مثل من التحقيق والخبرة للدراسة العلمية١
وحدة المعرفة، وهو العنوان الذي اختاره الدكتور محمد كامل حسين لكتابه المبتكر، هي إحدى الآراء التفصيلية التي بسطها صمويل ألكسندر في كتاب المكان والزمان والربوبية، وليس في وسع الدكتور محمد كامل حسين أن يجزم باستحالة نسبة هذا الرأي إلى «هذا الصمويل»؛ لأنه قد أصبح من الإشاعات الذائعة التي نقلت عنه إلى لغتنا العربية … وإحدى هذه الإشاعات مذكورة في كتاب يقرؤه طلاب الفلسفة بلغتنا في الجامعات وغير الجامعات، وهو كتاب نحو فلسفة علمية للدكتور زكي نجيب محمود؛ حيث يقول في مقدماته من الصفحة الخامسة عشرة بعد الكلام على هذا الصمويل: «فهو فيلسوف تجريبي تركيبي معًا، وهو يعتقد بأن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها تبحث في مشكلات أهم من مشكلات العلم، لكنهما معًا يدوران حول موضوعات بعينها.»
والدكتور محمد كامل حسين مولع بإعادة ابتكار الآراء التي يجهلها من آراء هذا الفيلسوف خاصة، ولكنه يطبقها كذلك على طريقة مبتكرة، بحق، لا يستطيع أن ينازعه فيها أحد غيره؛ لأنه يؤلف كتابًا وافيًا عن وحدة المعرفة كلها، ثم يقيم السدود بين أبواب المعرفة ويفرض الاختصاص في كل باب منها، ويحرم علينا نحن — بصفة خاصة — أن نميز بين مذاهب المفكرين؛ لأننا لا نحسنها كما يحسنها هو بمعرفته الشاملة الكاملة، ولا يجوز لنا أن نكتسب هذا التمييز بعد خمسين سنة في قراءة الفلسفة وعشرين سنة في تأليف الكتب المستقلة عن الفلاسفة: ومنها كتاب واحد عن عقائد المفكرين يميز بين مذاهب مائة مفكر على الأقل من أساطين الفلسفة الإلهية والفلسفة المادية، وبينهم من لا يستطيع الدكتور أن ينطق باسمه حقًّا، ولو على طريقة نطقه باسم هذا الصمويل!
وآية الابتكار في تطبيق الدكتور لقرار الاختصاص، الذي يسري على الناس ولا يسري عليه، أن اختصاصه هو — هو فقط — يضع يده على طلَّسْم مسحور أشبه شيء بطلسم «افتح يا سمسم» الذي لا يُغلق دونه باب من الأبواب، ولكنه إذا تحول إلى يد إنسان آخر، تساوى فيه «افتح يا سمسم» و«افتح يا حمص» و«افتح يا فول».
فالدكتور محمد كامل حسين طبيب مختص بعلاج العظام، وهذا اختصاص يجري تنفيذه على الآخرين فيمنعهم أن يشتغلوا مثلًا بعلاج العيون أو بعلاج الأنف والحنجرة، أو بعلاج أمراض النساء وغيرها من فروع الطب، وكلها تنتمي إلى صناعة واحدة.
أما إذا كان الاختصاص اختصاصًا للدكتور محمد كامل حسين، فذلك «اختصاص خاص» محجوز له لا يسمح به لغيره؛ لأنه يطلق له عنان الدعوى في جميع المعارف البشرية، ويجعله صاحب الرأي الأوحد بين الفلاسفة والأدباء، فلا يجوز لإنسان يتابع دراسات الفلسفة منذ أكثر من نصف قرن أن يناقشه في مسألة من مسائلها، ويستحيل على فِكَرٍ خطرت له أن تخطر على بال أحد قبله ولا بعده، ولو كان ذاك الأوحد في طبقة ذلك الصمويل بين فلاسفة الجيل!
وهل من اللازم أن يتحقق هذا الاختصاص في الواقع، وبالفعل، كما يقولون؟
كلا! لا يلزم ذاك أبدًا، لا يلزم ذلك على الإطلاق.
