مثل في التواضع والخبرة بالدراسة١
سئلنا رأينا في التشابه بين مذهب ألكسندر وكتاب وحدة المعرفة للدكتور محمد كامل حسين، فقلنا إن التشابه تام بين الأفكار التي وردت في كتاب وحدة المعرفة، وبين تفصيلات مذهب ألكسندر التي بسطها — على الأخص — في كتابه عن المكان والزمان والربوبية، وأحلنا الرد في أمر الاقتباس وتوارد الخواطر إلى الدكتور محمد كامل حسين؛ مجاملة له وإبقاء على كرامته، إذا شاء أن يُبقي عليها.
وبعد أسبوع من ظهور اليوميات نشر الدكتور رده، فإذا هو يقابل منا هذه الرعاية بما يدل على حقيقة حظه من البحث والعلم والخبرة بالدراسات الفكرية، كما يدل على حقيقة حظه من أصول المناقشة والمناظرة.
فمما قاله الأستاذ في رده: «لا أعرف هذا الصمويل ألكسندر الذي يصفه الأستاذ العقاد أنه أبو فلسفة بعينها في إنجلترا.»
ومما قاله عن هذا الفيلسوف: «ولم أعثر على معلومات عن هذا العَلم من أعلام الفلسفة الإنجليزية، ودائرة المعارف البريطانية لا تعرفه، ولا أدري هل هو فيلسوف لجأ إلى العلوم ليثبت نظرياته، أم هو أصلًا عالم طبيعي امتد به التفكير العلمي إلى أن شمل المباحث الفلسفية.»
وقال عن فلسفة ألكسندر أيضًا: «ولو قرأ الأستاذ العقاد الكتاب كله، وعكف على تفهمه ودرسه درسًا دقيقًا — وهو كتاب عسير — لرأى فيه أشياء كثيرة لا يمكن أن تكون في كتاب صمويل هذا.»
أما نصيبنا نحن من تحقيق البحاثة وأسلوب مناقشاته، فمنه «أن الأستاذ العقاد … ليس صادق الحس في البحوث العلمية وما يقوم عليها؛ لأن صدق الحس في العلوم ينشأ من ممارستها ممارسة طويلة، وقد خانه الحس حين ذكر أن التشابه تام بين كتابي وكتاب من يلحد إليه؛ لأن الفرق بين المذاهب العلمية قد يدق على من لا يحسن العلم بها.»
ومنه: «وإني أرجو الأستاذ العقاد رجاء حارًّا أن يقرأ كتاب وحدة المعرفة قراءة درس واستيعاب، وهو قد لخص كتاب صمويل وقد يرى أن يلخص كتابي أيضًا، وهو قد شرح فلسفة صمويل في كتابه عن الله، ولعله يشرح فلسفتي في كتابه عن نفسه، وهو الكتاب الذي سيظهر قريبًا، والذي سيكون عنوانه — من غير شك — التواضع.»
فنحن إذن من الناس الذين لا يحسنون التفرقة بين المذاهب العلمية؛ لأننا لم نمارسها ولم نمارس المباحث الفكرية كما مارسها الدكتور محمد كامل حسين، وهو كما يعلم القراء طبيب عظام.
ونحن إذن نحتاج إلى التواضع لنفهم فلسفة الدكتور، وليس مما يعطينا حق الدراسة الفلسفية عشرون كتابًا ألفناها منذ عشرين سنة؛ في الفلسفة الإلهية، وفي عقائد المفكرين، وفي الفلسفة القرآنية، وفي فلسفة ابن سينا، وفلسفة ابن رشد، وفلسفة باكون، وفلسفة الحكم، وغيرها وغيرها من مذاهب الفلسفة في القديم والحديث.
ونحن إذن نفتقر إلى التواضع الذي يتحلى به الدكتور، وإلى تمحيص الدعاوي العلمية على طريقته التي يجيدها؛ ومنها ادعاؤه على كتاب يزعم أنه لم يقرأه أنه يستحيل أن تكون فيه تلك الآراء التي يجوز أن تخطر على بال أحد سواه!
وبغير دليل على الإطلاق يقول الدكتور ما قال، ولكننا بدليل من كلامه وشاهد من قلمه على نفسه نقول: إن الدكتور لا يُحسن البحث والدعوى، ولا يحتاج إلى شيء كما يحتاج إلى التواضع، ولا يحق له أن يخوض في مسائل الفلسفة؛ لأنها شيء غريب عن تجبير العظام.
