الفصل الثاني

الأخيار وحدهم الأقوياء

عندئذٍ قلت: «ما أضخم وعودَك وأعرضها، وأنا لا أشكُّ في قدرتك على إنجازها، ولكني أتوسل إليكِ ألا تتركيني أنتظر طويلًا بعد أن أثرْتِ اشتياقي.»

قالت: «إذن ينبغي أولًا أن تعلم أن الأخيار لا تُعْوزهم القوة، والأشرار مجرَّدون منها، والحق أن كلًّا من هاتين العبارتين تُفسِّرها الأخرى؛ فحيث إن الخير والشر ضدان، فضعف الشر تُثبته قوة الخير، والعكس بالعكس، ولكي أدعم يقينك بما أقول فسوف أمضي في كلا الاتجاهين وأبرهن على القضيتين برهانًا مضاعفًا.

والآن، ثمة شيئان يعتمد عليهما أداء كل فعلٍ بشري؛ الإرادة، والقدرة، فإذا ما غاب أحدهما تعذَّر أداء أي فعل، إذا غابت الإرادة فلن يتَّجه المرء إلى فعل الشيء ومِن ثَمَّ لن يقوم به، وإذا افتقرَ إلى القدرة فسوف يمارس إرادته من غير طائل؛ لذا عندما ترى شخصًا يرغب في شيءٍ ولا يحصل عليه فمن المؤكد أن ما ينقصه هو القدرة على الحصول على ما يريد.»

ب : «هذا أمرٌ واضحٌ لا يناله الشك.»
ف : «وإذا رأيتَ شخصًا عَمِل ما أراده فلن تَشُك في أن لديه القدرة على عمله، أليس كذلك؟»
ب : «بَلَى.»
ف : «إذن قوةُ كل شخصٍ أو قدرته إنما تُقاس بما يمكنه عمله، ويقاس ضعفه بما لا يستطيع عمله.»
ب : «نعم.»
ف : «فهل تذكر ما انتهينا إليه سابقًا من أن الاتجاه الطبيعي لإرادة البشر، كما تتجلى في مختلف مساعيهم، إنما ينصرف حثيثًا نحو السعادة؟»
ب : «أذكر أننا أثبتنا ذلك أيضًا.»
ف : «وهل تذكر أن السعادة هي الخير ذاته، وما دام البشر يرومون السعادة فإنهم بذلك يرومون الخير؟»
ب : «لا أذكره فحسب بل إنه ليرسخ في عقلي رسوخًا.»
ف : «ومن ثم فإن الجميع، أخيارًا وأشرارًا، يسعون إلى الخير على اختلاف مشاربهم؟»
ب : «نعم، هذا يترتب بالضرورة.»
ف : «ولكن، يقينًا، يصبح الأخيار أخيارًا باكتساب الخير؟»
ب : «نعم.»
ف : «فالأخيار، إذن، يحصلون على ما يَصْبون إليه؟»
ب : «يبدو ذلك.»
ف : «ولكن إذا حصل الأشرار على ما يريدون — أي الخير — فلا يمكن أن يكونوا أشرارًا؟»
ب : «لا يمكن.»
ف : «إذن كلتا الجماعتين تريد الخير، وحيث إن إحداهما تحصل عليه والأخرى تُقصِّر، فليس ثمة أدنى شك في أن الأخيار أقوياء والأشرار عاجزون.»
ب : «مَن يشك في ذلك حقًّا فلا حُكم له، لا في طبيعة الواقع ولا في منطق العقل.»
ف : «مرةً أخرى، افترض أن هناك شخصين يقصدان إلى نفس المهمة بالغريزة الفطرية، فسعى أحدهما إلى تأديتها بالوظيفة الطبيعية وأتمها بنجاح، بينما عجز الثاني عن ممارسة الفعل الطبيعي واستخدام طريقةً أخرى مضادةً للطبيعة مُقلدًا الشخص الناجح من دون أن يُتمَّ غرضه الأصلي، فأيهما تراه الأكثر قوة؟»
ب : «يمكنني أن أحدِس بما تعنين، ولكني أتوق إلى سماعه بوضوحٍ أكثر.»
ف : «هل تُنكر أن فعل المشي هو فعلٌ طبيعي وبشري؟»
ب : «لا أنكر.»
ف : «ولعلك لا تشُكُّ أنه الوظيفة الطبيعية للأقدام؟»
ب : «نعم.»
ف : «فإذا كان بوسع رجلٍ أن يسعى على قدميه ويمشي، بينما يفتقد رجلٌ آخر الوظيفة الطبيعية للقدمين ويحاول أن يمشي على يديه، فأيهما يعد حقًّا أكثر قدرةً وقوة؟»
ب : «سليني غير هذا! ومن ذا يشك في أن الرجل الذي يتمتع بوظائفه الطبيعية أكثر قدرةً من فاقدها؟!»
ف : «حسن، إن الخير الأسمى هو هدف البشر، أخيارهم وأشرارهم على السواء، فأما الأخيار فيسعَون إليه بالنشاط الطبيعي وهو ممارسة فضائلهم، وأما الأشرار فيعمدون إلى تحصيل الشيء نفسه من خلال شهواتٍ شتى ليست بالوظيفة الطبيعية لاكتساب الخير، هل لديك على ذلك تحفظ؟»
ب : «كلا، بل إن مترتباته لواضحةٌ جلية: أن الأخيار أقوياء والأشرار ضعفاء عاجزون.»
ف : «إن توقعك لفي محله، وهو ما ينبئ بأن طبيعتك الآن، مثلما يتمنى الأطباء دائمًا، ناشطةٌ وقادرةٌ على مقاومة المرض، وما دمت أراك سريع الفهم فسوف أدفع حججي دِراكًا، انظر مبلغ ضعف الأشرار، الذين يعجزون حتى عن بلوغ ما يقودهم إليه نزوعُهم الفطري بل يدفعهم إليه دفعًا، فماذا يكون حالُهم لو زايَلَهم هذا العَون الكبير القاهر للنزوع الطبيعي، وكَفَّت الطبيعة عن أن ترشدهم إلى الطريق؟
انظر مدى العجز الذي يُعيق الأشرار، إن ما يعجزون عن كسبه ليس بالشيء الهين، ليس ميداليات ألعاب، إن ما يفشلون فيه هو أسمى الأشياء جميعًا وأهم الأشياء جميعًا … تاج التيجان، لقد فاتهم النجاح في المسعى نفسه الذي يَكدُّون له ليلًا ونهارًا ولا ينشدون سواه، وهو ذات المسعى الذي يُفلِح فيه الأخيار وتتجلَّى قوتهم.

