الفصل الثالث

الخير مثابٌ والشر معاقب

أرأيت إذن أي وحلٍ تتمرغ فيه الرذيلة، وأي بهاء تتألق فيه الفضيلة؟ من هذا يتبيَّن أن العمل الصالح لا يعدم الجزاء أبدًا، والرذائل لا تعدم العقاب، والطريقة الصحيحة في النظر إلى هذا الأمر هي أن تعتبر الهدف المنوط بأي فعلٍ هو هو ثوابُه، تمامًا كما أن جائزة سباق العدو في الإستاد هي إكليل الغار الذي يُجرى من أجله السباق، ولقد تبينا أن السعادة هي الخير ذاته الذي إليه يهدف كلُّ عملٍ يُؤدَّى؛ ولذا فإن الخير الخالص هو ثواب كل نشاطٍ بشري، وحيث إن الخيرية لا يمكن أن تُسلب من الأخيار، فإن الأفعال الخيرة لا تعدم جزاءها الحق، ومهما يمكر الأشرار ويكيدوا كيدًا فإن إكليل غار الحكيم لن يسقط منه أبدًا ولن يذوي.

وما كان لمكر الأشرار أن ينتزع من الأخيار مجدَهم الخاص، فلو كان المجد الذي نُزهى به مجدًا مستعارًا لاستطاع الآخرون، وبخاصة من أسبغه علينا، سحبه منا مرةً ثانية، ولكن ما دام المجد يسبغه على المرء خيرُه وصلاحه فإنه لن يعدم جزاءه إلا إذا كف عن أن يكون صالحًا.

وأخيرًا، إذا كانت كل مكافأة إنما تُنْشَد لأنها تُعتبر خيرًا، فمن يقول إن الذي وُهب الخير والصلاح هو بلا مكافأة؟ تأمل مرةً أخرى في «اللازمة» corollary التي نَوَّهت بها عندما كنت أتحدث إليك منذ قليل، إذا كان الخير هو السعادة، فمن الواضح إذن أن جميع الأخيار ينالون السعادة بفضل كونهم أخيارًا، وبما أننا اتفقنا على أن أولئك الذين ينالون السعادةَ هم إلهيون، فثواب الخير إذن هو ثوابٌ يستحيل أن يُبْليه الزمن، ولا أن تسلبَه أي سلطةٍ في الأرض، ولا أن يعكره لؤم اللؤماء، وإذا كان الأمر كذلك، فلن يصح لأي عاقلٍ أن يشك أدنى شك في العقاب المحتوم للأشرار، فالثواب والعقاب، شأن الخير والشر، ضدان، فالجزاء الذي نراه واجبًا للأخيار لا بد من أن يوازنه عقابٌ مقابلٌ للأشرار، فعقاب الأشرار إذن هو شَرُّهم نفسه — الشر عقاب ذاته مثلما أن الخير ثوابُ ذاته.

والآن، لا يشك مَن يلقى عقابًا أنه يلقى شرًّا ما، فإذا شاء الأشرار حقًّا أن يقيِّموا أنفسهم فما أحسبهم يرونها بمنجاةٍ من العقاب وهم يلقون أسوأ الشرور جميعًا — شرًّا لا يمسهم فحسب بل يتغلغل في عمق أعماقهم.

ثم انظر إلى العقاب الذي يُلازم الأشرار من وجهة النظر المضادة، أي من وجهة نظر الأخيار، لقد عرفت منذ قليل أن كل ما هو موجود هو في حالة وحدة، وأن الخير نفسه وحدة، وترتب على ذلك أن كل ما هو موجود ينبغي أن نعتبره خيرًا، يعني ذلك أن أيَّ شيءٍ يحيد عن الخير لا يعود موجودًا، وأن الأشرار بذلك لا يعودون ما كانوه من قبل، إن شكل أجسادهم البشرية ما يزال يدلُّنا على أنهم كانوا بشرًا؛ ولذا فلا بد أنهم فَقَدوا طبيعتَهم البشرية عندما مالوا إلى الشر، ولما كان الخير وحده هو ما يمكن أن يعلو بالإنسان فوق بشريته، فإن الشر بالضرورة قمينٌ بأن يتردَّى به إلى ما دون مستوى البشرية.

