بين البحث والتخمين١
فالله تعالى يخبرنا في سورة «ص» بحديثه مع الملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.
والمبدأ الأول الذي يقرره الأستاذ ويقرره مع فضيلته كل باحث في معاني القرآن الكريم، هو أن قواعد اللغة العربية تقضي «بأن اللفظ لا يُصرف عن معناه الظاهر إلا لضرورة تقتضي ذلك»، وإلا كان صرف اللفظ عن معناه ضربًا من التخمين.
وهذا — كما تقدم — مبدأ يقرره مع الأستاذ كل باحث في معاني القرآن الكريم وفي معاني اللغة في كل كلام مفيد.
وإنما يحتاج الأمر إلى التعريف بالتخمين ما هو، وما الفرق بينه وبين البحث عن المعاني في أخبار الوحي بالأمور الغيبية على التخصيص، وهي باتفاق الأقوال معلومة الكلمات مجهولة الكيفيات، وعلى الأخص فيما يُنسب إلى الخالق — سبحانه وتعالى — من عمل أو كلام.
فالتخمين — قطعًا — في معنى هذه الآية وسائر الآيات أن يزعم قارئ القرآن أن التسوية الإلهية كالتسوية التي نعهدها في أعمالنا نحن المخلوقين من الآدميين، وأن النفخ في خلق آدم من الطين كالنفخ عندنا بالأفواه، وأن طينة آدم كطينة التمثال الطيني الذي يصوره المثالون مشابهًا للإنسان بالأعضاء والوظائف بغير حراك.
إن الذي يزعم ذلك «يخمن» في فهم اللفظ والمعنى بلا جدال؛ لأن أعمال الإله — جل وعلا — تنزهت عن مشابهة الأعمال الآدمية، وعن كل عمل محدود عن أعمال المخلوقات.
فليست معاني الكلمات في المعجمات اللغوية هي مدار البحث عن تفسير هذه الآيات؛ لأن الأمر فيها يرجع إلى الكيفيات المجهولة التي نجزم بحقيقة واحدة منها، وهي أنها «كيفية» منزهة عن مشابهة أعمال المخلوق.
ما التسوية؟ وما النفخ؟ وما الروح؟ وما مدلول الآية الكريمة بعد التحقق من معاني هذه الكلمات؟
إذا كانت «الكيفيات» مجهولة هنا، فالمعلوم الذي لا خفاء به قطعًا أنها ليست تسوية باليدين على مثال تسوية المصورين الآدميين، وأنها ليست نفخًا بالأفواه كما ينفخ الإنسان الهواء في الطين أو غير الطين، وأن الروح ليست بالروح الإنسانية، وليست على أية حال بالكيفية المحدودة بالقواميس والمعاجم؛ لأن روح الإنسان المخلوق مجهولة يعلمها الله وحده كما نفهم من آي الكتاب، وندع الكلام فيما هو أعظم من ذلك وأخفى على العقل من معنى الروح منسوبًا إلى الله.
كل ما يجوز أن نفهمه من معنى النفخ أنه بث قوة الحياة في الطين.
وفي كم من الوقت حدث هذا؟ أفي لمحة واحدة؟ أفي يوم واحد؟ أفي الدهر المتطاول؟
من جزم بشيء من ذلك، فإنما يخمن ويجزم على التخمين.
بل لو قيل إن هذا كله تم في وقت كلمح البصر، لما جاز لأحد أن يحصره في اللمحة المعهودة لدينا؛ لأن اللمحة عند الله يتم فيها أمر الساعة كله: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.
وهذه اللمحة مقرون بها في القرآن الكريم خلق كل شيء وتقديره: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
وإذا قيل إن بث الحياة في طينة آدم تم في يوم واحد، فإن اليوم الواحد مجهول المقدار في علم الله: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ، وقد يكون اليوم خمسين ألف سنة كما جاء في قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وهذا من حيث الموعد المقدور لبث الحياة في طينة آدم بعد تسويتها.