فإذا تمكن رجلٌ من المضي على قدميه إلى نقطةٍ قُصوَى ليس بعدها بعدٌ فسوف تعتبره بطلًا في المشي، وبالمقياس نفسه سوف تَعُد من يبلغ الهدف النهائي الذي ما بعده هدفٌ بأنه بالغ القدرة، والنقيض أيضًا صحيح، فأولئك الأشرار هم كذلك ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وإلا فلماذا يحيدون عن الفضيلة إلى الرذيلة؟ فإذا قلت لأنهم لا يعرفون ما هو خيرٌ لَسَألتُك أيُّ عجزٍ أشد من عَمَى الجهل؟ وإذا قلت إنهم يعرفون ما ينبغي طلَبه ولكن الشهوات أضَلَّتهم السبيل لكانوا في هذا أيضًا ضعفاء من حيث التحكم في النفس، أما إذا قلت إنهم تنكَّبوا الخير ومالوا إلى الشر عن علمٍ وإرادةٍ فإنهم في هذه الحالة لا يعدمون القوة فحسب، بل يعدمون الوجود نفسه! فالذي يتخلى من الناس عن السعي إلى الغاية العامة لكل الموجودات فإنه لا يعود هو نفسه موجودًا!

قد يستغرب البعض قولي إن الأشرار، وهم أغلبية الناس، غير موجودين، ولكني سأُبيِّن لك كيف يكون ذلك.

