الفصل الثاني

الخير الأسمى

وقفت السيدة مطرِقةً إلى الأرض كأنها تَرُود من فِكرِها أعماقًا قصيَّة، ثم استأنفت حديثها قائلةً: إن سعي الفانين، الذي يَكْرِبهم بتنوع أهدافه واتجاهاته، إنما يمضي بهم في دروبٍ مختلفةٍ قاصدًا في النهاية إلى هدفٍ واحدٍ وهو السعادة،١ إنها الخير الذي إذا بَلَغه الإنسان لم يَسَعه أن يصبو إلى أي شيءٍ آخر، وهي إذن الخيرُ المكتمل الأسمى الذي ينطوي في داخله على كل ألوان الخير؛ لأنه لو افتَقَر إلى أي شيء لما كان الخير الكامل، إذ يبقى هناك شيءٌ خارجه قد يكون مرغوبًا، السعادة إذن هي حالةٌ من كمال الخير، لاحتوائها على كل ما هو خير، والتي يسعى إليها، كما قلت، جميع البشر الفانين وإن تعدَّدت الطرق، ذلك أن الرغبة في الخير الحقيقي هي شيءٌ متأصِّلٌ بالطبيعة في نفوس البشر، وما يَطِيش بهم عن هذا الهدف إلا الخطأ والسير في الدروب الضالَّة إلى الخيرات الزائفة.٢

يرى البعض أن الخير الأسمى هو ألا يحتاجَ المرءُ إلى شيءٍ ولا يَنْقُصَه شيءٌ، ومن ثم فقد غذُّوا السير لامتلاك الثروة الوفيرة، ويرى البعض الآخر أن الخير الحقيقي هو ذلك الذي ينتزِع التبجيل والتوقير، ومن ثم سعوا إلى المنصب الذي يَكفُل لهم احترام مواطنيهم، وقرَّر البعض أن أعلى خيرٍ يكمن في أعلى قوة، ومن ثم فقد سَعَوا إلى أن يصبحوا هم أنفسهم حُكامًا أو أن يكونوا على صلة بمن هو في مواقع السلطة، ويذهب آخرون إلى أن خير شيءٍ هو الشهرة والمجد، ويكدُّون أنفسَهم لبناء اسمٍ كبيرٍ في دنيا الفنون — فنون السلم أو فنون الحرب.

إلا أنهم جميعًا بلا استثناء يَتَّفِقون على أن الخيرَ يُقاس محصوله باللذة والمتعة التي يَجلُبُها، وأن الإنسانَ الأسعد هو إنسانٌ يَتَقلَّب في المتعة.

وهناك بَعْدُ مَن يخلطون بين الغايات والوسائل في هذه الأشياء، كالذي يرغبُ في الثروة من أجل القوة واللذة، أو يرغب في السلطة من أجل المال والمجد.

في هذه الأهداف إذن وفي أمثالها، يكمن الهدفُ من أفعال البشر ومَهْوَى قلوبهم: الشهرة والشعبية التي تضفي نوعًا من التميز، أو الزوجة والأبناء، وهي ما يطلبه الرجال من أجل المتعة التي تمنحها، أما عن الصداقة فإن الصنف النقيَّ النزيه منها يُعَد أعلى ضروب الخير وأقدسها، وما عدا ذلك يلحق بالرغبة في القوة أو التسلية.

من الواضح أيضًا أن المزايا الجسدية قد تُنْسب إلى ضروب الخير السابقة: فقوة الجسم وحجمه يمنح الرجل بأسًا، والجمال والسرعة تمنحانه الشهرة، والصحة تمنحه المتعة.

يرى كلُّ إنسان أن ما يرغب فيه فوق كل ما عداه هو الخير الأسمى، ولقد عرَّفت الخير الأسمى للتو بأنه السعادة، إذن فإن الحالة التي يرغب فيها كلُّ إنسانٍ فوق غيرها هي الحالة التي حَكَمَ بأنها حالة السعادة؛ الثروة، المنصب، السلطة، المجد، اللذة، وقد ذهب أبيقور Epicurus، بالنظر إلى هذه الحالات وحدَها، وباتساقٍ تام، إلى أن اللذة هي الخير الأسمى ما دام كلُّ ما عداها يدخل في بابها من حيث إنه يجلب إلى النفس اللذة.

ولكن لِنَعُد إلى نزعات الناس: إن عقولهم تبدو ساعيةً إلى أسمى خير، وذاكرتهم تبدو كليلةً، فهم أشبه برجلٍ ثملٍ يريد العودة إلى بيته ولكنه لا يتذكر الطريق إليه، لا يمكن لأحدٍ أن يقولَ إنَّ مَن يسعون إلى سد جميع احتياجاتهم هم على خطأ، فالحق أنه ليس أدْعَى إلى السعادة من حالةٍ تتوافر فيها للمرء كل الخيرات ويتحقق له فيها الاكتفاء وانتفاء الحاجة، ولا أحد يمكن أن يُخطِّئ مَن يَرَون أن أحظى الناس بالتبجيل والتوقير هو أفضلهم، فالجلال والرِّفعة ليسا بالشيء الهمل وبلوغُهما هو هدفٌ يكدح إليه كل البشر تقريبًا.

