كان سِفْر «عزاء الفلسفة» الذي سطره بوئثيوس١ في زنزانته خلال الأشهر التي سبقت تنفيذ الحكم بإعدامه عام ٥٢٤م.
هذا النص الذي بين يدَيك كان أكثر النصوص رواجًا في أوروبا، بعد الكتاب المقدس، طوال العصر الوسيط وعصر النهضة،٢ وحَظِي من الترجمات والتعليقات بما لم يحظَ به أيُّ كتابٍ آخر، واضطلع بترجمته شخصياتٌ راجحةٌ في ميزان التاريخ، ويكفي أن نقول إن من بين مترجميه الملك ألفرد الأكبر، والشاعر جيفري تشوسر، والملكة إليزابيث الأولى.

عندما نُفِي دانتي أليجييري من فلورنسة رجع إلى كتاب «عزاء الفلسفة» واستَلْهَمَه في كتابة تحفته الخالدة «الكوميديا الإلهية». ولقد وجد العزاء في «العزاء»، ولولاه لانتَحَر مثلما فعل بير دل فينيي، الذي لقيه دانتي في «الجحيم»، وكان أيضًا قد اتُّهم ظلمًا غير أنه استسلم لليأس وبَخَع نفسه، وعندما قابل دانتي روح بوئثيوس في «الفردوس» قال عنه إنه أتى:

إلى هذا السلام …
من المنفى والشهادة.
الكوميديا الإلهية، الفردوس ١٠، ١٢٨-١٢٩

الكتابة الرومانية

هذا العمل الكلاسيكي من أدب السجون يحمل كلَّ ملامح الكتابات الفلسفية الرومانية الكبرى، وقد صاغه المؤلف في هيئة حوارٍ بين السجين «بوئثيوس» والسيدة «الفلسفة»،٣ فكان نموذجًا للميسم الروماني الفَذِّ في دمج الطلاوة الأدبية بالفلسفة التكنيكية، فإذا كانت الفلسفة اليونانية أكاديميةً نظريةً في مجملها، فإنها حين غُرست في روما صارت منهج حياة (هكذا كانت الرواقية على سبيل المثال)، وكثيرًا ما يقال: إنَّ الفلسفة في روما كانت فلسفةً تلفيقية غير أصيلة، ولعل الأصوب أن نقول: إنَّ العنصر الروماني الأصيل هو صياغة الفلسفة في أشكالٍ يمكن أن تتعامل تعاملًا مُجديًا مع المشكلات الإنسانية اليومية الخطيرة والدائمة.٤

قدرُ المفكرين

لا عجب أن يُنفَى الفلاسفة ويُعذَّبوا ويُقتَّلوا وتتقاذفهم العواصف الهوجاء؛ فقدرُ المفكرين أن يُصطدموا بقوى الشر؛ لأن تفكيرهم مختلفٌ عن تفكير العوام، ولأن مِن عملهم أن يقاوموا الأشرار ويكشفوا زيفهم. إنها «متاعب المهنة»، وعلى الفيلسوف، ومن طبيعة عمله، أن يتحملها بشجاعة، ويُروض نفسَه على معانقة مصيره وحُبِّ قَدَره، وأن يقهر في نفسه خشية الموت، وألا تفتنه السراء ولا الضراء. وإن الفلسفة، بعدُ، لتحمل في ذاتها الترياق والعزاء والسلوى.

لم تكن السلطة ولا الشهرة ولا الجاه ولا المنصب هو ما يطمع فيه بوئثيوس يوم أن زاول السياسة؛ فالفلسفة لا تترك في قلب مُرِيدها مكانًا لمَطْمَع، إنما دخل بوئثيوس معترك السياسة حرصًا على الصالح العام، ولكي يطبق في السياسة العامة ما تعلَّمه في درس الفلسفة، استجابةً لدعوة أفلاطون بأن يُزاول الحكماء السياسة حتى لا تُترك دفة الحكم لأيدي الجُهال والمجرمين فيُلحِقوا الدمار والخراب بالمواطنين الصالحين.

