الكتب الدينية في الحضارة الحديثة١
من أبناء الشرق الذين لا يزالون على فتنتهم بالحضارة الأوربية، أناس يحسبون أنهم مطالبون بالرجوع إلى الغرب للعلم بسمت العصر في شئون الفكر والضمير، فلا يبيحون لأنفسهم أن يطلعوا على موضوع من موضوعات القراءة الجدية، أو قراءة التسلية وتزجية الوقت، غير الموضوعات التي يقرؤها الأوربيون المعاصرون، وقد يخجل أحدهم أن يُرى في يده كتاب مما يسمونه بالطراز القديم، كما يُخجله أن يُرى وهو في زي «عتيق» غير أزياء «المتمدنين» العصريين.
والشائع بين هؤلاء «العصريين» على التقليد والسماع أن قراءة الكتب الدينية في هذا الزمن «تقليد» قديم، هجره أبناء المدنية الحاضرة وخلفوه وراءهم لأبناء القرون الوسطى؛ وهي التي تشتهر الآن باسم قرون الظلام، أو قرون الجهل والخرافة، ويظنون أنها من أجل ذلك كانت تقترب من موضوعات الدين، على قدر ابتعادها من موضوعات العلم الحديث، أو على قدر ابتعادها في الزمن من تفكير أبناء القرن العشرين.
وقد عناني هذا الظن الشائع فخطر لي منذ زمن بعيد أن أتحققه في مراجعه، التي تهيئها لنا الإحصاءات الكثيرة في سجلات عصرنا، وهو كما نعلم يعتمد في كل تقدير على مراجع الأرقام، وجعلت أحضر ذلك الظن في خلدي كلما اطلعت على بيان جديد عن المطالعات والتواليف عند القوم، فثبت لي ثبوت اليقين أن القراءة الدينية بين الغربيين المحدثين تأتي في المقدمة بين أنواع القراءات العامة بغير استثناء، وأن الفرق بينهم وبين أسلافهم من أبناء القرون الوسطى يوشك أن يعكس القضية الشائعة عن تدين الأوربي قبل بضعة قرون، وانصراف الأوربي المعاصر عن الدين، أو عن الشئون الدينية، بالقياس إليه.
وتتبين هذه الحقيقة من مراجعة الصحافة، كما تتبين من مراجعة التقاويم السنوية، فإن الصحف التي تخصص بعض أبوابها لنقد الكتب والتواليف على العموم، تفرد في مواسم العام، لمناسبة الأعياد الدينية، أعدادًا مستقلة لما يصدر خلال هذه المواسم من كتب الدين، ومباحث العقيدة، بأقلام المفكرين، وأقلام رجال الكنائس المختلفة، وتشترك في اتباع هذه السنة الدورية صحف مشهورة، لا يخطر على البال أنها تشتغل بهذه المباحث وتستعين — بين محرريها — بمن يُحسن الكتابة فيها، إلى جانب المحررين المتخصصين، بشئون السياسية العامة، أو شئون الفن والأدب.
فصحيفة التيمس — مثلًا — تخصص عددًا من أعداد ملحقها الأدبي في شهر مارس الماضي للتعليق على الكتب الدينية، وتفتتحه بمقال ضاف عن: أثر العقائد في سياسة العصر الحاضر، وفي تطور الفكر الاجتماعي بين أمم القارة، التي يظن أنها أشد هذه الأمم إمعانًا في محاولة الفصل بين الدين والسياسة، ويقول كاتب هذا المقال ما فحواه: إنه ما من أحد يفهم بواطن النزاع بين الطوائف السياسية والاجتماعية في فرنسا، ما لم يدخل في حسابه أسماء الدعاة والمفكرين، الذين تُعرض أسماؤهم منقوشة على جدران الكنائس، تحت عنوان «الشهداء» وضحايا الزمن الأخير.
ومن موضوعات الكتب التي عُرضت في هذه الصحيفة: موضوع عن القصة، في عصر الملكة فكتوريا، ينظر فيه مؤلف الكتاب إلى قصص ذلك العصر، من حيث هي «منابر للوعظ» و«كراسي للاعتراف».
وموضوع عن الخير الإلهي، ومشكلة الشر في العالم الإنساني.
وموضوع قريب منه عن «الحب الإلهي» في عصر الحروب العالمية.
وموضوع في تقديم إنجيل يوحنا، من كتب العهد الجديد.
وموضوع الرحلات، التي قام بها أحد القساوسة العلماء، في بلاد الصين والهند، وجاوة وإثيوبية، وأفريقيا الجنوبية.
وموضوع عن أعمال أحد الأطباء «التبشيريين» في أواسط القارة الأفريقية.
وموضوع الكتب المقدسة بالصور والرسوم، ومنها الصور الشمسية، والصور التي نقلت عن لوحات الفنانين الأقدمين والمتأخرين.
