الفصل الرابع

المناصب والتبجيل

قلت: «غير أن مناصب الشرف تجعل من يَتَسنَّمها مرموقًا وموقَّرًا من الناس.»

فأجابت: «فهل في هذه المناصب قدرةٌ حقًّا على أن تَغْرِس الفضائل في نفوس أصحابها أو أن تقتلع الرذائل منها؟ كلا … بل العكس هو الصحيح، فالأغلب أنها لا تقتلع الرذائل بل تكشفها وتخرجها إلى وضح النهار؛ لذا تجدنا نغضب ونَسخَط إذ نرى المناصب تَؤُول في الأغلب إلى أشد الناس لؤمًا وأكثرهم شرًّا، هذا ما دفع كاتولوس Catullus إلى أن يسمي نونيوس Nonius ﺑ «الورم»، على الرغم من المنصب الرفيع الذي كان يتربَّع عليه.
ألا ترى أن المناصب لا تزيد الأشرار إلا خزيًا؟ وأن تفاهتهم ما كانت لتتكشَّف للملأ لولا شهرة المنصب؟ أنت نفسك، هل كان بوسع أي قوةٍ أن تدفعَك إلى مزاملة ديكوراتوس Decoratus حين تستعيد في ذهنك كم كانت نفسه دنيئةً وكم كان مهرِّجًا واشيًا؟ … لا، ما كان لنا أن نُوقِّر للمنصب مَن ليس أهلًا للمنصب! بينما لا يسَعُنا إزاء من أوتي الحكمة سوى أن نراه أهلًا للتبجيل، أو أهلًا، على أقل تقدير، للحكمة التي أُوتِيها، أليس كذلك؟»
ب : «بلى.»
ف : «ذلك أن للفضيلة قيمتها الذاتية التي تنتقل مباشرة إلى كل من يمتلكها، أما المناصب العامة فليست من ذلك في شيء، ومن البَيِّن، إذن، أنها تفتقر إلى أي جمالٍ أو قيمةٍ في ذاتها، ثمة نقطةٌ أخرى ينبغي التركيز عليها بشكلٍ خاص: وهي أن المرء يزداد خزيًا كلما ازداد عدد الذين يزدرونه من الناس، وحيث إن المنصب الرفيع يضع المرء نصب أعين الناس ولا يملك في الوقت نفسه أن يسبغ قيمةً على فاقدها، فالمنصب أجدر، من ثم، أن يجعل صاحبه في وضعٍ أشد زراية! إنه وضعٌ يحمل معه عقابه: فالأشرار يضفون صفتهم المقيتة على مناصبهم التي يتولونها: فيُدنِّسونها بدَنَسهم ويشِينونها بشَيْنِهم.
أريدُك أن تُدرِك أن الاحترام الحقيقي لا يأتي من هذه المفاخر الوهمية، هَبْ رجلًا تَقَلَّد منصب القنصل مراتٍ عديدةً في روما، ثم رمت به الظروف في بلاد البرابرة، تُرى هل تجعله مناصبه موقرًا من جانبهم؟ فلو أن الوقار صفةٌ طبيعيةٌ في المناصب لما فارقها في أي مَحَلٍّ من العالم، تمامًا مثلما أن النار حارةٌ في أي مكان من الأرض، ولكنه ليس صفةً طبيعية وإنما تلصقه بالمناصب آراء البشر الزائفة، ومن ثم يزول عنها بمجرد أن يوضع أصحابُها بين أناسٍ لا يقيمون لها وزنًا.

هذا ما يكون بين الأجانب، ولكن هل يدوم مجد المناصب إلى الأبد في بلدها الأصلي؟ انظر كم كان عظيمًا شأن البريتور١ في روما القديمة، ولكنه اليوم لا يعدو أن يكون لقبًا فارغًا وعبئًا ثقيلًا على دخل أي رجلٍ من طبقة القناصل، كذلك كان متعهِّد الغلال، ولكنه اليوم في أدنى مكان، فكما قلت منذ هنيهة: إذا لم يكن للشيء جمالٌ بذاته فإن كرامتَه تتفاوت باختلاف الأوقات وفقًا لرأي المعنيين به.

إذا كانت المناصب إذن لا تجعل أحدًا جديرًا بالإجلال، وإذا كانت فوق ذلك تتلوث باتصالها بالأشرار، وإذا كان بريقها يخبو بتغير الزمن، وإذا كانت قيمتها تقل في تقدير الأمم الأخرى، فبربك قل لي أي جمالٍ يمكن أن تُسبغه المناصب على الناس، بل أي جمالٍ فيها، هي ذاتها، يستحق الطلب؟»
رغم أن نيرون المغرور كان يَرْفُل في ثيابه الأرجوانية
المرصعة باللآلئ البيضاء الثلجية،
فقد كان هذا المترفُ الوحشيُّ بغيضًا إلى الجميع،
ولكنه كان يُقلِّد مناصبه المشينة أحيانًا شيوخًا أَجِلاء
مَن إذن يمكن أن يعُدَّهم مُكَرَّمين
أولئك الذين يدينون بمكانتهم العالية لمثل هذا الوغد.
١  البريتور Praetor هو الحاكم القضائي عند الرومان، ومنصبه يأتي بعد القنصل الروماني أي رأس السلطة التنفيذية، ومهمته القيام على العدالة والتشريع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