مارس الفيلسوف سلطته لحماية المستضعفين وكفِّ الظلم والعسف والبطش. زاول الفيلسوف السياسة فكان المآل الطبيعي أن يثير عليه سخط الساسة غير الفلاسفة، وأن يجلب على نفسه العداوات والأحقاد، وتُوقعه المكائد في فخاخها فيُحكم عليه بالنفي والموت، وها هو يندب حظه، ويبدي دهشته من أن يُتاحَ للشرير أن ينال غَرَضه من البريء على مرأى من الله ومسمع، وينوِّع على اللحن الأزلي «إذا كان الله موجودًا فمن أين يأتي الشر؟!» ويصعِّد إلى السماء زفرةً تشفع حرارتها لجرأتها: «أنتَ يا مَن تُمسك بزمام كل شيء، انظر من فوق إلى بؤس الأرض؛ فالبشر ليسوا جزءًا هينًا من هذا العمل العظيم، البشر تتقاذفهم أمواج القضاء، أوقِف، أيها الهادي، الطوفان الجارف، ومثلما تُوثِق السماء اللانهائية بوثاقٍ يحكمها، أوثق أصقاع الأرض وثبتها بوثاقٍ مثله.»

معنى «الوطن»

لم تتأثر «الفلسفة» بهذه الحسرات الطويلة، بل قالت بهدوء وثبات: «إن شئت أن تَعُدَّ نفسك منفيًّا فأنت الذي نفيت نفسك!» أي نفيٍ تتحدث عنه؟ أنسيت وطنَك الحقيقي؟ أنسيت أن وطنك لا نفْيَ منه؟

ينقلنا ذلك إلى مفهوم «الوطن» كما يفهمه الرواقيون:٥ الوطن ليس جبلًا أو واديًا ألقت بي فيه اعتباطية المنشأ والميلاد ومسقط الرأس، الوطن فكرة … الوطن اختيار، الوطنُ وطن العقل … مملكةٌ تشمل في ظلها الناس جميعًا بما يجمعهم من قرابةٍ قائمةٍ على شرف انتسابهم إلى عقلٍ واحدٍ (بتعبير ماركوس أوريليوس)، إنه «مجتمعٌ عقليٌّ» أو إمبراطورية مثالية هي ما كان يعنيه بلوطرخس بقوله: «إن ما مهدت له فتوحات الإسكندر من طريق التاريخ قد أتمته الفلسفة من طريق العقل.» إنه «جامعةٌ روحية» تحل فيها الوحدة العقلية محلَّ الوحدة السياسية.
الوطن ما يَقطُنُني لا ما أقطُنُه، «يبدو أنك نسيت القانون الأقدم لبلدك: إنه حقٌّ مقدسٌ لكل فردٍ اختار الإقامة فيه ألا يُنفى منه أبدًا؛ ومن ثم فلا وجه للخوف من النفي داخل أسواره وحِماه، ولكن أيما فردٍ يرغب عن العيش فيه يكون بنفس الدرجة قد فَقَد استحقاقه أن يكون هناك؛ لذا فإن هذا المكان لا يزعجني بقدر ما يزعجني منظرُك،٦ ولا ما أبحث عنه هو جدران مكتبتك المزينة بالزجاج والعاج، بل أبحث عن كرسي عقلك! ذلك هو المكان الذي أوْدَعتُ فيه يومًا لا كُتُبي بل الشيء الذي يجعل للكتب قيمةً … الفلسفة التي تحتويها الكتب، الأفكار التي تذخرها.»٧

التشخيص

في بداية فحصها للمريض تسأله «الفلسفة»: «هل تَذكر ما هي غاية الأشياء جميعًا، وما الهدف الذي تتجه إليه الطبيعة بأسرها؟» فلما وجدَته ناسيًا قالت: «فهل تعرف من أين أتت الأشياء جميعًا؟» قال: «نعم، من الله»، قالت: «فهل يجوزُ أن تعرف الأصلَ وتجهل الغاية؟!» ولكن الأهم من هذه الأسئلة الكونية، التي تؤسس الإطار لحياة الإنسان، هو أنها وجدَته ناسيًا من هو وما هو دوره كإنسان!

هكذا يأتي التشخيص قاطعًا كالسيف ثاقبًا كالرصاصة: النسيان٨ «فلأنك سادرٌ في نسيانك فقد رُحتَ تتحسر على أنك منفيٌّ ومجردٌ من ممتلكاتك، ولأنك لم تَعُد تعرف ما هي بالضبط غاية الأشياء، فقد حسبت أن التافهين والمجرمين أقوياء وسعداء، ولأنك نسيت الطرائق التي تُسَيِّر العالم فقد ظننت أن ضربات الحظ تتخبط هنا وهناك بغير ضابط.» ومن التشخيص الصحيح يبدأ العلاج الصحيح، ومن الجذوة المتبقية من ذاكرته الخابية تكون الخطوة الأولى … «فما تزال لدينا الشرارة الكبرى لشفائك، وهي رأيك الصائب عن إدارة الكون، فأنت تؤمن أن الكون لا تحكمه المصادفة العشواء بل العقل الإلهي، إذن لا تخشَ شيئًا، فمن هذه الشرارة الضئيلة سوف ينبثق فيك وهج الحياة.»

