الفصل العاشر

الله هو الخير والسعادة

«أما وقد رأيت صورة كلٍّ من الخير الناقص والخير الكامل، فأظن أن واجبي الآن أن أُبيِّن لك أين تُلتمس هذه السعادة الكاملة، وأعتقد أن أول سؤالٍ علينا أن نسأله هو ما إذا كان أي خير من هذا النوع يمكن أن يوجد في طبيعة الأشياء، وذلك حتى لا نضل عن حقيقة هذا الموضوع بتفكيرٍ عابثٍ لا أساس له، غير أنه لا مجال للشك في وجود هذا الخير وفي كونه المنبع الأساسي لكل خير؛ وذلك لأن كل ما يوصف بالنقص إنما يعتقد فيه ذلك بغياب الكمال، فإذا وجدنا في أي صنف من الأشياء جزئيًّا يبدو غير كامل فلا بد أن هناك أيضًا عينةً كاملة في الصنف نفسه، إذ لو حذَفْتَ الكمال لاستحال عليك أن تتخيل من أين يمكن أن يأتي ما يُسمَّى عينة غير كاملة، إن الطبيعة لا تبدأ من الذي هو أدنى وأنقص، بل من الكامل والمثالي، ثم تنحدر وتَتَنَكَّس إلى هذه الحالة الهابطة المهترئة، وحيث إننا أثبتنا لِتَوِّنا أن هناك سعادةً منقوصةً في الخير الزائل، فلا شك إذن أن هناك سعادةً حقيقيةً تامة.»

قلت: «وهو استنتاجٌ سليم وصادق.»

ف : «أما مسألة أين تُلتمس فينبغي أن تفكر فيها على هذا النحو: ينعقد اتفاق البشر جميعًا على أن الله، بارئ كل شيء، هو خير، إذ لا يمكن للعقل أن يتصور ما هو خيرٌ منه، وما لا يوجد خيرٌ منه لا بد من أن يكون هو نفسه خيرًا، ويتحقق فيه الخير الأكمل، وإلا لما كان هو بارئ الخلق ولكان هناك من هو أعلى منه وأكمل خيرًا وأكثرُ قِدَمًا؛ لأن الكامل أعلى بالضرورة من المنقوص، ومن ثم، لكي نتفادى التسلسل اللانهائي لا بدَّ لنا من أن نُسلِّم بأن الله الأعلى يتصف بأسمى خيرٍ وأكمله، وحيث إننا قد اتفقنا على أن الخير الكامل هو سعادةٌ كاملة، يترتب على ذلك أن السعادة الكاملة قائمةٌ في الألوهية.»
ب : «نعم، أوافقك على هذا القول، ولا يمكن أن يطعن فيه طاعن.»
ف : «ولكني أناشدك أن تتحقق من أنك توافق بلا قيدٍ وبلا تردد على ما قلناه من أن الله العلي يحوز أسمى خير.»
ب : «ماذا تقصدين؟»
ف : «ينبغي ألا تتصور أن الله، الذي هو مولى الأشياء جميعًا والذي نوقِن بأنه يحوز أعلى خير، أنه استمدَّ هذا الخير من خارج ذاتِه، ولا أنه يحوزه بطبيعته ولكن بطريقةٍ تجعلُك تفترض أن الله — الحائز — والسعادة التي يحوزها، هما جوهران مختلفان، فأنت إذا افترضت أنه تَلَقَّى الخير من خارج ذاته فإن لكَ أن تَعُد المعطي أعلى من الآخذ، بينما نحن قد اتفقنا، بحق، على أن الله هو أسمى الموجودات جميعًا، أما إذا افترَضْت أن الخير صفةٌ طبيعيةٌ لله ولكنها شيءٌ مُنمازٌ منطقيًّا عنه، فكلما تحدثنا عن الله كمصدرٍ للأشياء فمن ذا الذي يتصور وجود قوةٍ اضطلَعَت بضَمِّ هذه المتمايزات؟
وأخيرًا، إذا كان شيءٌ ما منمازًا عن شيءٍ آخر فإنه لا يمكن أن يكون هو ذات الشيء الذي ينماز عنه؛ وعليه فإن أي شيء يختلف بطبيعته عن الخير الأسمى لا يمكن أن يكون هو الخير الأسمى، وما كان لنا أن نقول ذلك عن الله الذي لا يعلو عليه شيءٌ مثلما اتفقنا.

