دعوى في الميزان١
ورد ما يلي بالعدد رقم ١١ من سلسلة أعلام العرب، التي كان لكم فضل بدئها بالكتاب الرائع عن الإمام محمد عبده، ولم أقصد إلا الإيماء بما كُتب حتى لا تكونوا عنه غافلين.
يقول مؤلف الكتاب إنه «ليس من التاريخ ولا العلم في شيء أن تسمى عبقريات محمد وفلان من أصحابه، ثم يكون الحديث عن فلان آخر من هؤلاء الصحابة، فإذا اسم الكتاب فلان في الميزان، وإنما الأمر أن الكل جميعًا في الميزان.»
ويقول: «… لا تكون الترجمة مع شيء من هذا موضوعية، وعلى هذا الأصل تدرك ما تكون عبقرية عمر حين يقول السيد مؤلفها … إلخ.»
ثم يقول: «من خفيف الملاحظة التي تغير سيرة المترجم له تغييرًا عنيفًا، وتتبين بها الحاجة الشديدة للأصول التاريخية في رسم الصورة الأدبية؛ أن عبقرية الإمام … في طبعة الهلال تزين غلافها صورة فارس على جواده شاكي السلاح … فكلمة التاريخ أن عليًّا ليس في خير أحواله فارسًا — راجع الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان — فصورة الغلاف ضد هذه الحقيقة واحترام التاريخ يستبعدها.»
فهل يجوز لناقد نزيه أن يحكم على كتاب مثل عبقرية الإمام بصورة الغلاف؟ وهل يكون من التاريخ ومن العلم أن تتناول ترجمةٌ ما الهجوم على العقاد، بينما المؤلف نفسه يقرر في صفحات الكتاب أنه ليس من العلم ولا من التاريخ أن تتناول الترجمة دفاعًا عن المترجم له وردًّا لهجوم الهاجمين عليه؟
ثم لماذا العقاد بالذات والدنيا مملوءة بالكُتاب والنقاد؟ هل هي الشهوة الجامحة لتجريح العظيم؟ أو هو شيء آخر في الصدور؟
ألا نقرأ في صفحة اليوميات كلمة ملجمة في إيضاح هذا الذي يسمونه بالأصالة وهم يتطاولون إلى نقد مؤلفاتكم؟
طالعت أخيرًا كتاب الأستاذ أمين الخولي، يصف في مقدمته العبقريات بأنها ليست تاريخية علمية … فهل ينطبق هذا على ما طالعته سابقًا في الصفحة السابعة من عبقرية الصديق طبعة الهلال؛ حيث تقولون ما نصه: «في تقديم كتابي هذا عن عبقرية الصديق أقول ما قلته في عبقرية محمد وعبقرية عمر وكل كتاب من هذا القبيل، وفحواه أنني لا أكتب ترجمة للصديق — رضي الله عنه — ولا أكتب تاريخًا لخلافته وحوادث عصره … ولكنني أقصد أن أرسم للصديق صورة نفسية تُعرفنا به، وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله كما تجلو الصورة ملامح من تراه العين.»
وإنني لفي عجب ودهشة … أرجو أن أجد جوابًا شافيًا بمتابعتي يومياتكم بالأخبار.
والقراء الكرام مشكورون على غيرتهم، وإن كان لي عتب على هذه الغيرة؛ أنها كلفتهم سؤالًا في أمر غني عن السؤال!
فقد مرت بي أقاويل قديمة وحديثة من قبيل هذه الأقاويل، يسميها الشيخ أمين الخولي نقدًا موضوعيًّا أو علميًّا أو منهجيًّا، إلى آخر هذه المحفوظات المتواترة بغير معنى، فعودتنى أن أحسبها في عداد القراءات التي لا تحتمل المناقشة؛ لأنها مما يتهافت بعضه على بعض بغير حاجة إلى جواب، ولست أغير رأيي فيها بعد هذه الإضافة الجديدة التي تفضلوا بنقلها إلينا، ولكنني أجيبهم هم ولا أرى الأمر يحتاج إلى إفاضة في الجواب لجلاء الحقيقة في قيمة كل ذلك الفراغ، الذي ينطوي تحت فقاعة الموضوعية أو المنهجية أو العلمية أو الواقعية أو التحليلية أو أشباهها من فقاقيع المصطلحات الخاوية، وهي لو كانت مسبحة ألفية يكرون حباتها كل يوم وكل ساعة، لما خلقت في عالم الفكر باحثًا من غير باحث، ولا حجبت فضلًا يعرفه ذووه.