عجلة الحظ Wheel of Fortune

لعلك تأسى على تَبَدُّل الأحوال وتغير الحظ، وعلى سقوطك من ذرى المنصب والثراء إلى حضيض اليأس والقنوط، فلتتعرف إذن على الأقنعة العديدة لهذا المسخ (الحظ) الذي يُغوي بالصحبة نفس الأشخاص الذين ينوي أن يخدعهم ويقلب لهم ظهر المجن، يخطئ من يظن أن الحظ قد أدار له ظهره، فالتغير هو جوهر الحظ وماهيته، والحظ في تقلبه وتبدله إنما هو حافظٌ لعهده وثابتٌ على مبدئه! وكل من ارتضى أن ينحني للحظ ويضع عنقه تحت نير الظروف الخارجية فإن عليه أن يتحمل النتائج، وأن يقبل أحكام اللعبة إذا اقتضته بعد الصعود إلى القمة أن يهبط إلى القاع، وأن يعلم أن الحظ إذا ثبت على حالٍ لا يعود حظًّا.

هذه إذن أحكام اللعبة، وفهمها، مجرد فهمها، يعفيك من أن تبتئس حيث لا ينبغي الابتئاس، فإذا كنت تَرهن سعادتك بعطايا الحظ فإنها لن تشفي حاجتك بل ستزيدها اشتعالًا، أما إن كنت غير أسيرٍ لها فإن فقدانها لن يسلبك أمنك ولن ينال من سعادتك.

التغير سُنَّة الطبيعة، ليس شقاءً إذن إلا ما تَعُدُّه أنت كذلك، وكل قدرٍ هو قدرٌ سعيدٌ ما دمت تتلقاه بثباتٍ ورباطة جأش، لماذا تبحثون عن السعادة خارج نفوسكم وهي كامنةٌ فيها؟ إذا كنت سيد نفسك فإن لديك من الثراء الداخلي ما لا يستطيع الحظ أن يسلبك إياه.

الثبات على التغير! … ذلك هو طبع الحظ ودأبه ودَيْدَنه.

فلتفرح إذن بأنك كشفت الوجه المتقلب لهذا الإله الأعمى، واهنأ بإحدى الراحتين، «فلقد تَخَلَّى عنك من لا يأمن له أحدٌ ولا يثق ببقائه إلى جانبه على الدوام … والحق أنك لو تَذَكرت طبعه وأساليبه ومزاياه لتبيَّنت أنك لم تُفِد منه ولم تخسر بفقدانه شيئًا ذا بال.»

هكذا الفلسفة دائمًا، الفهم بردٌ وسلام … الفهم ترياق.

ليس عليك أن تُغيِّر ما لا قِبَل لك بتغييره، وبحسبك أن تفهمه!

الدروب الخطأ إلى الخير

تذهب «الفلسفة» إلى أن الرغبة في الخير الحقيقي هي شيءٌ متأصلٌ في نفوس البشر جميعًا، وما يَحيد بهم عن جادَّة الخير سوى الحمق والخطأ والسير في الدروب المُضلَّة إلى الخيرات الزائفة، إن الخير الأسمى، أو السعادة الخالصة، هي هدف البشر جميعًا، أخيارهم وأشرارهم على السواء، فأما الأخيار فيسعون إليه من الطريق الصحيح وبالنشاط الطبيعي وهو ممارسة فضائلهم، وأما الأشرار فيقصدون إلى الشيء نفسه ولكن من الطريق الخطأ … من خلال شهواتٍ ليست بالطريقة الصحيحة ولا الطبيعية لاكتساب الخير: الثروة، المنصب، الجاه، الشهرة، النفوذ، اللذة … إلخ، ومِن ثَمَّ فالأخيار أقوياء لأنهم يحققون الغاية، والأشرار عجزة لأنهم يُقصِّرون عنها، ولا يُغيِّر من الأمر أن الأخيار قد يُنفون ويضطهدون والأشرار قد يسودون بعض حينٍ ويزدهرون في الظاهر الكاذب.