فالواقع — بشهادة الدكتور على نفسه — أنه، حماه الله، أبرأ خلق الله من ذلك الاختصاص؛ لأنه يقول: إنه يجهل كل الجهل مدارس الفلسفة الحديثة في القرن العشرين، وهي المدارس التي كتب عنها مؤرخوها باللغة العربية كالأستاذ يوسف كرم — مثلًا — صاحب تاريخ الفلسفة الحديثة (صفحة ٤١٣)، وكتبنا عنها — نحن غير المختصين — قبل ست عشرة سنة، وقرأناها قبل ذلك بسنين. ولم يمض غير ثلاث سنوات على احتفال من أشهر احتفالاتها، اشتركت فيه محطات الإذاعة العالمية وصحافة العلم والفلسفة وأندية الجامعات والمجامع العلمية والأدبية، وذلك هو الاحتفال (سنة ١٩٥٩) بانقضاء مائة سنة على مولد ذلك الصمويل النكرة جدًّا، على حسب قول الدكتور.
ويقول الدكتور إنه بحث عن معلومات — أي معلومات — عن هذا الفيلسوف فلم يجدها في دائرة المعارف البريطانية، فكان هذا دليلًا آخر على نصيب الدكتور من الخبرة بالبحث ومن الاختصاص المزعوم الذي لا يدانيه العموم.
فدائرة المعارف البريطانية «أولًا» ليست مرجع المختصين بدراسة الفلسفة؛ لأنها مرجع عام للمعارف البشرية تلم من كل معرفة منها بما تتطلبه الحاجة إلى المراجعة العامة، وإنما يعتمد المختصون على دوائر المعارف الفلسفية، ويعتمدون قبل ذلك على أمهات كتب الفلسفة وعلى مؤلفات الفلاسفة أنفسهم أو شروح المعلقين على مؤلفاتهم، ولو كان الدكتور يحسن البحث عن مراجعة لما احتاج إلى دائرة المعارف البريطانية في هذا الموضوع.
ودائرة المعارف البريطانية «ثانيًا» لم تهمل ذلك الصمويل، كما قال الدكتور؛ لأنها ذكرته ولخصت مذهبه في أول جزء من أجزائها وأحدث طبعة من طبعاتها، فإذا كان الدكتور لا يحسن أن يستخرج موضوعًا في الدائرة التي يراجعها «العموم»، فليس في نقص القدرة على البحث غاية بعد هذه الغاية، وإذا كان الدكتور يجزم بإهمال الدائرة؛ لأنه يملك طبعة منها غير الطبعة الحديثة، فليس للتعجل بالإثبات والإنكار غاية بعد هذه الغاية كذلك.
فكيف يجهل الدكتور، العليم بمراجع العلم، أن للدائرة طبعات تتجدد، وأن طبعتها قبل نيف وثلاثين سنة ليست هي أحدث الطبعات.
وكيف يرجع الدكتور إلى ترجمة حياة فيلسوف كان بقيد الحياة وظل بقيد الحياة بعد صدور الطبعة السابقة بعشر سنوات؟
وكيف يستطيل الدكتور باستقصاء مراجع البحث علينا ونحن نتابع هذه المراجع إلى أحدث تواريخها وهو لا يتابعها أو لا يحسن متابعتها؟
على أن الدكتور يقع في محظور أشد من هذا المحظور إذا قال إنه اعتمد على الطبعة الرابعة عشرة ولم يعتمد على أحدث الطبعات.
يقوم البناء الذي اقترحه للمعرفة على نظرية تفاضل القوانين؛ هيرارشية القوانين …
أي والله هكذا قال الدكتور!
إن الموجودات تنبثق في أحوال معينة وتتكون منها هيرارشية.
إلى أن قالت: «وبهذه الهيرارشية تكون الموجودات العالية لها صفات ما دونها، ولكنها تتصرف فيها بخلاف تصرفها، فهي تستمتع بصفاتها العليا باطنيًّا ومباشرة، ولكنها تدرك صفاتها الدنيا خارجيًّا على درجات، ولنا بالقياس العقلي أن نقدر وجود صفات أعلى من ذلك في الربوبية، فكما أن الوعي المدرك هو أعلى صفة في الإنسان كذلك الربوبية أعلى صفات الإله، وكيانه هو الوجود كله يترقى إلى الوجود الإلهي، ولما كان الزمن لا يبلغ تمامه — أو نهايته — أبدًا، فالصفات الأعلى فالأعلى لا تزال منبثقة على الدوام … ولا يزال العالم في تطلعه إلى الربوبية يحفز فينا الشوق الدائم إلى الله.»
فيا عزيزنا الدكتور!
يا مقترح الهيرارشية لأول مرة … ماذا قلت أنت في درجات الموجودات من المادة إلى العقل إلى الربوبية إلى الله غير ما قالته دائرتك المختارة عن ذلك «الصمويل» الذي أهملته ولم تعرفه؟ ولكنك أنت عرفته مبتكرًا معرفته بعد ظهور تلك «الدائرة المعارف» بثلاثين سنة أو تزيد.