وما رأيت أحدًا يأخذ الشيخ أمين الخولي مأخذ الجد فيما يدعيه لنفسه وما يدعيه على غيره، بل ما عرفت إنسانًا يتعالم على الناس وهو أحوج منه إلى أن يتعلم ممن يتعالم عليهم، وليس أضيع من كلام يذهب في مناقشة صاحب دعوى يحسب أن اللياقة تسمح له أن يقدم كتابًا، فلا تكون مقدمته إلا عرضًا رخيصًا قصاراه أن يقول فيه: هذه هي الترجمة وإلا فلا … فاقرءوني ولا تقرءوا أحدًا سواي!
وليس أضيع من كلام يُقال لمن يدعي أنه هو وحده قد اختصه الله بحق الكتابة في العلم والتاريخ والأدب، فإذا سمحت رخصة من عنده بالمشاركة في فضلات هذا الحق فعلى شرط واحد؛ وهو استثناء من يُسمى عباس العقاد، بعد أن جرده من كل قدرة على كتابة الكتب، حتى العنوان والغلاف!
فإذا تناولنا أول حبة من حبات الموضوعية، فعلامة التحقيق فيها أن هذا «الموضوعي الوحيد» يقرأ الكتاب ويلغيه، وهو لا يفهم موضوعه.
فما كان موضوع العبقريات، كما يدل عليه عنوانها، إلا دراسة نفسية ووصفًا لصاحب العبقرية. فإن لم يستطع الناقد من العنوان أن يفهم الفرق بين وصف الملكات والأخلاق وبين سرد الأرقام والأخبار، فقد يفهمه من الموضوع الذي بيناه وفصلناه وقلنا إننا نقصده ولا نقصد ما عداه؛ وهو كما نقله الطالب الأديب رسم صورة نفسية وليست «سيرة للصديق أو تاريخًا لخلافته».
وما قلناه وكررناه عن العبقريات يكفي لفهم الموضوع المقصود، ولكنه مع هذا لم يكن بالتعريف الوحيد للترجمة كما نعنيها، بل ذكرناه مرات قبل ذلك وسبقنا إلى تقريره قبل العبقريات بأكثر من عشر سنوات؛ حيث نقول في مقدمة كتابنا عن ابن الرومي: «إنها ترجمة وليست ترجمة؛ لأن الترجمة يغلب أن تكون قصة حياة، ولَأَنْ تكون ترجمة ابن الرومي صورة خير من أن تكون قصة.»
وربما خلت العبقرية بجملتها من ذكر رقم من أرقام السنين، بل ربما خلت من ذكر رقم السنة التي وُلد فيها صاحب العبقرية أو تولى فيها أو حانت فيها وفاته بتاريخها المعروف، وما من أحد يستطيع أن يزعم — ولو كان من طراز الشيخ الموضوعي — أن ذكر هذه السنين أمر يعجز عنه كاتب سيرة، ولو كان من أجهل الجهلاء بين أصحاب الجزازات والفهارس والهوامش والعنعنات؛ فهي متروكة لأنها غير لازمة لجلاء الملكات والأخلاق، وليست متروكة لأنها منهج غير مستطاع من مناهج التأليف.
وهذه هي الحبة الأولى من المسبحة الطويلة.
والحبة الثانية لا تزال واقفة منا عند العنوان: إن الناقد الموضوعي صاحب التمييز الدقيق الذي وهبه الله له وحرمنا نحن وحدنا منه على الخصوص …
صاحب التمييز هذا يتساءل لماذا يُسمى بعض الكتب باسم العبقريات ويُسمي بعضها الآخر باسم فلان في الميزان، وكلهم جميعًا في الميزان …
والناقد «الموضوعي» الذي يفوته التمييز بين العنوانين ينبغي أن يكف لسانه على الأقل عن التعالم على الأولين والآخرين، كلهم جميعًا، باسم التمييز.
فالحكاية، كلها جميعًا، أن العباقرة ومن هم في الميزان هم كلهم جميعًا في الميزان.
نعم، ولكن الذين هم في الميزان ليسوا كلهم جميعًا عباقرة …
أفمفهوم هذا؟ إن لم يكن مفهومًا، فالحق على المنهجية والموضوعية، ولا علينا ولا على اسم العبقرية والميزانية.