المال والثروة

انظر إلى نقائض المال وغراباته:
  • إنه لا يكون ذا قيمة إلا حين يغدق به، أي حين لا يعود مملوكًا!

  • وهو لا يقبل الشراكة دون انتقاص (مثلما يقبلها الصوت مثلًا والفكر والحب)، ولا يأتي لواحدٍ إلا بإفقار الآخرين.

  • وهو يُتخم ويؤلم إذا زاد عن الحاجة.

  • وهو لا ينفي العَوَز بل يؤجِّجه، ولا يسد الحاجةَ بل يخلق حاجاتٍ جديدةً تنبت إلى الوجود شيطانيًّا كرءوس الهيدر.٩
  • وهو لا يتحلَّى بخاصية طبيعية تمنعه من أن يُسلَب من أصحابه رغمًا عنهم.

  • وهو يصطحب تحت نيره بئس الرفيق: الخوف، التوجس، شبح اللص والقرصان وقاطع الطريق.

  • وهو يجعلك بحاجةٍ إلى عونٍ خارجي لكي تحميه، وبذلك تنعكس القضية وإذا بالثروة التي يرتجى منها أن تجعل المرء مكتفيًا بذاته قد «أحوَجَته» في الحقيقة إلى غيره!

  • وهو، فيما تَملِكه، فإنه بدوره يَرهَنك ويملكك ويحدد إقامتك؛ لكي تقوم على رعايته بدلًا من أن يقوم هو على رعايتك، إنه وحشٌ مسيخ: تُضَخِّمه فيقتلك، وتُسمنه فيأكلك، ويُفسد شفرتك ويحجِّر أوصالك على أرائك الكسل والدَّعة، ويُغشي عليك الصحبة ويجرد علاقاتك من هوية الحب ومن شروط الصداقة، ويحرمك من اختلاجة الشوق وهزَّة المنال وطبخة الجوع، إنه نفيٌ آخر يحرمك من أنس الحياة الطبيعية ويلقي بك في حياةٍ افتراضيةٍ اصطناعية موحشة.

    «الطبيعة يكفيها القليل، أما الجشعُ فلا يُشبعه شيء»، الغِنَى أن تكون «غنيًّا عن» … «لا غنيًّا ﺑ».

    كل ما فاض من مالك عن حاجتك الحقيقية وأمانك الفعلي فهو عبءٌ وهمٌّ ووسواس، وقيدٌ عبودي، وفقرٌ مقلوب.

المنصب والسلطة

ليس بوسع أعنف الزلازل ولا أعتى السيول أن تُلحِق من الخراب ما يُلحِقه المنصب والسلطة حين يقعان في أيدي الأشرار، «فإذا تَصادَف أن وقعت المناصب لرجالٍ أمناء فلا شك أن الخير الوحيد فيها إذَّاك هو أمانة الرجال الذين يتولون المناصب، يترتب على ذلك أن الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب بل يأتي إلى المنصب من الشريف.»

لماذا يتحرق أغلب الناس إلى المناصب؟ ألأُبهتها ونفوذها؟ ولكن على مَن تريدون أن تمارسوا الأبهة والنفوذ؟ «أليس من المضحك أن تروا مجتمعًا من الجرذان وقد انبرى جرذٌ منهم يدَّعي لنفسه حق التسلط عليهم والتحكم في شئونهم؟ أتحبون التمتع بسلطة البطش والانتقام؟ وهل هناك شيء يمكن أن توقعه بأحدٍ وأنت بمأمنٍ ألَّا يقع لك يومًا على يد شخصٍ آخر؟»

«لو كانت المناصب خيرًا بطبيعتها لما وقعت في أيدي الأشرار … أم تريد المنصب لكي تنعم بالكرامة والتبجيل، وتتميز عن الناس بالأبهة والشرف؟ فاعلم أنك إذا أردت أن تتألق في أبهة المنصب فسوف يتعيَّن عليك أن تنبطح لمن أنعَمَ عليك به: أي أنك إذا أردت أن تفوق الآخرين في الشرف والكرامة سيكون عليك أن تُرخص نفسَك وتهينها بالتَّزَلُّف!»

إذا لم تكن نفسُك كبيرةً بذاتها فلن ينفعها المنصب، وعندما يُوسَّد المنصب إلى غير أهله فإنه لا يجعل منه أهلًا على الإطلاق، بل يفضحه لا أكثر ويكشف ضعفه وضآلته.

«الكرسيُّ الواسع هو أول الشامتين بصاحبه.»