إن من الممتنع على أيِّ شيءٍ أن يكون أفضل بطبيعته من ذلك المبدأ الذي صدر عنه، بوسعي أن أخْلُص من ذلك بمنطقيةٍ تامةٍ إلى أن ذلك الذي هو مصدر الأشياء جميعًا هو بذاته وبجوهره الخير الأسمى.»
ب : «حقٌّ تمامًا.»
ف : «ولكننا اتفقنا أن الخير الأسمى هو هو السعادة؟»
ب : «نعم.»
ف : «علينا أن نُسلِّم إذن بأن الله هو السعادة المطلقة.»
ب : «إن مقدماتك صادقةٌ لا تقبل الجدل، وهذا الاستنتاج يلزم عنها بالضرورة.»
ف : «انظُر أيضًا هل يَثبتُ ذلك على نحوٍ أقوى بالبرهان التالي: من المحال أن يكون هناك خيران مختلفان كلٌّ منهما متناهٍ في الكمال، فمن البَيِّن أنه إذا انفصل خيران فإن الواحد منهما لا يمكن أن يكون الآخر، وبالتالي لا يمكن أن يكون أيٌّ منهما كاملًا من حيث هو ينقصه الآخر، ولكن من الواضح أن ما هو غير كامل فهو ليس الأسمى، إذن من المحال أن يكون هناك أكثر من خيرٍ واحد متناهٍ في الكمال، غير أننا أثبتنا أن الله والسعادة كلاهما هو الخير الأسمى، يترتب إذن أن السعادة المطلقة والألوهة المطلقة هما شيءٌ واحد.»
ب : «لا يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر صدقًا من هذا الاستنتاج أو أشد تماسكًا منطقيًّا أو أليق بالله.»
ف : «بالإضافة إلى ذلك دعني أقدم لك «لازمة» corollary (أو «بوريزما» porisma باليونانية) مثلما يفعل الرياضيون في الهندسة إذ يستخلصون شيئًا جديدًا من «المُبرهَنَة» theorem التي تم إثباتها: بما أنه من خلال امتلاك السعادة يصبح الناس سعداء، وحيث إن السعادة، في الحقيقة، هي الألوهة، فمن البيِّن أنه من خلال امتلاك الألوهية يصبحون سعداء، وبالمنطق نفسه الذي يصبح به الناس عادلين بالعدل وحكماء بالحكمة، فإن أولئك الذين يمتلكون الألوهة يصبحون إلهيين، كل امرئٍ سعيدٍ هو إذن إلهي، وبينما الله وحده هو كذلك بالطبيعة فإن بوسع أي عددٍ تشاء من الناس أن يصبحوا إلهيين بالمشاركة.»
ب : «جميلةٌ حقًّا وَجِدُّ قيمةٍ هذه «اللازمة» سواء أعطيتها الاسم اللاتيني أو اليوناني.»
ف : «ولكن الأجمل هو ما يقودنا المنطق إلى إضافته إلى كل هذا.»
ب : «ماذا؟»
ف : «هل جميع هذه الأشياء، الاكتفاء، والقوة، وما شئت، هي كالأجزاء التي تشكِّل في اجتماعها جسدًا واحدًا وإن تعدَّدَت واختلفت الواحدة عن الأخرى؟ أو أن هناك واحدةً منها يمكن أن تقدم جوهر السعادة، وتصنَّف تحتها البقية؟»
ب : «هل يمكن أن توضحي لي السؤال بأن تكوني أكثر تحديدًا؟»
ف : «حسنًا، ألم نعتبر السعادة خيرًا؟»
ب : «بلى، الخير الأسمى.»
ف : «بوسعِك أن تقول الشيء نفسه عنها جميعًا، فتحكُم بأن الاكتفاء التام هو السعادة، وكذلك القوة، والاعتبار، والمجد، والمتعة، حسن، السؤال هو: هذه الأشياء جميعًا — الاكتفاء، القوة، … إلخ — أهي خيرٌ كما لو أن السعادة جسدٌ هي أعضاؤه، أم أن الخير شيءٌ يعلو عليها وتنتمي هي إليه؟»
ب : «أفهم الأمر الذي تقترحين أن نبحثه، ولكني مشوقٌ لسماع ما لديك بشأنه.»
ف : «أريدُك أن تأخذ التفسير التالي: إذا كانت هذه الأشياء جميعًا تتصل بالسعادة كما ترتبط الأعضاء بالجسم، ستكون مختلفةً الواحدة عن الأخرى؛ لأن طبيعة الأجزاء أن يكون الجسم واحدًا بينما الأجزاء التي تكوِّنه متعددة، ولكننا أثبتنا أن كل هذه الأشياء متماهية، إذن هي ليست كالأعضاء، أضف أن ذلك سوف يُظهِر السعادة كأنها جسدٌ مكوَّنٌ من عضوٍ واحدٍ وهو مستحيل.»
ب : «لا شك في ذلك، ولكني مشوقٌ لما سيُفضي إليه.»
ف : «من البيِّن أن الخصائص الأخرى تصنَّف تحت الخير، فالناس لا يسعون إلى الاكتفاء إلا لأنهم يرونه خيرًا، ولا يسعون إلى القوة إلا لأنهم يعتبرونها خيرًا، والشيء نفسه ينسحب على الشرف والمجد واللذة.
السبب الرئيس إذن لطلب هذه الأشياء جميعًا هو الخيرية؛ لأن ما ليس خيرًا لا يمكن لأحدٍ أن يرغب فيه، وإذا كان الناس يتوقون أحيانًا إلى ما ليس خيرًا فلاعتقادهم الخاطئ أنه خير.

