المنصب والسلطة
وماذا عساي أن أقول عن السلطة والمنصب، اللذين يطاولان السماء في نظركم، لأنكم لا تعرفون السلطان والمنصب الحقيقيين، وهل بِوسع الحمم المتفجِّرة من بركان إتنا، أو بوسع السيل العرم، أن يسبِّب من الخراب ما يسببه هذان حين يقعان في أيدي الأشرار؟ ألا تذكر كيف سعى أسلافنا إلى إلغاء سلطة القناصل، التي كانت أُس الحرية ذاته، لما وجدوه من غرور القناصل؟ مثلما محوا لقب «ملك» من قبل لما وجدوه من غرور الملوك، فإذا تصادف، في حالاتٍ شديدة الندرة، أن تقع هذه المناصب لرجالٍ أمناء، فلا شك أن الخير الوحيد فيها إذَّاك هو أمانة الرجال الذين يتولون المناصب، يترتب على ذلك أن الشرف لا يأتي إلى الشريف من المنصب، بل يأتي إلى المنصب من الشريف.
لو كانت المناصب والسلطات خيرًا بطبيعتها وفي ذاتها لما وقعت في أيدي الأشرار، فالأضداد لا تجتمع أبدًا، والطبيعة لا تسمح للنقيض بأن يتصل بنقيضه، ومما لا شك فيه أن أسوأ الناس هم من يتولون المناصب في أغلب الأحيان، من الواضح إذن أن المناصب ليست خيرًا في ذاتها؛ لأنه ليس خيرًا بذاته ذلك الذي يرتبط بالأشرار ويُسلِم نفسه لهم.
والشيء نفسه ينسحب على ألوان الحظ الأخرى، التي تقع أكثر ما تقع في أيدي أشد الناس خبثًا وشرًّا.
ثمة نقطةٌ أخرى في هذا الصدد: لا شك أن الشخص يكون شجاعًا إذا وُجِدت فيه أمارات الشجاعة، ويكون سريعًا إذا تمتع بصفة السرعة، كذلك الموسيقى تجعل منه موسيقيًّا، والطب يجعله طبيبًا، والبلاغة تجعله خطيبًا؛ لأن من طبيعة كل شيءٍ أن يؤدي الدور الملائم له، ولا يختلط بأدوار أشياء أخرى مناقضة، بل يرفض الأضداد في حقيقة الأمر، غير أن الثروة لا يمكن أن تروي غُلَّة الجشع، والسلطة لا تجعل من المرء سيدًا على نفسه إذا كان يَرسُف في أغلال شهواته، وعندما يُوَسَّد المنصب إلى غير أهله، فإنه لا يجعل منه أهلًا على الإطلاق وإنما يفضحه لا أكثر ويكشف عجزه وتفاهته، لماذا كان ذلك؟ لأنكم تحبون أن تُسَمُّوا الأشياء بأسماءٍ زائفة لا تخصُّها، وسرعان ما ترفضها على المحكِّ خصائصها الحقيقية؛ لذلك فلا الثروة ولا السلطة ولا المنصب يَصِح أن تُسمَّى بهذه الأسماء، والنتيجة نفسها تنسحب على الحظ ككل، فليس فيه شيءٌ يستحق عناء السعي، وليس فيه أي شيء من الخير الذاتي، ذلك أنه لا يَئول دائمًا إلى الأخيار، ولا يجعل ممن يؤول إليهم أخيارًا.