المجد والشهرة

أما الشهرة فمجيئها، في الأغلب، اعتباطي وبقاؤها غير مضمون، والأغلب أن تكون زائفةً يكتسبها غير أهلها من خلال الآراء الزائفة للدهماء، ثم تنهِكه في محاولة الحفاظ عليها، وما قيمتها عندما ينتهي المرء إلى الموت الذي هو نهايةُ كلِّ شيء؟ وكم هي هزيلةٌ في كل حالٍ ولا وزن لها: فمهما امتدَّ صيتُك في الأرض ودوَّى في التاريخ فإنه صفرٌ حين يقاس إلى لا نهاية المكان، وصفرٌ حين يُقاس بأبدية الزمان.

الشهرة؟ … الأضواء؟ … إنها البَرَص الذي يهرب منه الفيلسوف، والعهر الرخيص الذي يتأفف منه كلُّ من أحصنته الحقيقة.

الملك

يقول شكسبير: «لا يَستقر قرارٌ للرأس الذي يحمل التاج.»

قسط الملوك من الشقاء أكبر من غيرهم، فهم يعيشون تحت حد السيف، وهل تَعُده قويًّا ذلك الذي لا يمشي إلا مخفورًا بحرسٍ؛ لأنه أشد خوفًا من رعاياه الذين يرهبهم، والذي لا بد له، لكي يبدو قويًّا، من أن يعيش تحت رحمة من يخدمونه؟ ألا ما أبشع هذا السجن وما أوحشه!

يحرمك المُلك من نعمة الصداقة الحقيقية، ومن تمييزها إن وُجدت! ما دامت شبهة التملق تُغشِّي على المشهد كله، فيا له من حرمان.

أي سلطةٍ هذه التي تبث الخوف في نفوس أصحابها؟ إن رغبتَ فيها لم تمنحك الأمان، وإن رغبت عنها لم تتركك وشأنك؟ ولن ينفعك إذَّاك أي صديق ربطته بك ثروتُك لا فضيلتك، فصديقك في السراء ينقلب عدوًّا في الضراء، وليس أقدر على إلحاق الأذى من صديقٍ انقلب عدوًّا، ذلك أنه يعرف مواطن ضعفك … يعرف أين ثغرتُك، وأين مقتَلُك و«كعبُ أخيلك»!

لذات الجسد

«وماذا أقول عن لذة الجسد؟ إن السعي إليها محفوفٌ بالهم، والشبع منها مملوءٌ بالندم، كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقامٍ وتباريح، وكأنها ضربٌ من عقاب الإثم … أي سعادة في الشهوات إذا كان الأسى هو نهاية اللذة؟ يعرف ذلك كلُّ من يتجشم استعادة ذكرى انغماساته.»

وربما يكون مرد الكآبة التي تعانيها كلُّ الكائنات عَقِب قضاء الوطر هو إحساس الكائن بأنه خُدع … بأنه بُخس … بأنه استُدرج! لَكَأن الطبيعة كانت تقضي به مأربها لا مأربه!

المكيدة الكامنة في صُلب الحياة هي أن لذة الإشباع تأتي دائمًا أقل بكثيرٍ مما وعدنا به الجوع!

تأمَّل السماء إذن، تأمل قبة السماء اللانهائية المرصعة بالنجوم، ثم جرِّب أن تَسلُك شئونك وشجونك في هذا السياق الكوني الكبير، وأن تنظر إليها بعين الفلك الدَّوار، ستُدرِك على الفور أنها أضحوكة، وأنها أهون عليك وعلى الكون من أن توزن، ثم تململ وانفضها عنك كما تنفض هباءة، واستأنف وَجْدَك بهذا المُلك العريض.

خطأ تقسيم البسيط

أين مكمَنُ الخطأ هنا؟

لماذا يَضِل الناس عن طريق السعادة الحقيقية، الذي تَهدِي إليه الفطرة ذاتها، إلى تُرَّهاتٍ لا تفضي إلى شيء؟!

يكمن خطأ الإنسان في أنه «يأخذ ما هو بسيطٌ وغير قابل للقسمة ويحاول تقسيمه، فيُحيل حقيقته إلى زيفٍ وكماله إلى نقص … حين يعمد البشر بحماقتهم إلى تقسيم ما هو بطبيعته واحدٌ، وإلى تحصيل جزءٍ من شيءٍ لا أجزاء له، فإنهم لا يحصلون على الجزء الذي لا وجود له، ولا على الكل الذي يولونه اهتمامًا.»

