الفصل الثاني عشر

الله يُدبر العالم بالخير

عندئذٍ قلت: أتَّفق مع أفلاطون كل الاتفاق، فهذه هي المرة الثانية التي ذكَّرتني فيها بهذه الأمور: فقد نَسيتُها أول مرةٍ بتأثير الجسد، ونسيتُها مرةً ثانيةً حين أخنى عليَّ الحزن.

ف : «إذا رجعتَ إلى ما اتفقنا عليه سابقًا، فسوف تتذكَّر بسهولةٍ ما قلت الآن إنك نسيتَه.»
ب : «وما هو؟»
ف : «الطريقة التي يُدبَّر بها العالم.»
ب : «نعم، أذكر أني قد اعترفت بجهلي، ورغم أن لَدَيَّ حدسًا بما سوف تقولين فإنني مشوقٌ إلى أن أسمعه منك بوضوحٍ أكثر.»
ف : «منذ قليل قلت إنك لا يُخامرُك أدنى شك في أن هذا العالم يُدبِّره الله.»
ب : «وما أزال أقول بذلك وسأظل دائمًا أقول به دون أدنى شك، وسأوجز لك حُجتي في هذا الشأن:١ ما كان لهذا العالم أن يتشكل في صورةٍ واحدةٍ من أجزاءٍ متفرقةٍ متضادة لو لم يكن هناك من يُوحِّد مثل هذا التنوع ويضُمُّ معًا مثل هذه الأجزاء المختلفة، وهي إذ تتحد فإن اختلاف طبائعها نفسه وتنافرَها فيما بينها كفيلٌ بإفساد تآلفها وتمزيقها إربًا إربًا لو تُرِكت لشأنها ولم يُمسك بها من جَمَعَها ويحافظ على تماسك ما نَسَجَ من قبل. إن نظام الطبيعة الثابت لا يمكن أن يمضي في طريقه ويؤتي ضروبًا من الحركة المنتظمة، في المكان والزمان والتأثير والمسافة والخصائص ما لم تكن هناك قوةٌ ثابتة لا تتحرك لكي تنظمها، للإشارة إلى هذه القوة، أيًّا ما تكون، التي تُبقي الخلق في وجودٍ وفي حركة، أستخدم الكلمة التي يستخدمها الناس جميعًا: الله.»
ف : «ما دمت ترى هذا فلم يبقَ لي ما أفعله قبل أن تعود إلى وطنك الحقيقي سالمًا آمنًا والسعادةُ ملك يديك.
ولكن دعنا ننظر في الحُجج التي طرحناها، تحت السعادة أدْرَجنا الاكتفاء، أليس كذلك؟ وقد اتفقنا على أن الله هو السعادة نفسها؟»
ب : «نعم.»
ف : «لذا فإنه في تدبيره للكون لا يحتاج إلى مساعدةٍ من الخارج وإلا ما كان مكتفيًا بذاته.»
ب : «هذا مترتِّبٌ بالضرورة.»
ف : «إذن هو يدبر كل الأشياء بنفسه؟»
ب : «نعم بلا شك.»
ف : «وقد أثبتنا أن الله هو الخيرُ ذاتُه.»
ب : «نعم، أذكر ذلك.»
ف : «إذن هو يدبر كل الأشياء بالخير ما دام يدبرها بنفسه وقد عرفنا أنه هو الخير، وهذه إذن هي «الدَّفَّة والسُّكَّان»، إن صحَّ التعبير، التي تُدار بها آلة العالم سالمةً آمنة.»
ب : «أوافق بشدة، وهذا بالضبط ما كنت أتوقع أنكِ ستقولينه بالرغم من أنني لم أكن موقنًا من حدسي.»
ف : «أُصدِّقُك، فأنت الآن فيما أرى تحتشدُ وتَحُد البصر لرؤية الحقيقة، على أن ما سأقوله ليس يخفَى على البصر.»
ب : «وما هو؟»
ف : «أما وقد تَحَقَّقنا من أن الله يُسيِّر الأشياء جميعًا بمِقوَد الخيرية، وأن الأشياء جميعًا، كما قلت، لديها نزوعٌ طبيعي نحو الخير، فلا مَحَل للشك بأنها تسعى بملء إرادتها وتمتثلُ طواعيةً لإرادة ربانها ومدبِّرها الأعلى.»
ب : «هو ذاك يقينًا؛ إذ لن تبدو قيادةً سعيدةً إذا كانت نيرًا مفروضًا على رقابٍ مكرهةٍ لا تسليمًا راضيًا مرضيًّا.»
ف : «لا يمكن لأي شيءٍ، إذن، أن يَعصِي الله ويكون مخلصًا لِفطرتِه.»
ب : «لا يمكن.»
ف : «وإذا أراد العصيان فلن يربح في النهاية؛ حيث إنه يعصي من تبيَّنا أنه أعلى سلطةٍ فيما يتصل بالسعادة.»
ب : «لن يربح بكل تأكيد.»
ف : «أيكونُ ثمة من شيءٍ، إذن، يمكن أن تكون لديه الإرادة أو القدرة على مناوأة الخير الأسمى؟»
ب : «لا أعتقد.»
ف : «إنه الخيرُ الأسمى، إذن، ذاك الذي يدبر كل شيءٍ بقدرةٍ ورأفة.»
ب : «ما أسعدني بحديثك، بما برهنتِ عليه بأقوى الحجج، وعلى الأخص بأسلوبك في البرهان،٢ إنه ليجعلني أخجل الآن من كل شكاياتي المُتبجِّحة الحمقاء.»
