التجارب الاجتماعية١
أشارت الأخبار بالأمس إلى سلسلة من التجارب الاجتماعية الأخلاقية، تجريها بعض الصحف في العالم الجديد، ويعتمد عليها طائفة من المؤلفين في حكمهم على الفضائل التي تروج أو لا تروج بين جمهرة من الناس في إحدى البيئات، ومنها البيئات التي يحسب أبناؤها بعشرات الملايين، كالبلاد الأمريكية.
وبين تلك التجارب «الإحصائية» تجربة أجراها بعض المؤلفين عن الوفاء بين الزوجين، يظهر منها أنه يقدر فضيلة الوفاء بمقدار طول الزمن الذي يقضيه الرجل أو المرأة في الحياة الزوجية، وخلاصة تجاربه أو إحصاءاته أن الوفاء صفة مؤقتة كالحب، تزول متى زالت العاطفة بين المحبين.
وطريقة الإحصاء في الحكم على شيوع الفضائل بين أبناء البيئة الاجتماعية طريقة سليمة لا غبار عليها، لولا أنها تتطلب الدقة البالغة في ضبط معاني الكلمات والتحقق من اتفاق المجيبين على معنى واحد عند فهم السؤال، وعند الإجابة عليه.
والظاهر من كلام المؤلف الباحث عن الزوج والزوجة أيهما أوفى لصاحبه، أنه جعل طول الرضى بالبقاء في الحياة الزوجية مرادفًا لفضيلة الوفاء، ودليلًا على ذلك الخلق النفساني الذي أحصى علاماته في عدد كثير من الأزواج بين الجنسين.
ولكن طول الرضى بالبقاء في عيشة معينة قد يكون عادة من عادات الألفة والامتثال للضرورة على غير علاقة بالفضائل النفسية؛ فإن الطائر الذي يطمئن إلى البقاء في قفصه، ويكف عن ضرب أسلاكه بجناحيه، والتطلع من فجواته للطيران منه؛ إنما يفعل ذلك بحكم العادة التي ترتبط بضرورات الواقع ولا علاقة لها بمعاني الفضيلة في الوجدان، ولا بتلك العلاقة في ضمير الإنسان.
فالاطمئنان إلى البقاء على معيشة واحدة إنما هو عادة تتساوى فيها ألفة الفضيلة والرذيلة، أو حالة القبول للأمر المحبوب وحالة القبول للأمر المكروه.
وإنما تتجلى فضيلة الوفاء عند المنازعة بين هوى النفس ودعوة الواجب، أو بين نزعة نطلبها ونميل إليها ونزعة نُعرض عنها ونهمُّ بالفرار منها، وإنما تسنح فرصة التحقيق في قوة هذه الفضيلة عندما يقف أحد الزوجين بين الإخلاص لصاحبه الذي أحبه من قبل، وبين مطاوعة الحب الجديد الذي قد يتعرض له بعد انقضاء عهد طويل أو قصير على الزواج، وقد تحدث هذه المحنة، وينفصم عقد الوفاء فيها مع رضى الزوجين بالبقاء في معيشة واحدة.
ويظهر كذلك أن المؤلف خلط بين عاطفة الحب وفضيلة الوفاء، فبدا له أن عمر العاطفة وعمر الفضيلة ينتهيان إلى أجل واحد، فلا دوام للوفاء بعد زوال المحبة بين الزوجين. وخطأ المؤلف واضح في خلطه بين الأمرين؛ ففي حالة الحب لا حاجة إلى السؤال عن الوفاء؛ لأنها حالة الرغبة التي يقبل فيها كل من المحبين على صاحبه باختياره، ويعارض كل ميل آخر يصرفه عن هذه الرغبة إلى غيرها؛ سواء كان من أهل الوفاء أو كان من أهل الخيانة التي لا تدين بمعنى من معاني الوفاء، وإذا حملت الرغبة في المال لصًّا سارقًا، يكسر الخزينة ويتجشم الخطر في سبيل الوصول إلى المال الذي يشتهيه، فأي معنى للخلط هنا بين الرغبة في الشيء المحبوب وبين فضيلة الوفاء، ولو سميناه وفاء للمال؟
أصدق من حساب الإحصاء في امتحان الفضائل أن نعود إلى حساب قديم عندنا، يعرفه الذين عرفوا حكمة أبي بكر الصديق — رضوان الله عليه — فقد كان يقول ما فحواه إنه ما تردد قط بين واجبين إلا اختار أبعدهما من هواه.
وبهذه «الفرازة» المحكمة، نستطيع أن نعرف متى نبحث عن حقيقة الوفاء بين زوجين أو بين محبَّين.
موضع البحث عن هذه الحقيقة حين يختار صاحب العاطفة بين الإخلاص لحب كان يستهويه من قبل، والاندفاع مع هوى جديد لم يبلغ من النفس مبلغ الحب القديم، ولكنه يستطيع أن يشغلها عنه ولو بعض حين.
وصدق حساب الصديق، وكذب حساب الأرقام!