السعادة «كلٌّ» بسيط، ولا وجود لها في هذه الجزئيات الكاذبة التي ما تكاد تقبض على واحدةٍ منها حتى تُفلِت منك الأخريات!

الخروج من الكهف

«لديك إذن طبيعة السعادة الزائفة وسببها معًا، فلتُحوِّل نظرتك الآن في الاتجاه المقابل ولسوف ترى لتوِّك السعادة الحقيقية التي وعدت بأن أبينها لك»، ولكي تكون جديرًا باكتشاف مصدر هذا الخير الأسمى ينبغي، كما قال أفلاطون في محاورة «طيماوس»، أن نبتهل إلى الله، فبدون ذلك لا يستهل عملٌ ولا يُشمَّر لأمر.

المخطط هنا أفلاطوني لا شك فيه، وتحويل النظرة عما هو زائف إلى ما هو حق، وإدراك أن الله هو الخير الأسمى، إنما يستند على صعود الروح في أسطورة الكهف الشهيرة في الكتاب السابع من «الجمهورية»، فصعود الروح، أو تربيتها، أشبه بصعود رجل من كهف مظلم كان قابعًا فيه ومقيدًا منذ الطفولة لا يملك أن يرى غير ظلالٍ على الجدار،١٠ وحين فَكت قيوده انتقل خطوةً خطوة إلى النور، حتى تمكن في النهاية من أن يرى الشمس نفسها — مثال الخير.

غير أن صعود الروح ليس مجرد عملية تربية، فهو أيضًا عملية «تذكر» تنصهر فيها نظرية التذكر الأفلاطونية بمفاهيم أفلاطونية محدثة تتعلَّق بانطواء الروح على ذاتها واستضاءتها بنورها الباطن، من هنا كان تشخيص «الفلسفة» لحالة «بوئثيوس» هو «فقدان الذاكرة» أو «النسيان»؛ نسيان طبيعته الحقة، إنه لَيعلمُ بالسعادة الحقيقية، غير أن ذاكرتَه، كشأن غيره من الناس، كليلةٌ غائمة، إن للروح نزوعًا طبيعيًّا، وانتحاءً فطريًّا، إلى الله، غير أنها كثيرًا ما تَحِيد وتُحبط في مسالك مضلِّلة، ولكن ما هو إلا أن يشيح بنظرته عما هو باطل إلى ما هو حق حتى تَتمَّ له عملية التذكر ويصعد بروحه إلى الرحاب العُلَى، ويدرك أن الله هو الخير وهو السعادة، ويتعرف على وطنه الحقيقي الذي نسيه في مُعترك الحياة، فيهتف قائلًا: «إنه هو … هذا وطني، منه أتيت وفيه سأبقى ولا أبرح أبدًا»، فإذا ما عنَّ له أن يُلقِي نظرةً على الأرض المعتمة من ورائه فلسوف يرى الحياة من منظور الأزل، ويرى الأشياء رؤيةً إلهية:

سيرى الطغاةَ الظالمين مَنفيين منبوذين لا مأوى لهم.

سيرى لَذَّات الأرض وهمومها، وتقلبات الحظ وألاعيبه، كوميديا لا تحتمل إلا الضحك.

أما «الشر» — عفريت الفلاسفة وحجة الملحدين — فلن يرى له وجودًا!

بين حرية الإرادة وسابق العلم

من تمام العزاء أن يعرض بوئثيوس لمعضلةٍ تقض مضجع المفكرين، وما تزال شوكةً في حلق اللاهوتيين: ثمة «تنافر» incompatibility ظاهر بين «حرية الإرادة» (الإنسانية) free will و«سابق العلم» (الإلهي) prescience وهي شوكةٌ لأن معقبات هذا التنافر وخيمةٌ حقًّا تبلغ أن تكون سقوطًا ذريعًا لكلِّ معنى وكل قيمة!

