الفصل الخامس

اضطرابه الانفعالي١

يا خالق السموات المرصعة بالنجوم
أيها الجالس على عرشك الأبدي،
تدير السماء دورانًا رشيقًا،
وتعنو الأنجم لسُنَّتك،
بأمرك يسطع القمر تارةً بدرًا متكملًا،
إذ يستقبل ضوء أخيه.٢
فتخبو له الأنجم الضئيلة
وطورًا يحول محاقًا،
ويفقدُ كل ضيائه المستعار
وأنت تحدو نجم المساء
باردًا جليًّا في الهزيع الأول من الليل،
ثم يُبدِّل أعنته ويكون نجم الصباح
ثم يشحب أمام ضياء الشمس الجديدة،
عندما يجرِّد الشتاء البارد الأشجارَ من أوراقها
فأنت تقصِّر أمد النهار،
وحين يُقبل الصيف بلهيبه
تمنحُ الليل الساعات الأسرع،
بقدرتك تُنظِّم مواسم العام،
فالأوراق التي انتزعها ريح الشمال في الشتاء
يرُدُّها النسيم الغربي في الربيع،
والبذور التي رعاها الشتاء
تُنضِجُها حرارة الصيف غلالًا يانعة،
وما من شيءٍ إلا يُلبِّي شرعتك الأزلية،
ويؤدي مهمته بانضباط
كل شيءٍ أنت تحكمه بضوابط صارمة
إلا أفعالَ البشر،
فقد استَنْكَفْت، كمُهيمنٍ، أن تُقيِّدها بقيود،
وإلا فلماذا يتقلب القضاء بهذا العنف ويُغَير الأحوال بهذا النحو؟
فإذا بالعقاب المؤلم الحقيق بالمجرمين يهوي على رءوس الأبرياء
الآثمون يتربعون على العروش العالية،
ويدوسون، يا للوضعِ المقلوب! على رقاب الصالحين
الفضيلةُ الوضَّاءة تتوارَى في الظلال المعتمة،
العادل يحمل وِزْرَ الظالم
العقابُ لا يَطال الحانثين باليمين المُزيِّنين الكذبَ بزُخرفِ القول،
الذين يستخدمون هذه المهارة كلَّما دَعَتهم نزوتهم،
ويَزدهيهم أنهم يخضِعون لها الملوك أولي البأس
الذين يبسطون سلطانهم ويفرضون هيبتهم على جحافل البشر،
أنتَ يا من تُمسِك بزمام كلِّ شيء
انظر من فوق إلى بؤس الأرض،
فالبشر ليسوا جزءًا هينًا من هذا العمل العظيم،
البشر تتقاذفهم أمواج القضاء،
أوقف، أيها الهادي، الطوفان الجارف،
ومثلما تُوثق السماءَ اللانهائية بوَثاقٍ يحكمها
أوْثق أصقاعَ الأرضِ وثبِّتها بوثاقٍ مثله.

بينما كنت أنفث هذه الحسرات الطويلة، بقِيَت الفلسفةُ هادئةً لم يَطرِف لها جفنٌ ولم تتأثر بشكواي، ولما انتهيت نظرت إليَّ بهدوء وقالت: «عندما رأيتك حزينًا دامعًا أنبأني لسان حالك أنك معذبٌ منفيٌّ، ولكن ما كان لي أن أعلم كم لك في المنفى لولا أن كشفت لي ذلك في ثنايا قولك، غير أنك في حقيقة الأمر لم تنف بعيدًا عن وطنك، بل أنت الذي ضللت بعيدًا عنه بنفسك! أو إن شئت أن تَعُد نفسك منفيًّا فأنت الذي نفيتَ نفسَك! فلا أحد غيرَك على الإطلاق يمكنه أن يكون قد فعل ذلك، ذلك أنك لو تذكُرُ وطنك الحقيقي الذي جئت منه فإنه ليس محكومًا بالأغلبية مثل أثينا القديمة، بل إنه، على حد قول هوميروس، «واحدٌ سيده، واحدٌ ملكه»، واحدٌ يروقه أن يكثر رعاياه لا أن ينفوا، واحدٌ … أن تعنو لعنانه وتُذعن لسلطانه وتنحني لعدالته هو أعلى مراتب الحرية.

يبدو أنك نسيت القانون الأقدم لبلدك: إنه حقٌّ مقدسٌ لكل فردٍ اختار الإقامة فيه ألا يُنفَى منه أبدًا، ومِن ثَمَّ فلا وجه للخوف من النفي داخل أسواره وحِماه، ولكن أيُّما فردٍ يرغب عن العيش فيه يكون بنفس الدرجة قد فقد استحقاقه أن يكون هناك؛ لذا فإن هذا المكان لا يزعجني بقدر ما يزعجني منظرك، ولا ما أبحث عنه هو جدران مكتبتك المزينة بالزجاج والعاج، بل أبحث عن كرسي عقلك! ذلك هو المكان الذي أودعتُ فيه يومًا، لا كتبي، بل الشيء الذي يجعل للكتب قيمةً … الفلسفة التي تحتويها الكتب، الأفكار التي تكنزها.

أما ما ذكرته عن خدماتك للصالح العام فما أقلَّه بالقياس إلى ما قدَّمته حقًّا من جلائل الأعمال، وأما حديثك عن التُّهم المنسوبة إليك، سواء عن حق أو عن باطل، فقد سجَّلت فيه ما هو معروفٌ جيدًا، وأما عن جرائم الوشاة وأكاذيبهم الدنيئة فقد أصبت إذ مَرَرت عليها في عجالةٍ ما دامت تتردَّد على أفواه العامة أكثر إسهابًا وتفصيلًا، ولقد انتقدت بعنفٍ وقوةٍ جحود المجلس وظلمه، وتحدَّثت بأسى عن التهم التي طالت شخصي وذرفت الدموع للتشويه الذي نال سمعتي، وأخيرًا صَبَبت جامَ غضبك على القدر وشكوت مُرَّ الشكوى من أنه لا يُقدِّم الجزاء العادل بقدر الاستحقاق، وفي شعرك الختامي الغاضب دَعَوت مع ربات الشعر أن يكون السلامُ الذي يحكم السماء حاكمًا على الأرض أيضًا.

ولكن ما دمت الآن مضطربًا تعصف بك شتى الانفعالات، من حزنٍ وغضبٍ وكرب، وتذهب بك كل مذهب، فليس الآن وقت العلاجات القوية، بل دعني أستخدم أدويةً ألطف في البداية، كأني ألين بها ما تورم وصلب من أثر هذه الانفعالات المزعجة فتؤهِّله لتلقِّي الدواء الأشد قوة.»

١  بحلول القرن التاسع الميلادي كانت هذه القصيدة تراثًا موسيقيًّا يُغنَّى ويُنشد.
٢  أي الشمس، وهي مذكَّرٌ في اللاتينية، سواء كلفظ sol أو كإله (أبولو/فويبوس)، أما القمر فهو مؤنث في اللاتينية سواء كلفظ lune أو كإلهة — أخت فويبوس Luna/Phoebe.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