وموضوع حرية العبادة والدين في البلاد الروسية، والهرطقات القديمة والحديثة، واللفائف الأثرية التي كُشفت أخيرًا بوادي القمران، والقرى الاجتماعية والروحية والعودة إلى الينابيع، وتحرير المبادئ الخلقية على قواعد المسيحية، ووجهة النظر في الكتب المقدسة إلى مسألة «الجنس» ومسألة الزواج، وتاريخ البابوات مع الدعاة البروتستانتيين، وأشباه هذه المباحث من صميم «الموضوع الديني» كما تعالجه معاهد العبادة، ولا يلزم أن يكون من مباحاث المعلقين على شئون الدين بأسلوب العالم، أو أسلوب المؤرخ، الذي يعرض لمسائل العقيدة، كما يعرض لغيرها من المسائل «الدنيوية».
ولهذه المطالعات جميعًا جمهورها الواسع بين طوائف المتدينين، والمهتمين بالعقيدة الدينية في حياتهم الخاصة، إلى جانب حياتهم الاجتماعية.
وهذا الاهتمام، هو الذي يفتح الباب للمقابلة بين العصر الحديث، وبين عهود القرون الوسطى، في القارة الأوربية.
فليس «الإخلاص الباطني» في الإيمان والعبادة موضوع ملاحظة تاريخية، تصلح للمقابلة بين العصور؛ لأن ظواهر التدين في الأمم هي في كل حال ظواهر الاهتمام التي تتراءى بعلاماتها المشهودة للعيان، وكل ما عداها من البواطن الخفية، فإنما هو سر للفرد في حياته الخاصة، لا يسهل الحكم على نصيبه من الإخلاص والصدق، أو نصيبه من النفاق والمداراة، ومن الموافقة والمجاراة.
وزيادة الاهتمام بالدين في العصر الحديث غير محتاجة إلى دليل من ناحية القراءة والقراء، أو النسخ المتداولة من الكتب المطبوعة، فإن الفارق هنا بين القرون الوسطى والقرن العشرين، هو الفارق بين عدد الأميين أمس وعدد الأميين اليوم، أو هو الفارق بين عدد المخطوطات المنقولة وبين ما تصدره المطابع السريعة في هذا العصر بالألوف والملايين؛ حيث كانت مطابع الأمس لا تقوى على إصدار عدد من الكتب في مثل هذا الوقت يزيد على المئات.
لكن هذا الفارق بين عدد الأميين بالأمس واليوم، يدل على درجة الاهتمام من جانب آخر، غير جانب المقدار المتداول من الكتب الدينية، وهو اضطرار «الجمهور» إلى ترك الأمر كله في فهم كتب الدين إلى رجال الكهنوت المنقطعين للاطلاع عليها، فلن يكون هذا الاهتمام غير نوع من التسليم، لا فرق فيه بين الإهمال والعناية؛ لأنها عناية بالاتكال على الآخرين.
وربما كان استبداد السلطان الديني بالأمر في القرون الوسطى، وقدرة المتسلطين على تعذيب المخالفين، والبطش بالمنازعين لهم في هذا السلطان؛ هو الذي خيل إلى الناس أن أبناء القرون الوسطى كانوا في أمور الدين أشد غيرة وأعمق إخلاصًا من المعاصرين.
إلا أننا نخطئ إذا فهمنا ذلك من دلائل الاستبداد الذي اجتمعت قوته بين أيدي المتسلطين الدينيين، فإن استبدادًا كهذا الاستبداد — أو أشد منه — كان مجتمعًا بين أيدي المتسلطين من الملوك والأمراء، وأيدي الحكام على الإجمال، ولا يسوغ لنا أن نفهم منه أنه كان دليلًا على اهتمام جمهور الناس بأحوال السياسة وقضايا الحكم في تلك العهود، بل لعل هذا هو الدليل على تهاونهم بتلك الأحوال وتلك القضايا، وتسليمهم فيها إلى الحاكمين المستبدين بغير سؤال.
وإذا أردنا أن نحكم على أبناء العصر الحاضر بالاستخفاف بأمر الدين من وفرة المقروءات في فنون الكتابة الخليعة، أو الحملة على العقائد الدينية، فالذي يلوح لنا أن أبناء القرون الوسطى أولى من المحدثين بتهمة الاستخفاف، وأوفر قسطًا من القول الخليع، والتنديد بحياة التدين والمتدينين.
فإن المجون في أقاصيص القرون الوسطى لا نظير له في الأدب المعاصر، الذي يُسمى بالأدب المكشوف، ولا يجرؤ أحد على نشره في غير الطبعات السرية.
وربما كان استبداد السلطان الديني بالأمر في مسألة هامة كمسألة القراءة، أمرًا تقتضيه أمانة الإنسان لعقله، إن لم يكن للدين شأن كبير في حسابه، ولكننا نصحح النظر إلى التاريخ الإنساني كله، إذا فهمنا أن زيادة رقم السنين على صفحة التقويم لا تعني حتمًا أنها نقص مطرد في العناية بأمر الدين.