ف : «لا شك أنك سمعت في الميثولوجيا كيف شرع المَرَدَة يهاجمون السماء، لقد كانت هذه القوة الرحيمة ذاتها هي ما رَدَعَهم كما ينبغي وردَّهم عن غَيِّهم، ولكن، هل تَوَد أن أطرح مفارقةً، أو تضاربًا في الحجج، لعل اصطدامًا من هذا النوع أن يولد شررًا جميلًا من الحقيقة؟»٣
ب : «كما شئت.»
ف : «لا يشك أحد في أن الله شامل القدرة omnipotent
ب : «لا يشك عاقلٌ في ذلك على الإطلاق.»
ف : «ومن حيث هو كلي القدرة فهل ثمة شيءٌ لا يستطيع فعله؟»
ب : «لا شيء.»
ف : «فهل يستطيعُ الله أن يفعلَ الشر؟»
ب : «لا.»
ف : «إذن الشرُّ لا شيء؛ لأنه ذلك الذي لا يقدر على فعله مَن يقدر على كلِّ شيء.»٤
ب : «إنك تُداورينني، أليس كذلك؟ بنسج متاهةٍ من الحُجج لا أعرف كيف أخرج منها، فمرةً تدخلين من حيث تخرجين من بعدُ، ومرةً تخرجين من حيث تدخلين، أم تراك تعقِّدين حلقةً عجيبةً من بساطة الألوهية؟ فمنذ قليل بدأت بالسعادة وقلت إنها في الله، ثم بدأت تُحاجِّين بأن الله نفسه هو أيضًا الخير الأسمى والسعادة الكاملة، ثم دفعت لنا بنفحةٍ ما حين قلت بأن المرء لا يكون سعيدًا ما لم يكن أيضًا إلهيًّا. لقد قلت إنَّ كُنْه الخير نفسه يتماهى مع جوهر الله وجوهر السعادة، ولقَّنتني أن الوحدة نفسها هي الخير نفسه لأن الأشياء جميعًا تنزع بطبيعتها إلى الوحدة، ثم قلت بأن الله يدبر ويُسيِّر الكون بمقود الخيرية، وأن جميع الأشياء تمتثل طائعةً، وأن الشر لا شيء، كل أولئك تبسطينه من دون أي عونٍ خارجي، بل يلتحم كل برهانٍ بالآخر ويستمد مصداقيته من سابقه.»
عندئذٍ أجابت: «ما كنت هازئةً بك. بفضلٍ من الله الذي دعوناه، منذ لحظةٍ وصلنا إلى أسمى الأشياء جميعًا؛ إن صورة الجوهر الإلهي تقتضي ألا يذوب في خارجه ولا يستمد شيئًا مما سواه، وكما يقول بارمنيدس Parmenides «مثل كرةٍ مُحكمة الاستدارة».
يدير كرة الكون ويبقى هو ثابتًا، فإذا كنتُ أتناول حججًا لا تُستمد من الخارج بل من داخل حدود المسألة المطروحة فلا عجب في ذلك. لقد تعلَّمت على عُهدة أفلاطون أن علينا أن نستعمل لغةً مثيلةً بموضوع الخطاب.»٥
سعيدٌ هو الإنسان الذي أمكنه
أن يشاهد النبع البللوري للخير،
أن يتخلَّص من أغلال المادة والأرض ويتركها وراءه.
قديمًا عندما شرع أورفيوس يندب زوجته التي غيَّبها الموت
انسابت أنغامه الشجية فتحركت لها الأشجار لتتبعه،
وتوقَّف مجرى الأنهار عنده،
وجعلت الأيائل تُرافق الأسود الضواري دون وَجَل،
والأرنب ينظر مطمئنًّا إلى كلب الصيد
المُخدَّر الآن بصوت الموسيقى،
ولكنه وقد أذابت قلبه لوعة الفراق،
والتَعَجَت في أحشائه نيران الأسى،
فإن نشيده الذي أخضع لسلطانه كلَّ شيء
لم يَشفِ غُلَّة مُنشده نفسه!
فشكا قسوةَ الآلهة في الأعالي،
ودنا إلى العالم السفلي للموتى،
هناك جعل يضرب على أنغامٍ ناعمةٍ مهدِّئة،
ويُرتل أناشيد استقاها قديمًا من نبع أمه٦ الأصيل،
لقد منحه حزنه الجارف قوةً،
وضاعف حُبُّه من قوةِ حزنه؛
فحرك بكاؤه أعماق الجحيم
وتضرَّع إلى سَدَنة العالم السفلي أن ترحمه.
وقف كيربيروس٧ الحاجب ذو الرءوس الثلاثة
مشدوهًا مأسورًا بسحر النغم،
أما آلهة الانتقام
التي تُلقي الرعب في قلوب المذنبين،
فقد فاضت أعينها من الدمع،
وتوقَّفت عجلة إكسيون،٨
ونَسِي تانتالوس٩ عطشه وازدرَى الماء الجاري،
وانشغَلَ النسرُ بالأنغام،
فكَفَّ برهةً عن نهش قلب تيتيوس،١٠
وأخيرًا صاح بلوتو ملك العالم السفلي بصوتٍ متهدِّج:
«لقد استسلمنا … خُذ معك زوجتك فقد فديتَها بأغنيتك،
ولكنَّ نعمتنا مشروطةٌ بشرطٍ واحد:
ألَّا تنظر وراءك إليها
حتى تُغادر هذه الدور المظلمة.»
ولكن … مَن ذا الذي يمكن أن يُقيِّد الحب بقانون؟!
الحب قانونُ نفسه.
وا أسفاه، فما كاد يبلغ أورفيوس تخوم عالم الظلام
حتى التفت وراءه ونظر إلى يوريدبكي،
فخسرها وخسر نفسه.