ونعود إلى كتاب وحدة المعرفة: وحدة المعرفة التي هي من مبتكرات الدكتور لحساب ذاك الصمويل أيضًا، فلا نجد في فصل منه فكرة واحدة لم ترد في مذهب الفيلسوف «المجهول» لدى الدكتور، فليس هناك عبارة واحدة عن التطور الزمني، وعن ماهية الزمن، وعن التفكير الثنائي، وعن أصالة الصفات أو الأخلاق البيولوجية وعن القوانين والحوادث، وعن الحياة والوعي، وعن الربوبية والإله، لم يشرحها الفيلسوف المجهول ويتبرع له الدكتور بابتكارها مرة أخرى بعد سنين.
وليس في وسعنا هنا أن ننقل صفحات الكتاب كلها وننقل ما يقابلها من شروح فيلسوف المثالية التجريبية باتفاق الآراء، ولكننا لخصنا مذهب ألكسندر ومدرسته في كتابنا عن «الله» قبل ست عشرة سنة، ولا حاجة بالقراء إلى أكثر من بضعة شواهد من هذا التلخيص للحكم في مقام المقارنة بين ابتكار الصمويل وابتكار الدكتور.
إذا حدثت الحركة فذلك هو اتصال الزمان والمكان، وإذا وجدت الحركة وجد الإشعاع وتسلسلت الأشياء المادية من هذا الإشعاع، وهي تبدو على درجات، فأدنى طبقات المادة بعد صدورها من الفضاء والزمان هي المادة ذات الخصائص الأولية؛ وهي الحجم والشكل والعدد والحركة، ثم تعلوها طبقة الخصائص التي تترقى إلى اللون والصوت والرائحة ودرجة الحرارة، أو بعبارة أخرى أن الخصائص الأولية تُدرك بجميع الحواس، وأن الخصائص التالية لها تحتاج إلى التخصيص فتدرك كل منها بإحدى الحواس، ولا تتم الخاصة للشيء إلا مع اتصاله بشيء آخر، كما يتم اللون مع اتصال الشيء بالنور، ويتم الصوت مع اتصال الشيء بالهواء، فلا بد له في هذه الحالة من بعض التركيب.
وخلاصة مذهب الفيلسوف عن النظام والمنظم: «أننا إذا استبدلنا كلمة النظام بكلمة المنظم، فلا نعدو بذلك أن نسمي هذه الحقيقة الواقعة؛ وهي أن العالم يجري على نسق يخرج منه النظام، وفي وسعنا أن نسمي العالم الذي ندركه على هذا النحو؛ إلهًا.»
وفي صفحة (٢٥٤) نلخص كلامه عن العقل والربوبية وهو: «أن الكون لا يزال يعرض لنا انبثاقًا بعد انبثاق بسلسلة من الكائنات المحدودة، يتسم كل منها بخصائصه وصفاته، وأرفع هذه الصفات المعروفة لدينا هو العقل أو الواعية، والإله هو الكائن الذي يعلو على أعلى ما عرفناه.»
وتتمة هذا الرأي قوله إنه: «لما كان الزمان أبديًّا بغير انتهاء، وكان هو مصدر النماء والارتقاء، فليس في استطاعتنا أن نتخيله واقفًا عن إخراج تلك الكائنات المحدودة التي تتسم بسمة العقل أو الواعية، ولا بد لنا من أن نرسل الفكر على الاتجاه الذي ترسمناه من تجارب الانبثاق السابقة، التي تمخضت عن الصفات الرفيعة، فإن في الزمان والفضاء باعثًا يدفع مخلوقاتهما إلى طبقة أرفع فأرفع، كما دفع بها إلى الطبقة العاقلة أو الواعية. وليس في العقل ما يدعونا إلى الوقوف عند حد من الحدود لنقول إنه هو الحد الأقصى لما يبثقه الزمان من الآن إلى أبد الآباد، بل يكرهنا الزمان نفسه على انتظار مولود آخر من مواليده، ومن ثم يسوغ لنا أن نتتبع سلسلة الصفات، ونتخيل تلك الكائنات المحدودة التي سميناها ملائكة، وهي كائنات تستمتع بوجودها «الملائكي»، ولكنها تتأمل العقل على نحو يعجز العقل عنه، كما نرى العقل يتأمل ما دونه من مراتب الحياة والموجودات السفلى … وعلينا أن نسأل: كيف تكون العلاقة بين هذه الآلهة المحدودة المسماة بالملائكة، وبين الإله الذي ليست له حدود؟ …
فالإله إذن هو الطبقة المثالية التي تعلو على طبقة العقل والواعية … والإلهية.