حين تؤخَذ كل حقيقةٍ من هاتين على حدةٍ تكون حقًّا لا شك فيه، غير أنهما لا يمكن أن تؤخذا معًا في آنٍ واحد، لكأنهما تتأبيان أن تخضعا لنيرٍ واحد! أيمكن أن يكون خلافُهما وهمًا؟

إذا كان الله يعلم كل شيء١١ فإنه يرى كلَّ ما سيحدث في المستقبل رؤيةً مسبقة ذات يقينٍ مطلق، المستقبل إذن «محتومٌ» determined  «مختومٌ» sealed لا يملك أحدٌ تغييره، وكل ما سيحدث فهو محددٌ سلفًا بضرورةٍ مطلقةٍ، تقيد أفكار الإنسان وأفعاله بمسلكٍ واحدٍ في الحدوث ما دام البشر مدفوعين للخير أو الشر لا بإرادتهم بل بضرورة قاهرة لما يتعيَّن أن يكون.
لا وجود إذن لحرية الإرادة البشرية، وإذا انتفت حرية الإرادة تنتفي معها المسئولية ولا يعود هناك معنًى ولا سند للثواب والعقاب، في الأولى والأخرى، ولا يكون للفضيلة ولا الرذيلة أي وجود،١٢ ولا تأثير للرجاء والدعاء.

كيف يمكن ﻟ «الفلسفة» أن تنقذ الموقف؟ كيف تفض هذا الاشتباك بحيث يبقى كل من «العلم المسبق» و«حرية الإرادة» قائمين دون أن ينفي أحدهما الآخر؟

تقول «الفلسفة»: «أولًا، ثمة حرية إرادة، فحرية الإرادة جزءٌ من ماهية العقل وطبيعة التعقل، الفكر حرٌّ بحكم التعريف، فمن غير الممكن أن توجد طبيعةٌ عقليةٌ من دون حرية إرادة، فما من كائنٍ يمكنه بالطبيعة استخدام عقله إلا وله قوة الحكم التي يمكنه بها، بدون أي عونٍ آخر، أن يتخذ القرار في كل أمر، وأن يميز بنفسه بين الأشياء التي يريدها والأشياء التي يتجنبها … كل ما لديه عقلٌ فلديه أيضًا حرية أن يريد أو لا يريد.»

حرية الإرادة، إذن، أمرٌ واقعٌ لا ريب فيه، ويبقى أن ننظر في مسألة «سبق العلم الإلهي» وكيف يقوم على مستوى لا يتقاطع مع حرية الإرادة الإنسانية، ولا يمارس عليها تأثيرًا عليًّا:

الرؤية تُدرِك الشيء ولا تُسببه، ومن الممكن للحدث أن يعُرف دون أن تكون المعرفة سببًا لحدوثه.

وكل ما يُعرف فإنما يُعرف وفقًا للقدرة المعرفية للعارف لا لطبيعة الشيء المعروف (المدرك)، ومثلما أن معرفة الأشياء الحاضرة لا تضفي ضرورةً على ما يجري في الحاضر، فإن سبق العلم الإلهي لا يضفي ضرورة على ما سوف يحدث في المستقبل، كل ما في الأمر أن القدرة المعرفية السرمدية تتيح لنظرة الله أن ترى كل شيء بطريقةٍ تتجاوز طريقة العقل البشري في رؤية الأشياء، السرمدية ليس لها ماضٍ وحاضر ومستقبل: السرمدية حضورٌ مقيم، ولله في حضوره السرمدي معرفةٌ تتخطى كل تغير زمني وتبقى قائمةً في فورية حضوره، إنها تضم كل الأعماق اللانهائية للماضي والمستقبل وتنظرها في فورية عرفانها كما لو كانت تحدث في الحاضر، المعرفة الإلهية المسبقة لا تُغيِّر من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرة لها تمامًا كما سوف تحدث ذات يوم في المستقبل، إن المعرفة لا وطأة لها على المجريات ولا توقع اضطرابًا في الأشياء، والمعرفة الإلهية بحكم سرمديتها تميز بلمحةٍ واحدةٍ كل ما سوف يحدث دون أن تقحم عليه ضرورةً ليست فيه، المعرفة الإلهية تقع على مستوى خارج عن المنظور البشري، ومِن ثَمَّ فإن حرية الإرادة لا تُضار بها على المستوى البشري من العرفان، والمسئولية الأخلاقية بالتالي لا تنتفي ولا تمتنع.

صحيح أن من الصعب على العقل البشري تصور ذلك، تمامًا مثلما أنه من الصعب على الحواس أو المخيلة فهم طريقة العقل في إدراك الكليات بينا لا ينظر إلا في كياناتٍ مفردة، وينبغي أن نُسلِّم بأن العقل البشري المحدود، المرتكز على قطعة لحمٍ على حد تعبير شكسبير، لن يستوعب كل شيء عن ذات الله وطبيعة علمه وطرائقه في تصريف الخلق.