فالدكتور المجبر لم يُمارس البحث مراسًا طويلًا ولا قصيرًا، وإلا لما فاته أن يعرف صمويل ألكسندر، الذي عرفناه وشرحنا مذهبه منذ أكثر من ست عشرة سنة، ولو كان ممن يمارسون البحث لما قال عن صمويل ألكسندر «هذا الصمويل» أو صمويل هذا، أو أنه لم يعرفه ولم يسمع به وليس بين الفلاسفة المعاصرين من هو أشهر منه في عالم الثقافة الأوربية.
ومن طريقته، التي نجانا الله منها في حسن البحث، أنه يزعم أن دائرة المعارف البريطانية لا تعرف «صمويل هذا»، وهي قد عرفته وقالت عنه إنه أحد الفلاسفة القلائل الذين تمموا للفلسفة فيما وراء الطبيعة مذهبًا كاملًا يُنسب إليه …
ثم لخصت الدائرة فلسفته فقالت ما ترجمته حرفيًّا: «إن التقاء الزمان والمكان عنده كأنه رحم كوني تتولد منه طبقات من الكائنات، تشتمل على خصائص المادة والحياة والعقل، كل منها تحيط بما قبلها وتدل على اتجاه إلى ما هو فوقها، والربوبية دائمًا هي الطبقة الثانية بعد الطبقة التي اتجه إليها التطور الكوني.»
ثم تقول الدائرة: «إن ألكسندر مُنح وسام الاستحقاق سنة ١٩٣٠، وإن تمثالًا له من صنع أبشتين — أكبر المثالين في عصره — مقام على مدخل دار الفنون بجامعة منشستر.»
وقبل أن ننتقل إلى التعقيب إلى ما تقدم، نقول إن الأفكار التي سمح للدكتور محمد كامل حسين تحقيقه العلمي أن يقول باستحالة ورودها في كتاب الفيلسوف الكبير؛ قد احتواها كلها تلخيص دائرة المعارف البريطانية، التي يقول الدكتور إنها لا تعرفه، فلم يكن مستحيلًا أن يشرح ألكسندر تفاضل القوانين من المادة إلى العقل قبل أن يبتكر الدكتور — على دعواه — هذا الترتيب في دراسة المعرفة والتطور كما قال على صفحته الثالثة: «وهي قوانين المادة، ثم تتلو ذلك قوانين الحياة … ثم تأتي بعدها قوانين الإنسان وهي أخص وأرقى.»
وفي صفحة ١٦١ — أي في أواخر الكتاب — يقول الدكتور: «إن لكل شيء ربًّا، وإن رب أي شيء هو القوة أو القانون الذي يعلوه … وقد يكون في هذا المذهب مفتاح نظرية الربوبية وموضعها العلمي من النظام الكوني.»
فمن صفحة (٣) إلى صفحة (١٦١) في كتاب وحدة المعرفة يحكي الدكتور مذهب الفيلسوف، ولو اكتفينا منه بهذه الخلاصة في دائرة المعارف البريطانية التي تعرفه، ولكن العجب العجاب إنما يدرك القارئ من المراجعة بالكلمة والعبارة لما قد شرحه ذلك «الصمويل» — على حد قول الأستاذ المتواضع محمد كامل حسين!
وبالدليل القاطع يثبت إلى الآن نقيض كل ما ادعاه الأستاذ لنفسه وادعاه علينا.
فليس هو طويل الدراسة للمباحث الفكرية؛ لأن من كان طويل الدراسة لها لن يبلغ من جهله بفلسفة القرن العشرين القريبة أن يخفى عليه مذهب المثالية التجريبية وهو بهذه المكانة من عالم الثقافة.
وليس الدكتور بالرجل الذي يعلمنا أدب التواضع؛ لأن المتواضع يذكر الحياء الواجب حين تحدثه نفسه باحتقار هذا «الصمويل» لغير ذنب جناه غير فلسفته التي يتعالى بها السيد الهمام.
وليس الدكتور محققًا في بحثه وتمحيصه؛ لأن الباحث المحقق لا يدعي على دائرة معارف تملأ الأرض أنها خالية من ذكر الفيلسوف، وهي تنوه بشأنه هذا التنويه.
ولا نريد بعد هذا كله أن نتعلم على يد الدكتور درسًا في التواضع؛ لأننا قد نحس بعد مقالاته ودعاويه أننا بحاجة شديدة إلى درس آخر يعوزنا إلى الآن.