اقتباس أو توارد خواطر؟١
… اطلعت على كتاب «وحدة المعرفة» للدكتور محمد كامل حسين، واطلعت من قبل على نظريات أبي الفلسفة المثالية التجريبية الفيلسوف ألكسندر صمويل، فوجدت أن هناك تشابهًا واضحًا بين ما كتبه الدكتور محمد كامل حسين، وبين ما نادى به صمويل من قبل في كتبه التي تضمنت آراءه ومباحثه في الميدان الفلسفي … ولما التبس عليَّ الأمر حضرت إلى أستاذنا العقاد، طالبًا من سيادته التفضل بتناول هذه القضية في يوميات الأخبار؛ وهي: هل هناك اقتباس أم أنه توارد خواطر؟ وقد أعياني التفكير فجئت إلى رجل التفكير طالبًا البيان.
وبعض آراء الفيلسوف فيما يدور حول مبحث الجمال والفن مفصل في كتابه الآخر عن «الجمال وصور من القيم الأخرى».
وقد لخصنا مذهب الفيلسوف عن الربوبية ودرجات صفات المادة في كتبانا عن «الله» الذي ألفناه قبل ست عشرة سنة (ص٢٥٢–٢٥٤)، وهو الجانب الذي يتناول الربوبية وصفات المادة، وعدنا في كتاب عقائد المفكرين إلى بيان مذهبه وعقيدته ببعض الإيجاز.
أما السؤال عن توارد الخواطر، فالأستاذ المؤلف أولى منا بالإجابة عنه قبل تفصيل القول فيه.
اليهودي التائه
… جادلني بعض الأصدقاء في أسطورة اليهودي التائه، فزعم فريق أنها قصة حقيقية وقعت ولا يزال صاحبها يعيش خالدًا في أرجاء المسكونة حاملًا لعنته الأبدية، وزعم فريق آخر أنها أسطورة خرافية وهمية كأساطير الإغريق والرومان، وإني أتقدم بالرجاء إلى صاحب العبقريات أن يفيدني في يوميات الأربعاء عن ذلك.
حديث اليهودي التائه يرجع إلى خرافة نشأت بعد سنة ألف للميلاد، خلاصتها أن حارسًا يهوديًّا في قصر بيلاطس حاكم بيت المقدس مر به السيد المسيح وهو يحمل خشبته، فأراد الحارس أن يسخر منه وقال له: «لِمَ تمشي هكذا على مهل، أسرع!» فأجابه — عليه السلام — وهو ماض في طريقه: «إنني سأصل إلى غايتي قريبًا، ولكنك أنت ستظل في دنياك حائرًا مضللًا إلى يوم أعود …»
وكان الشائع بين اليهود والمسحيين الأوائل أن المسيح الموعود سيظهر على رأس ألف سنة من تاريخ هدم الهيكل أو ألف سنة من تاريخ بعثة المسيح — عليه السلام — وأن ظهوره سيكون مسبوقًا بظهور كثير من المسحاء والأنبياء الكذبة، يصنعون الأعاجيب والإرهاصات ويخدعون المؤمنين وغير المؤمنين، فلما اقتربت سنة ألف للميلاد أخذ هؤلاء الأدعياء يظهرون واحدًا بعد واحد، ثم يتوارون بعد حين كلما حبطت دعواهم وعجزوا عن تحقيق العلامات المقرونة برجعة السيد المسيح وقيام القيامة بعد ذلك، ومن هؤلاء من ادعى أنه شهد محاكمة السيد المسيح وسمع منه أنه سيعيش في دنياه مشردًا مطرودًا حتى يعود — عليه السلام — إلى الأرض، وأنه يظهر ليتلقاه ويتوب على يديه.
ومن هؤلاء من كان يتقرب إلى رجال الكنيسة ليسكتوا عن دعواه، فيزعم أنه كان بمكة وشهد بعثة النبي العربي — صلوات الله عليه — وناقشه في مسألة صلب المسيح؛ لأنه حضرها واشترك فيها، فيغضي عنه بعضهم ويعرض عنه آخرون.
… فحينئذ قال يسوع لتلاميذه: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني؛ فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدْها؛ لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟ فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يُجازى كل واحد بحسب عمله. الحق أقول لكم، إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته.
وقد تكرر هذا الخبر في إنجيل لوقا بالصيغة الآتية: «حقًّا أقول لكم، إن من القيام ها هنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله.»
وفحوى الخبرين كما هو ظاهر أن ملكوت الله، أو ثبوت الدعوة المسيحية، سوف يتحقق في حياة أناس من المستمعين لتلك النبوءة، وليس في الخبرين ما يفيد أن يهوديًّا كافرًا بتلك الدعوة سيظل بقيد الحياة ألوف السنين، حتى يبعث السيد المسيح بعثته الثانية، فيحله من ذنبه ويتقبله بين من يسرعون يومئذ إلى لقائه.
ولكن النبوءة استُخدمت كثيرًا لترويج دعوات المحتالين، وربما حصل من أضاحيك الدجل حول خرافة اليهودي التائه أن يلتقي اثنان من المحتالين بتلك الدعوى في وقت واحد؛ فيزعم أحدهما تأييدًا لدعواه أنه حضر مجلسًا من المجالس قبل بضعة أجيال، ويتصدى له الآخر فيكذبه ويثبت عليه التلفيق؛ لأنه أعلم منه بتاريخ الجلسة وحاضريها، ويبني تكذيبه أو تصحيحه المعزز بالأسانيد التاريخية على أنه هو قد حضر تلك الجلسة، ولم ير فيها هذا أو ذاك، ولم يسمع فيها بتلك النادرة أو تلك، ولكنه رأى وسمع ما هو أحق بالتصديق كما تؤيده أسانيد المؤرخين.
وقبل ظهور اليهودي التائه في عالم القصة الفرنسية أو الألمانية، ظهرت هذه الأسطورة في قصة إنجليزية باسم «سلاثئيل» أو قصة عن الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها نشرت غفلًا من اسم المؤلف، ونُسبت إلى رجل من رجال الدين لم يُعلن اسمه؛ لما فيها من التعريض ببعض المذاهب الدينية. ويقال إنه هو القس جورج كرولي المعروف.
وعلى عادة الباحثين العلميين، قد فرغ للبحث عن أصول هذه الأسطورة قديمًا وحديثًا جماعة من المشتغلين بالمقارنات الواقعية والخيالية في علم الإنسان، فتبين لهم أن للأسطورة أصولًا سحيقة في جذور العقائد الأولى، تُروى على روايات شتى في كل شعب من الشعوب الكبرى أو قبيلة من القبائل البدائية، فلم يخل منها تاريخ الهند والصين، ولا تاريخ مصر وبابل، ولا تواريخ القبائل المتفرقة بين قارات العالم المعمور، ومنها الجزيرة الأسترالية. وأوجز المؤلفات الحديثة التي ألمت بخلاصة تلك الأقاويل المطولة كتاب «أسطورة اليهودي التائه»، بقلم الكاتب الروسي جوزيف جابر، الذي تجنس بالجنسية الأمريكية بعد هجرته من وطنه، واشتغل بالمباحث الفلسفية والتاريخية عن نشأة الديانات، ولا سيما الديانات الكبرى، وكتابه عن اليهودي التائه يتتبع الأسطورة إلى السنة الماضية (١٩٦١)، ويمكن الحصول عليه من مكتبات القاهرة.