•••

عنك أيضًا تتحدث هذه الأسطورة،
أنت يا مَن تبتغي أن تحدو أفكارك إلى النور العلوي
فكل من يستسلم للرغبة
ويحوِّل بصره عن السماء إلى الظلام الأرضي،
فإنه في هذه اللحظة
يخسر الجائزة التي حازها،
ويفقدُ كلَّ ما عساه أن يصعد معه.١١
١  في هذه الفقرة يقدم بوئثيوس برهانه على وجود الله في أتم عرضٍ وأحكمه.
٢  أي بالألفاظ ذاتها التي اتخذتها في البرهان، ويذهب كثيرٌ من الشراح إلى أن في هذه العبارة صدًى مسيحيًّا واضحًا، من حيث إنها تُذكِّر «بوئثيوس» بأقوال الكتاب المقدس وآباء الكنيسة.
٣  تكرار لما سبق أن قلناه في حاشية سابقة عن معنى المفارقة وأهمية دراسة المفارقات (… تضطَّرنا إلى مراجعة مفاهيمنا، ويتطلب حلُّ كل مفارقة جهدًا لا نفرغ منه إلا وقد تَكَشَّف لنا شيءٌ في تفكيرنا الاستدلالي لا نفهمه).
٤  انظر تعليقنا على هذه الحجة ومثيلاتها في الدراسة الملحقة بالنص، تحت عنوان «مآخذ وانتقادات».
٥  انظر تعليقنا على هذه القاعدة الأساسية في الدراسة الملحقة، تحت عنوان «مسيحية بوئثيوس».
٦  ربة الفن «موسا» كاليوبي Calliope راعية الشعر الملحمي.
٧  كيربيروس كلب ذو رءوس ثلاثة، هو حارس بوابة العالم السفلي.
٨  عُوقب إكسيون على جرائمه بربطه بعجلة دوَّارة للأبد.
٩  عُوقِب تانتالوس على جرائمه بأن يكون في جوعٍ وعطشٍ دائمَين رغم أنه محاطٌ بالثمار والماء الجاري، وكلها تفلت دائمًا من بين أصابع يده.
١٠  عُوقب تيتيوس العملاق على جرائمه بأن قُيِّد إلى الأرض وتظل النسور تلتهم أحشاءه.
١١  تتحدث الأسطورة عن هبوط المُغني الطراقي أورفيوس إلى العالم السفلي في محاولةٍ لاسترداد زوجته يوريديكي التي ثَكلها، حيث فَتن بغنائه حارس البوابة كيربيروس، الكلب ذا الرءوس الثلاثة، وتأثرت بنغمه آلهة الانتقام فكفَّت عن تعذيب إكسيون وتانتالوس وتيتيوس، ولما انتهك أورفيوس شرط بلوتو، إله العالم السفلي، بأن نظر خلفه إلى يوريديكي، فقد فقدها في آخر لحظة.
والقصيدة تُهيب بالمتلقِّي «بوئثيوس» أيضًا أن يبقى حذرًا حتى النهاية، وألا يفقد صلته بالخير الشامل وإلا فإنه يخسر حتى ما حصله من خيراتٍ جزئية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