وعليه فلا يمكنك أن تعتبره إنسانًا ذلك الذي مَسَخَته رذائله، بوسعك مثلًا أن تشبِّه الذي يسلب ويغتصب ويتحرَّق طمعًا بالذئب، أما النَّزق العنيف الذي يكمن للناس وينقض عليهم غيلةً فيُشبَّه بالثعلب، أما الذي يُرغي ويُزبد ولا يكبَح غضبه فسوف يقال إن به شِرَّة الأسد، وأما المُجفِل الهَيَّاب الذي يرتاع وليس ما يدعو للفزع فسوف يعتبر كالأيِّل، والكسول البليد الغبي أليس يعيش عيشة الأتان؟ والنزوي المتقلِّب الذي لا يستقر على حال ألا يُشبه العصفور؟ والمنغمسُ في الملذات المتمرغ في وَحْلِ الشهوات ألا يُشبه الخنزير؟ ما يحدث إذن هو أن الإنسان حين يفقد خيريته ولا يعود إنسانًا — أي لا يعود قادرًا على السمو إلى الحالة الإلهية — فإنه يتدنى إلى مرتبة الحيوان.

أشرعة ملك إيثاكا،١
وسفنُه البحرية التائهة،
ساقتْها ريح الشرق إلى الجزيرة
التي تعيش فيها إلهةٌ جميلةٌ،
هي كيركى، ابنة الشمس نفسها
مَزَجَت كيركى لضيوفها الجُدُد،
بيدها الدَّربة في خلط الأعشاب
أكوابًا مسَّتها بِرُقَى سحرية،
فمَسَخَتهم إلى أشكالٍ شتى،
فواحدٌ يحمل وجه خنزيرٍ بري،
وواحدٌ اتَّخذ شكل أسدٍ أفريقي
ذي أنيابٍ ومخالب،
وواحدٌ صار ذئبًا
يعوي كلما أراد أن يبكي،
وواحد كالنمر الهندي
جعل يَلُوب في الدار
بدبيبٍ خافت،
أحدقت الأخطار بالسيد أوديسيوس،
ولكن الإله الأركادي المجنَّح (هيرميس)
أشفق عليه فأنقذَه من لعنة كيركى،
أما بَحَّارته فقد تجرَّعوا أكواب كيركى،
فانصرفوا عن خبز البَشَر
وتحوَّلوا إلى القشر وجوز البلوط
طعام الخنازير،
لم يَعُد شيءٌ كالذي كان
تغيَّر الصوتُ والشكل،
وحدَه العقلُ بَقِي سليمًا
يأسَى على مأزقهم البشع،
ولكنَّ كيد كيركى كان ضعيفًا،
وأعشابها عاجزة
حوَّلت أعضاء الجسد
ولم تستطع تغيير القلب،
حيث تكمنُ قوة الإنسان
قابعةً في حصنٍ حصين.

•••

ولكن السم الأنقع حقًّا،
هو ذلك الذي ينفُذُ إلى العقل والروح،
فيسلب الإنسانَ من نفسه
إنه يترك الجسم على حاله،
بينما يصيب العقلَ بجُرحٍ بليغ.
١  هو أوديسيوس (عولس) ملك إيثاكا وبطل الملحمة الهوميرية الموسومة باسمه، والتي تروي ما حدث له بعد انتهاء حرب طروادة في طريق عودته بحرًا من طروادة إلى مملكته إيثاكا وما لقي من متاعب وقاسَى من أهوال، وفيها أن سفن أوديسيوس قادتها الريح إلى الجزيرة التي تعيش فيها كيركى التي ضيَّفت رجال أوديسيوس في قصرها وقادتهم إلى بهو كبير صُفَّت فيه عروش فخمة من ذهب، ما كادوا يستقرون عليها حتى أقبل الساقي بخمر وعسل ثم جيء بجبن وطعام آخر، مخلوط بعقاقير سحرية تُذهِب وعي آكليها وتُنسيهم ما مضى من أمورهم، بل تسلبهم ذكريات أوطانهم، ثم ضربت كلًّا بعصاها السحرية بعد أن أكلوا وشربوا، وقادتهم إلى حظائرها حيث مُسخوا خنازير، وإن أبقَى السحر على عقولهم، أما طعامهم بعد هذا فكانوا يتناولونه من يدها مباشرة، وهو قشر وجوز بلوط، ومن إلى ذلك من أكل الخنازير الخسيسة السائبة (الأوديسية، الكتاب الثامن)، غير أن الإله الأركادي المجنح هيرميس رثى له، وقال: «إني سأحبط ما فعلت، وسأحميكَ وأحفظك. فهذه البقلة العجيبة التي أعطيك ستُبطل كلَّ ما تَحيكُ لك فلا تقدر على مسخك كمن مَسَخَت من رفاقك.» وانحنَى رسول الآلهة (هيرميس) «فالتقط عُشبة من الأرض ثم وضعها في يدي وأخذ يكشف لي أسرارها ويقص عليَّ قواها الخارقة، وذكر لي أن اسمها مولي وبه يدعونها في السماء، وإن الآلهة وحدهم يعرفون كيف يَشفون بها رُقَى السحر» (الأوديسية، الكتاب الثامن).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