«لله معرفةٌ مسبقة، ويستوي في عليائه مشاهدًا كل شيء، ولما كانت سرمدية نظرته تُصرِّف المثوبة للأخيار والعقوبة للأشرار فهي تمضي بانسجام مع نوعية أفعالنا المستقبلية، الأمل في الله ليس عبثًا، والدعاء لا يذهب سدًى، فهما إن كانا صالحين لا يمكن إلا أن يُجابا.»

جوهر العزاء

الفرق إذن هو فرقٌ في «المنظور» perspective بين رؤية الله ورؤية البشر، وإنما يأتي العزاء من محاولة العلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع، وبقدر ما يمكن أن يُتاح للبشر، وإنما يأتي القنوطُ نتيجةً للرؤية الضيقة والمغرقة في البشرية والأرضية، مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئًا من الرؤية الإلهية، وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء، إن من المتعذر عليك أن تفهم المحنة بمعزلٍ أو تفهم البلاء على حدة، بل يتعين أن تضعه في المخطط الكلي للأشياء، أن تفعل ذلك يعني أن تتفلسف، إن الفلسفة لا تغير الأحداث ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهمًا تعود بعده أحداث الحياة مقبولةً بل ممتعة.

وإذا كانت الاستجابة المعتادة للكوارث هي النحيب والعويل، وطلب الخلاص حيث لا خلاص، فإن الفلسفة تُعَلِّم أن ما يحتاجه الإنسان حقًّا ليس التغيير بل الفهم، وبلمسةٍ فنيةٍ محسوبةٍ تتركنا «الفلسفة» في موعظتها الأخيرة ﻟ «بوئثيوس» وقد ارتقينا إلى مستوًى علويٍّ، نَشخَص بأبصارنا إلى السماء، ولدينا من حرية العقل ما يَقْهَر القَهْر، فلا نعود نرى القيدَ قيدًا، ولا نعود نرى السجن سجنًا.

عادل مصطفى
٥ / ٤ / ٢٠٠٧
١  أو بواتيوس، أو بوئتيوس، أو بوئثيوس.
٢  امتدَّ هذا المجدُ الاستثنائي أكثرَ من ألف عام.
٣  حيثما تَرِد كلمة «فلسفة» محصورةً هكذا بين هلالين فالمقصود بها الشخصية الخيالية التي تحاور «بوئثيوس» السجين، وتُمثِّل الحكمة في نص «عزاء الفلسفة»، وحيثما يرد اسم «بوئثيوس» أيضًا بين هلالين فالمقصود به الشخصية الحوارية داخل النص وليس بوئثيوس المؤلف.
٤  Masterpieces of World Philosophy, ed. Frank N. Magill. George Allen & Unwin LTD, 1954, p. 264.
٥  صحيح أن بوئثيوس يعني في نصه الوطن الأفلاطوني والأفلاطوني المُحدَث، في جوار الله، غير أنه يعني أيضًا الوطن الرواقي: وطن الأخوة الإنسانية التي تنتسب إلى عقلٍ واحد، وتعود إلى مصدرٍ واحدٍ هو الله.
٦  أي لا يزعجني إنك في سجنٍ مادي؛ بل يزعجني إنك سجنت نفسك طوعًا في سجنٍ عقلي!
٧  صفوة القول إن المكتبةَ هي في العقل، والسجنَ هو في العقل، والوطن هو في العقل.
٨  لكي يكتمل في ذهننا مفهوم «النسيان» كتشخيصٍ لحالة «بوئثيوس» (الشخصية الحوارية) فلا بدَّ لنا من أن نربطه بنظرية «التذكر» anamnesis الأفلاطونية، وبغيرها من المفاهيم الأفلاطونية المحدثة، مما سوف يرد، بتفصيلٍ مناسبٍ، في موضعه.
٩  وحشٌ أسطوري ذو رءوس تسعة كلَّما قطع منها رأس نبت مكانه رأسان، وسوف يأتي ذكره في أعمال هرقل في الكتاب الرابع، قصيدة ٧.
١٠  Watts, V., Translation of Boethius’ The Consolation of Philosophy, revised edition, Penguin Books, 1999, p. xxvi.
١١  أي يتصف ﺑ «شمول العلم» omniscience.
١٢  أي أن «الحرية» هي التي تأتي ﺑ «القيمة» إلى «الوجود»، (يتبين من ذلك أن أعداء الحرية هم في حقيقة الأمر أعداء القيمة التي يزعمون حمايتها في العادة!)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