الفصل الأول

لماذا يزدهر الأشرار؟

أنْشَدَت «الفلسفة» هذه الترنيمة الشجية الرقيقة بجلالٍ ورصانة، غير أني لم أكن قد نسيت بعدُ ما يعتلج بصدري من الأسى، فعاجلتها وهي تهُم باستئناف حديثها قائلًا: «أنت أيتها المُبَشِّرة بالنور الحق، كل ما أفضيتِ به حتى الآن يبدو مُلهمًا لمن يتأمله وبالغ الحجة لمن يتمعَّن فيه، لقد ذكَّرتني بما أنسانيه الحزن الذي ران عليَّ لما لقيت من الظلم، وكنت أعرفه قبل ذلك حق المعرفة، إلا أن علة حزني الحقيقية هي هذه: أن أرى الشر قائمًا في عالمٍ يدبِّره إلهٌ خيِّرٌ، بل أجد هذا الشر يمضي في طريقه بغير عقاب، ألا تبدو لك هذه الحقيقة وحدَها مثيرةً حقًّا لكل عجب؟»

غير أن هناك شيئًا لعله أكثرُ عَجَبًا من ذلك؛ وهو أن الشر حين يَسُود ويزدهر فإن الفضيلة تمضي بغير جزاء، بل يدوسها الأشرار بأقدامهم، وينالها العقاب بدلًا من أن ينالهم، فأن يحدثَ هذا في مملكة إلهِ شامل العلم وشامل القدرة ولا يريد إلا الخير، فليس شيءٌ أدعى من ذلك إلى الشكاة والحيرة.

فأجابت: نعم، كم يكون أمرًا بالغ الغرابة والبشاعة حقًّا لو أنه مثلما حسبت، لكأني به أشبه بدارٍ مرتَّبةٍ لسيدٍ جليلٍ يُعتنى فيها بالصحون الرخيصة بينما تُهمَل النفائس ويعلوها القذَرُ! ولكن الأمر ليس كذلك، فإذا صحَّت الاستنتاجات التي انتهينا إليها، ولو تأمَّلت فيها جيدًا لتعلَّمت من الخالق نفسه، الذي نتحدث الآن عن حكمه وإمرته، أن الأخيار دائمًا أقوياء والأشرار عاجزون، وتعلَّمت منه أيضًا أن الرذيلة لا تُعدَم الجزاء، والفضيلة لا تعدم المثوبة، وأن الطيبين ينعمون دائمًا بالسعادة والأشرار دائمًا أشقياء محرومون، وهناك الكثير من الاعتبارات المماثلة التي سوف تُعضِّد لك هذا الرأي بقوةٍ وصلابة، إذا ما هدأت ثائرتُك وعُدت إلى صوابك.

لقد تبيَّنت صورة السعادة الحقة التي أظهرتُك عليها الآن، وعرفت أين تكمن، فإذا ما ضربتَ صفحًا عما لا ينبغي الوقوف عنده، فسوف أدُلُّك على الطريق الذي يعود بك إلى وطنك، وسوف أمنح روحك جناحين تُحلِّق بهما، فتُزايلك الكروب جميعًا، ويكون بوسعك أن تعود سالمًا إلى وطنك الأصلي، سأكون لك الدليل والطريق والوسيلة.

إنَّ لديَّ أجنحةً رشيقةً
تحلق بها في أعالي السماء،
عندما يتَّخذُها العقل
يزدري الأرض المقيتة من تحته،
ويعلو إلى الفضاء العريض،
ويرى السحاب وراءه وقد تخطَّاه بعيدًا،
ثم يجوز خلال نطاق النار
التي تفور من فوق اهتياج الهواء المحموم
حتى يصعدَ إلى النجوم،
يلحق بالشمس في مسارها،
أو يَتْبَع ساتورنوس (زُحل) القديم البارد
حارس الكوكبة المضيئة،
أو يتخذ مسار أي نجم
من النجوم التي تُرصِّع الليل،
وبعد أن يشبع ترحالًا
يغادر السماءَ ويَرُود النطاق الأخير للأثير،
ويحوز الآن على الضياء الأجَلِّ،
فها هنا ملك الملوك يحمل صولجانه
ويمسك بأعنَّة كل شيءٍ مسكًا وثيقًا
ويُحرِّك العربة المجنَّحةَ وهو ثابت.
مدبر العالم كله يتألق نورًا،
فإذا ردَّك هذا الطريق إلى هناك،
الطريق الذي نسيته وتريد الآن أن تتذكَّره،
فلسوف تقول: «إنه هو …
هذا وطني، منه أتيت
وفيه سأبقى ولن أبرح أبدًا.»
فإذا ما عنَّ لك أن تُلقي نظرةً على الأرض المعتمة من ورائك،
فلسوف ترى الطغاة الذين يُرهِبون الناس بجهامتهم
منفيِّين منبوذين لا مأوَى لهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