ذلك أنني لا أُنكر أنهم أشرار ولكن أنكر أن لهم وجودًا تامًّا مكتملًا، فأنت قد تسمِّي الجثة إنسانًا ميتًا ولكنك لا يمكن أن تسميها إنسانًا ببساطة، كذلك الأمر بالنسبة للأشرار، فإذا كنت أوافق على أنهم أشرار فلا يمكنني أن أوافق على أنهم يتمتعون بوجودٍ تام، فالشيء إنما يُعَد موجودًا إذا كان يَلزم مكانه الصحيح ويحافظ على طبيعته، فإذا تخلَّى عن ذلك لم يَعُد موجودًا؛ لأن وجوده رَهنٌ بمحافظته على طبيعته، قد تحتجُّ بقولك إن الأشرار يملكون مع ذلك الغلبة والبأس، ولكني أرُدُّ بأن هذا البأس وتلك الغلبة صادران عن الضعف لا عن القوة؛ لأنهم ما كانوا ليفعلوا الشر لولا أنهم فَقَدوا القدرة على فعل الخير، وهذا وحدَه يُثبت بوضوح أنهم عاجزون عن فعل أيِّ شيء، فلما كان الشرُّ عدمًا كما بينا منذ قليلٍ، وكان لا يَسَعهم إلا اقترافه، فواضحٌ إذن أن الأشرار لا يقدرون على أي شيء.»
ب : «واضح.»
ف : «ولكني أريدك أن تعي بدقةٍ طبيعة القوة التي نتحدث عنها، لقد خَلَصنا منذ قليل إلى أنه لا شيء يعلو على الخير الأسمى ويفوقه قوةً وبأسًا.»
ب : «هو ذاك.»
ف : «ولكن الخير الأسمى لا يمكنه فعلُ الشر.»
ب : «لا يمكن.»
ف : «ولا أحد يقول بأن البشر ذوو قدرةٍ مطلقة، أليس كذلك؟»
ب : «بلى، ما لم يكن مأفونًا.»
ف : «ولكن البشر يمكنهم فعل الشر.»
ب : «وكم أود ألا يمكنهم.»
ف : «فإذا ما كانت القوة التي لا يمكنها أن تفعل إلا الخير هي قوة مطلقة، بينما البشر، القادرون على فعل الشر، ليسوا كذلك، وكانت جميع أشكال القوة هي ضمن الأهداف المنشودة، وهذه الأهداف المنشودة ترتبط بالخير بوصفه المثل الأعلى لطبيعتها، والقدرة على ارتكاب الجرم ليست شكلًا من أشكال الخير وليست مِن ثَمَّ هدفًا منشودًا، ولما كانت جميع أشكال القوة أهدافًا منشودةً جديرةً بالسعي والطلب، يتبين من ذلك بوضوح أن القدرة على فعل الشر ليست شكلًا من أشكال القوة.»
من ذلك كله يتضح أن الأخيار هم الأقوياء، ويتضح أيضًا بما لا يدع مجالًا للشك أن الأشرار ضعفاء عاجزون، ويتضح أن أفلاطون كان على حق حين قال في محاورة «جورجياس» Gorgias إن الحكماء فقط هم القادرون على تحقيق رغبتهم، بينما ينصرف الأشرار إلى ما يمنحُهم اللذة ولا يستطيعون الوصول إلى هدفهم الحقيقي، إن أفعالهم تقوم على اعتقادهم بأنهم سوف يبلغون الخير الذي ينشدونه من خلال ملذاتهم، ولكنهم لا يبلغونه لأن الرذائل لا يمكن أن تبلِّغ السعادة.
قد تَرَى الملوك العُتاة متربعين على عروشٍ عالية،
في أرديتهم الأرجوانية البرَّاقة، مُسيجين بأسلحةٍ كالحة
وجوههم جهمةٌ متوعِّدة، قلوبهم تخفق بالغضب،
لو أنك تنزع عنهم، لحظةً، غطاء الأبهة الفارغة،
سيروعك ما تراه من تحتها:
سترى أنهم مُصفدون بأغلالٍ خفية
سترى قلوبًا تعتصرها الشهوة بسموم الجشع،
سترى الأحقاد الفائرة تَتْرى أمواجًا تجلد أرواحهم
يأسرهم الحزن المقيم، ويعذبهم الأمل الخادع،
فإذا كان بداخل رأسٍ واحدٍ يتربَّع طغاةٌ بهذا العدد،
فمخلوعةٌ هي إرادةُ الملك،
ومستعبدُ الناس هو المستعبَد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