الفصل الثاني

تفاوت حرية الإرادة

قلت: «لقد أصغيت إلى ما تقولين، وأشهد إنه عين الحق، ولكن هل ثمة مكانٌ في هذه السلسلة السببية الوثقى لأي حرية للإرادة؟ أو هل تُقيِّد هذه السلسلة القدرية حتى مشاعر نفوسنا ودفعات عقلنا؟»

قالت: «ثمة حرية إرادة، فمن غير الممكن أن توجَدَ أي طبيعةٍ عقليةٍ من دون حرية إرادة، فما من كائنٍ يمكنه بالطبيعة استخدام عقله إلا وله قوة الحكم التي يمكنه بها، بدون أي عونٍ آخر، أن يتخذ القرار في كل أمر، وأن يميز بنفسه بين الأشياء التي يريدها والأشياء التي يتجنبها، كل إنسان إذن يصبو إلى ما يعتبره مرغوبًا ويُعرِض عما يعتبره غير مرغوب، وكل ما لديه عقلٌ فلديه أيضًا حرية أن يريد أو لا يريد … وإن كنت لا أزعم أن هذه الحرية متساويةٌ في جميع الكائنات، فالكائنات السماوية والإلهية لديها بصيرةٌ ثاقبة وإرادةٌ نزيهةٌ وقوةٌ غالبةٌ على أمرها، أما النفوس البشرية فتكون بالتأكيد أكثر حريةُ ما بقيت دائبةً في تأمل العقل الإلهي، وتصير أقل حريةً عندما تهبط إلى الأجساد، وأقل من ذلك عندما تكون سجينة الأعضاء الترابية الأرضية، وتَبلُغُ غايةَ العبودية عندما تُسلِم نفسَها للرذائل ولا تعود تملكُ رُشدَها، وما تكاد تَصْرِف بصرها عن نور الحقيقة العليا إلى ما هو أدنى وأظلم حتى تلفَّها غيوم الجهل وتعذبها الانفعالات المدمرة، فلا تجني من استسلامها لها إلا مزيدًا من العبودية التي جرَّتها على نفسها طواعيةً، على أن كل ذلك مرئيٌّ لَعَين العناية التي ترقب كل شيءٍ من سرمديتها، وتُقَدِّر لكلٍّ بحسب عمله جزاءً وفاقًا.»

إنها ترى الكل وتسمع الكل،
هكذا يغني هوميروس بلسانه المعسول
ضياء الشمس الوهَّاج الساطع،
غير أن الشمس لا تَقدر بأشعتها الكليلة
أن تَنفُذ إلى أحشاء الأرض أو إلى أعماق البحر،
أما خالق العالم فحاشاه،
إن كلَّ شيءٍ ماثلٌ لنظرته العليَّة
لا تصُدُّها كثافة المادة،
ولا تُعشيها حلكة الليل
كل ما يكون وما كان وما سيكون
يدركه بلمحةٍ واحدةٍ من عقله،
وحدَه مَن يرى الأشياء جميعًا
فعلينا أن ندعوه الشمس الحقيقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