الأنسب والأصلح١
نقرأ في كتاب علم الأحياء للسنة الثالثة الثانوية صفحة ١٥٥ (سنة ١٩٦٠) ما نصه: «يقصد بتنازع البقاءِ التنافسُ بين الأفراد المختلفة؛ فبينما نرى الحيوانات تتكاثر باستمرار، نلاحظ أن أفراد كل نوع لا تزداد ازديادًا كبيرًا إلا بقدر ما تسمح به الظروف المحيطة بها؛ إذ يهلك منها عدد كبير؛ إما لضعفه وإما لقلة حيلته في مكافحة عدائه، فلا يستطيع الحياة؛ لأن الحياة للأصلح دائمًا …»
وفي يومياتكم قرأنا أخيرًا أن بقاء الأنسب غير بقاء الأصلح من وجهة الصلاح العامة بين جميع الكائنات والبيئات.
فأيهما أصلح؟
وقد تمثلت أكبر تجارب الحياة قبل ملايين السنين في أنواع من الزحافات الضخام، كانت إحداها تبلغ في الطول نحو ثلاثين مترًا، وفي الوزن نحو أربعين طنًّا، وأشهرها «الدينصور» البيوض وأخواته من أكلات العشب، ثم انقرضت هذه الحيوانات، وكانت ضخامتها وقوتها من أسباب انقراضها وغلبة الحيوانات الصغيرة عليها؛ لأنها كانت تحتاج إلى مقادير هائلة من الطعام لتغذيتها، وكان اجتماع طائفة منها في مكان مزروع يستنفد كل ما فيه من النبات الصالح للغذاء بعد زمن قليل، ولم يكن لها من ضخامتها معِين على الانتقال السريع إلى الأمكنة البعيدة للبحث فيها عن طعامها. وربما تحول بعضها في العصور المتطاولة إلى أكل اللحوم، فتعذر عليها أن تطارد الحيوانات الصغار، التي تخف إلى الهرب قبل أن تدركها وتتمكن من افتراسها، بل كان يحدث أن هذه الحيوانات الصغار تأتي من خلفها وتنهشها وتأكل من لحومها، ثم تفر ناجية بنفسها قبل أن تتمكن من الاستدارة إليها لمنعها واللحاق بها كلما فرت منها؛ ولهذا خُلقت لها في الأزمنة المتطاولة مراكز مخية عند الذنب للإحساس بالحيوانات التي تهجم عليها من الخلف لافتراسها، ولكنها لم تكن مع هذا قادرة على اللحاق بها بعد هجومها وفرارها، وكانت هذه الحيوانات الضخام بيوضًا كما تقدم، فكان ما تضعه من البيض طعامًا سهلًا للحيوانات الصغار كلما ابتعدت عنه، كما كان عقبة لها توقعها في الحيرة بين الابتعاد لطلب القوت وملازمة المكان لحماية البيض أو حماية ذريتها الصغار، وربما انتهى الأمر بفنائها في كارثة من الكوارث الطبيعية سمحت بدوام التناسل للأحياء الصغيرة ولم تسمح بدوام نسلها، فكانت ضخامتها وقوتها من أسباب فنائها.
فها هنا حيوان ضخم قوي ينافسه حيوان صغير ضعيف؛ فيبقى هذا لأنه «أنسب» لظروف الحياة في بيئته وزمنه، ويزول ذاك مع امتيازه بالقوة والضخامة، ولا ريب إذن من ضرورة شرط «المناسبة» للظروف لضمان البقاء؛ لأنه أضمن من القوة أو من الضخامة التي تفقد هذه المناسبة.
على أن المسألة لها اعتبار آخر إذا أردنا معنى الأصلح من وجهة الصلاح العامة بين جميع الكائنات والبيئات، وذلك عندما يكون التنازع واقعًا بين ما يناسب الفرد وما يناسب الجماعة أو يناسب النوع الإنساني كله، فما الذي يبقى إذا تنازعت مصلحة الفرد الواحد ومصلحة الجماعة في حياتها الطويلة أو مصلحة النوع الإنساني كله على اختلاف الجماعات؟
لا خلاف في أن الجماعة أطول عمرًا من الفرد، وأن النوع الإنساني كله أطول عمرًا من كل جماعاته، فلابد في حالة التنازع بين الفرد والجماعة أن تبقى مصلحة الجماعة، وأن تبقى من بعدها مصلحة النوع، وكل ما كان محققًا لمصلحة الجماعات الكثيرة فهو — ولا ريب — أصلح وأفضل مما يحقق مصلحة الفرد الواحد في حياته القصيرة، وبهذا المعنى دون غيره يتفق الأنسب والأصلح من الوجهة العامة؛ لأن ما يناسب الجماعة الكثيرة الخالدة صلاح محقق في جميع الأحوال.
ويجب أن نذكر أن الأنسب والأصلح يتفقان في هذه الحالة ولا يلزم أن يتفقا في الحالات الأخرى، وهي الحالات التي تنحصر في بيئة واحدة وظروف محدودة؛ فقد يكون الامتياز بالقوة والضخامة سببًا من أسباب الهزيمة والفناء في هذه الأحوال.