ينتج من ذلك أن هناك مبرِّرًا لأن نعتقد أن الخير هو النقطة المحورية التي تتعلق بها كلُّ المساعي والدوافع، فالرغبة الحقة إنما هي في الشيء الذي يدفع الناس إلى طلب هذا الشيء أو ذاك: فالذي يريد أن يمارس الفروسية من أجل الصحة الجيدة فإنه لا يرغب في حركة ركوب الخيل بحد ذاتها بل يرغب بالأحرى في الصحة التي يُحصِّلها من ذلك، وما دام الناس يرغبون في كل الأشياء من أجل الخير الذي فيها، فلا أحد يرغب فيها بقدر ما يرغب في الخير نفسه، ولكننا اتفقنا أن الغاية من طلب الأشياء هي السعادة، إذن من الواضح البيِّن أن الخير ذاته والسعادة متماهيان.»
ب : «هذا كلامٌ لا يقبل الطعن.»
ف : «ولكننا أثبتنا أن الله والسعادة شيءٌ واحد.»
ب : «نعم.»
ف : «للمرء إذن أن يستنتج أن جوهر الله أيضًا إنما يكمن في الخير نفسه وليس في أي شيءٍ آخر.»
هلموا إليَّ يا كل أسارى الرغبة،
المُصفدين في أغلالها الفَظَّة،
تلك الشهوات الغادرة التي تُعشِّش في العقول الأرضية،
هنا سوف تجدون انعتاقًا من العَنَت المُضني
تجدون مرفأً راقدًا في حضن السكينة،
وملاذًا مُرحبًا بكل المُعذَّبين.

•••

ولا رمال تاجوس الذهبية،
ولا شواطئ هيرموس الوضاءة،
ولا سواحل إندوس الملتهبة،
تَنثرُ الجواهر اختلطَ أخضرها بأبيضها
يمكن أن تهب النور لأي روح؛
بل تطمرها في غياباتها المعتمة
كل ما يخلب الألباب، ويخطف الأبصار
إنما تنضجه الأرض في كهفوها السفلى،
بينما النور البهي الذي تسير به السماء وتحيا،
ينأى عن هذه الأرواح المظلمة الخربة،
هذا هو الضياءُ الحق، مَن يَبصُر به
سيقول ما للشمس خبا ضياؤها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