السلطة أيضًا ينبغي أن تُعَد ضمن الأشياء الخيِّرة، فمن ذا الذي يقول إنَّ الشيء الذي يسلِّم الجميع بأنه أعلى الأشياء قاطبةً هو شيءٌ هينٌ أو واهٍ؟

والشهرة كذلك لا يمكن إغفال قيمتها؛ لأن كل ما هو عظيم الامتياز هو أيضًا عظيم الشهرة.

ومن فضول القول إن السعادة هي حالةٌ تخلو من الهم والحزن والأسى والمعاناة، إذ إنه حتى في أصغر الأمور يسعى المرء إلى ما يَبهَج به ويستمتع.

تلك إذن هي الأشياء التي يَتُوق الناس إليها: الثروة، مناصب الشرف، المُلك، المجد، المتعة، وهم يَتُوقون إليها لأنهم يَرَون أنهم من خلالها سوف يجدون الإشباع والاعتبار والسلطة والمجد والسعادة، هذا هو الخير الذي يبحث عنه الناس في مساعيهم المتنوعة، وليس من العسير أن تكشف دور الطبيعة في ذلك، فعلى الرغم من تنوع آراء الناس واختلاف مشاربهم فإنهم جميعًا على اتفاقٍ في الهدف الذي ينشدونه، وهو الخير الأسمى.

يطيب لي أن أُنشد نغمًا شجيًّا على أوتارٍ وئيدة،
كيف تُمسِك الطبيعة الجبارة بأَزِمَّة الأشياء؟
وبأية قوانين تحفظ العناية هذا العالم المترامي،
وتكبح الأشياء بأرسانٍ لا تنفلت،
وتوثق كل شيءٍ بوثاقٍ لا انفصام له.

•••

قد يلبس أسدُ قرطاج سلاسل الأسر المزركشة،
ويتناول لُقَم الطعام المقدَّم باليد،
ويهاب مُرَوِّضه الفظَّ وسوطه الذي يعرفه جيدًا
ولكن دَع الدم مرةً واحدةً يمس فكَّه المُشعر
هنالك تعود إليه روحه الكامنة،
وبزئيرٍ عميقٍ يتذكَّر ذاتَه القديمة،
ويكسرُ الأغلالَ عن عنقه،
ويكون مَرَوِّضه هو أول مَن تمزقه أنيابه الضارية،
ودماؤه الطازجة المتفجرةُ تُصعِّد الشِّرة العائدة.

•••

الطائر الذي كان يُشقْشِقُ ويزقزق على أعلى الغصون،
أُخِذ من الشجرة إلى القفص
أكوابُ العسل لديه،
ولديه موفورُ الوجَبات … والملاطفات،
ولكنه كلما رفرف إلى أعلى قفصه،
ولمحَ ظلالَ الغابات التي يَهْواها
بعثر الطعامَ وداسَه،
فليس غير الغاب ما يَشْوقُه في أساه،
وليس لغير الغاب يُرسِل هَمَساته العذبة.

•••

الغصن الأُملود الذي أَلْوَت به اليد بقوة،
وبلغت بقمتِه إلى الأرض،
ما أن تُرفع عنه يد الإرغام،
حتى يرتدَّ إلى أعلى ويَشْخَص إلى السماء.

•••

يهبطُ فويبوس (الشمس) في الأمواج الغربية،
ولكنه عبر مَمَره السِّرِّي المجهول،
يعود مستديرًا بعربته مرةً أخرى إلى مشارقه المعتادة.

•••

كلُّ شيءٍ لا بد أن يعود إلى سبيله الصحيح،
ويبتهج بعودته،
فلا شيء يمكن أن يحفظ النظام الذي أُودعه،
ما لم يربط مبدأه بمنتهاه،
ويصنع فَلَكه الدائري الثابت.
١  لاحظ أن كلمة «سعادة» eudaimonia, beatitude لا تعني عند اليونان مجرد «حالة نفسية» بهيجة، إنها بالأحرى «حالة حياتية»: أن تكون سعيدًا تعني أن تعيش حياةً ذات قيمة، وقد تَصَوَّرها أرسطو كممارسةٍ نشطةٍ لقوى النفس وفقًا لما يُمليه العقل، واليوديمونيا تُتَرجم عادةً إلى «السعادة» happiness غير أنها تشتمل أيضًا على متضمنات كلمة «نجاح» success؛ لأنها تتضمن، إلى جانب العيش الصحيح، الفعل الصحيح، واليوديمونيا حالةٌ تامة مكتفية بذاتها لا ترمي إلى أي غايةٍ خارجةٍ عنها، فهي إذن تتسم داخلها كلَّ ما يُطلب كغايةٍ في ذاته، ومِن ثَمَّ فهي تتضمن اللذة ولكنها تتجاوزها، وفي «الأخلاق النيقوماخية» يُمجِّد أرسطو حياة البحث بوصفها التحقق الأصيل لليوديمونيا، وإذا كان أرسطو يذهب إلى أن السعادة، التي هي غاية الفعل، هي نفسها أفعال تمليها الفضيلة ويمليها العقل، فإن بوئثيوس يرى السعادة، أو الخير، واقعًا قائمًا بذاته على مستوًى أعلى من الوجود الأرضي.
٢  قريبٌ من ذلك، بعض الشيء، قول المتنبي:
وكلٌّ يرى طُرْق الشجاعة والندَى
ولكنَّ طبعَ النفسِ للنفس قائدُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