صفة تتولى الصفات التي دونها من طبقة العقل الذي يقوم هو أيضًا على ما دونه من صفات، وينبثق عندما تبلغ الكائنات مبلغًا مقدورًا من التركيب والتنسيق.
ويمضي الفيلسوف في التقدير والتخمين، فيقدر أن الإله الأعلى الذي ينبثق عنه العالم هو من معدن الروح والعقل؛ لأنهما الطريق التي تَأَدَّيْنَا منها إليه، ولكنه يشارك الموجودات في خصائصها الكونية، كما يشترك الإنسان العاقل في خصائص المادة وخصائص سائر الأحياء على نحو من الأنحاء.»
فالوجود على رأي هذا الفيلسوف درجات، هي: (أولًا) وجود الزمان والمكان. و(ثانيًا) وجود المادة التي لا كيفية لها غير الشكل والحجم والعدد، وما لا يحتاج إلى علاقة بغيره ولا حاسة مميزة لإدراكه. و(ثالثًا) وجود المادة التي تتكيف باللون والرائحة والصوت، ويبلغ بها التركيب مبلغ التمييز بالحاسة التي تناسبها. و(رابعًا) وجود الحياة، وتبدأ بالاستجابة الحسية التي تشبه في ظاهرها استجابة بعض المواد غير العضوية لبعض المؤثرات. و(خامسًا) وجود الحياة العاقلة الواعية. و(سادسًا) وجود الإله الذي يعلو ويعلو مع الزمان الأبدي السرمدي بغير انتهاء.
وبعد الإلمام بهذه الملخصات، وقبل أن نتعلم شيئًا من التواضع المبتكر الذي «يقترحه» علينا الدكتور، نسأله: ما رأيك في تلخيص هذا الكتاب الفضولي على علم تجبير العظام وملحقاته؟ وما رأيك فيه إلى جانب تلخيص دائرة المعارف السابقة واللاحقة للموضوع بذاته من مذهب الفيلسوف؟ أليس هو على الأقل مساويًا لتلخيص الدائرة التي هي كل سندك في طلب المعلومات الفلسفية؟ أليس يحق لهذا الفضولي على فلسفة تجبير العظام وملحقاتها في حدود التواضع المحدود، أن يميز بين ما تبتكره أنت وبين ما يجترئ على ادعائه ذلك الصمويل؛ ذلك النكرة الذي أقدم على ابتكار شيء تنوي أنت أن تبتكره بعده بثلاثين سنة؟!
ونضع أمامك ما ابتكرته أنت حيث تقول: «نستطيع على ضوء هذا التعريف أن نقول إن رب أي شيء هو القوة العالمة القادرة، التي تمثل قانونًا أعلى منه يؤثر في حياته دون أن تتغير بذلك قوانينه.»
وحيث تقول: «سبق لنا في شرح مذهب تفاضل القوانين أن بينَّا علاقة ما هو أعلى بما هو أدنى، ثم ذكرنا أنه قد يكون في هذا المذهب مفتاح نظرية الربوبية وموضعها العلمي من النظام الكوني.»
ونضع أمامك ما ابتكرته أنت حيث «وحدة المعرفة» بالعنوان المستعار من مذهب الصمويل في المعرفة الموحدة، ثم تفتح الكتاب بالهيرارشية التي تراها في دائرتك، ثم تختمه بنظام التطور الكوني من أدنى كل شيء إلى سماء الربوبية، ثم ماذا يا هذا؟ أو يا هؤلاء إكبارًا لك عن ذاك وهذا؟!
نقول نحن إن التشابه تام بين مبتكراتك ومنتحلات الصمويل قبلك.
ثم تقول أنت إنه جهل منا بالتمييز بين المذاهب والآراء؛ لأن هذا التمييز يحتاج إلى زمن طويل ويشترط فيه البدء بالقدرة على تجبير العظام، ثم لا يكفي فيه أكثر من قراءة خمسين سنة، وأكثر من عشرين مبحثًا وكتابًا في مذاهب الفلاسفة والمفكرين، ثم لا غنى فيه عن طريقة واحدة من البحث؛ هي طريقتك في بحث دوائر المعارف ومراجع العلوم.
يا دكتور، إن كنت بعد هذا لا تحس حاجتك إلى التمييز الذي جردتنا منه، فأنت من أسعد خلق الله.