فما هي التسوية؟ وكم من الزمن قدره الله تعالى لإظهار هذه التسوية في خلق الطين وفي خلق البنية الآدمية منه؟
من جزم بوقت محدود لهذه التسوية، فذلك هو التخمين بغير دليل، ومثله في التخمين بغير دليل أن يزعم الزاعم كيفية لهذه التسوية يمتنع ما عداها ويحرم علينا أن نفهمه من مدلول الآيات.
وإذا كان هذا هو مدلول النفخ والتسوية والطينة، فالحقيقة التي هي أجل من ذلك قدرًا وأخفى من ذلك سرًّا، هي حقيقة الروح ومعناها المقصود في قولة تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي.
فإن كلمة الروح قد وردت في عدة مواضع في القرآن الكريم:
منها قوله تعالى في سورة الشورى: كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا.
ومنها قوله تعالى في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ.
ومنها قوله تعالى في سورة النحل: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ.
ومنها في سورة النساء: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ.
ومنها في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا.
وفي سورة الأنبياء: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ.
وكل كيفية يحدث بها نفخ الروح بالمعنى الذي وردت به في هذه الآيات، فهي كيفية مفروضة على التخمين، وكل جزم بإنكار ما عداها فهو جزم مفروض على التخمين، وقد كان نفخ الروح من قبيل ولادة عيسى — عليه السلام — وكان من آياته أن يتمثل بشرًا سويًّا في غير هذا المقام، وكان الروح وحيًا ومصدرًا للوحي، وسرًّا محجوبًا عن علم بني آدم في جميع هذه الأحوال.
ونعود بعد هذا البيان عن معاني الكلمات لنقرر مرة أخرى، كما قرر صاحب الفضيلة الأستاذ السبكي، أنها كلمات عربية، وأن الكلمات العربية جميعًا خاضعة لقواعد اللغة تنصرف إلى معناها، ولا يجوز أن تؤخذ بالتخمين، ولها معنى صريح في اللغة لا يجوز صرفها عنه إلى غيره.
نقرر هذا المبدأ مرة بعد مرة، ولكننا لا نراه في مرة من المرات يُجيز للمفسر أن يقول إن تسوية الطين كانت على هذه الكيفية دون غيرها، وإن النفخ فيه على هذا النحو دون سواه، وإن روح الله يعمل عمله في بث الحياة وإخراج الأحياء من الطين على هذا المثال باستثناء كل مثال آخر، وإن التسوية والنفخ وخلق آدم — عليه السلام — قد تم كله في لحظة واحدة، وإن هذه اللحظة لا تكون ألف سنة ولا خمسين ألف سنة، ولا ألف ألف سنة؛ لأنها لحظة واحدة مما تلحظه العين الإنسانية، ولا تدل اللغة العربية على معنى معقول لها غير هذا المعنى.
إن هذا المبدأ لا يُجيز للمفسر أن يجزم بقول من هذه الأقوال، إلا أن يكون قوله تخمينًا يعوزه السند القاطع ولا يلزم أحدًا غيره.
وعلى المسلم أن يؤمن بأن الله تعالى بث روح الحياة في الطين، وسوَّى الطين سلالة خرج منها آدم — عليه السلام — ولكن ليس لأحد أن يفرض عليه كيفية للتسوية والنفخ والخلق يلغي كل ما عداها، وأن يقرر للتسوية والنفخ والخلق وقتًا محدودًا باللمحة أو اليوم أو الدهر، ويكون بمقدار واحد ولا يكون بغير ذلك المقدار.
ومما رُوي عن أبي هريرة: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمِراء في القرآن كفر، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه.»
وأيًّا كان القول في سند هذا الحديث، فالمبدأ السليم الذي قرره صاحب الفضيلة الأستاذ السبكي ينهانا أن نقيد كلمة من كلمات الآية الكريمة بكيفية محدودة ووقت محدود، وما سوى ذلك فهو التخمين الذي ينهى عنه الأستاذ كما ينهى عنه كل مسلم غيور على القرآن وعلى عقائد الإسلام.