وهبْهم سواء بلا خلاف كثير ولا قليل، فمن أين للتاريخ أن يحرم على المؤلف تنويع العناوين بين كتاب وكتاب، ولو كانت كلها عبقريات وكلها موازين؟
أما الحبة الثالثة من المسبحة الألفية، فلا تنتقل بنا من صفحة الغلاف؛ لأنها تلغي العبقرية كلها جميعًا إكرامًا لصورة عليه، ومما يسقط العبقرية كلها جميعًا أن يتحلى الغلاف بصورة علي بن أبي طالب على ظهر فرس شاكي السلاح، وقد كان راجلًا خيرًا منه فارسًا، كما جاء في رواية أبي حيان.
ولقد ظهرت من عبقرية الإمام ثلاث طبعات قبل طبعة الصورة، فهل كانت العبقرية في طبعاتها الأولى موضوعية منهجية، ثم جاءت صورة الغلاف على الطبعة الرابعة فخرجت بها عن الموضوع؟
منهجيًّا يجوز …
ومنهجيًّا أيضًا يجوز أن يحسب على المؤلف عمل الفنان الذي يسند إليه الطابعون والناشرون تحضير الغلاف.
ولكن المنهجية — لسوء الحظ — مطية جامحة أصعب مراسًا من كل فرس على كل غلاف، ويوشك أن ترمي براكبها تحت قدميها وتنطلق بعنانها حين يرمي هو بهذا العنان بين يدي أبي حيان.
ومن أبو حيان هذا فيما يجهله الموضوعيون المحققون؟
أبو حيان هذا هو الرجل الذي جعل همه تلفيق القصص على الإمام علي بن أبي طالب، وافتراء الأحاديث عنه؛ ليوقع بها بين الطالبيين، وهو مشهور بين أهل السنة والشيعة بأنه أكبر زنادقة الإسلام. ويقول عنه عالم من فضلاء علماء الشيعة، هو ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة: إنه ملحد زنديق، لفق حديث المفاضلة بين علي وأخيه جعفر ليُوقع بين الطالبيين.
فهل هناك حبة رابعة أو خامسة من حبات المسبحة الألفية لهذه التحقيقات «العلمية» في إسناد الروايات إلى الرواة الثقات؟
آخر الروايات في أمر علي بن أبي طالب رواية يعتمدها أبو حيان.
وآخر الناقلين حقًّا في النقل عن أبي حيان من ينقله فلا يصيب ولا يفقه مرماه.
فحقيقة الخبر على خلاف ما نقله الناقد الناقل الأمين، ونص الخبر من كتاب الإمتاع والمؤانسة: «إن عليًّا قال للمقداد: أعطني فرسك أركبه. فقال له رسول الله ﷺ: أنت تُقاتل راجلًا خير منك فارسًا. قال: فركبه ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن الفرس فخرمه، فضحك النبي ﷺ حتى أمسك على فيه، فلما رأى علي ضحكه غضب، فسل سيفه ثم شد على المشركين فقتل ثمانية قبل أن يرجع، فقال علي … لو أصابني شر من هذا كنت أهله حين يقول: أنت تقاتل راجلًا خير منك فارسًا.»
وكفى بهذه الرواية عن ضحك النبي في ذلك الموقف وعن اضطراب معناها دليلًا على قيمة الخبر في ذمة أبي حيان؛ فإنه على هذه الرواية يُثبت أن عليًّا يقاتل فارسًا فيقتل ثمانية في كرة واحدة. وأدعى من الكلام عن ضحك النبي إلى الشك في قيمة الخبر أن يقال: إن عليًّا — رضي الله عنه — يعصيه ثم يقول عن قتله ثمانية من المشركين: إنه شر أصابه.
ولكن … فليكن الخبر صحيحًا على علاته، فهل معنى ذلك أن عليًّا لم يكن فارسًا، وأن تصويره على ظهر فرس يهدم التاريخ؟
لقد كانت وقائع صفين تشهد بفروسية علي وغلبته على أنداده، وكان في وقعة الجمل يواصل ركوب الفرس حتى يرنق على قربوس سرجه كما جاء في مروج الذهب. ولئن صح أن النبي — صلوات الله عليه — نهاه عن خوض المعركة فارسًا، فقد نهاه بعد ذلك عن الخروج راجلًا لنزال عمرو بن ود، فهل كلمة التاريخ في ذلك أنه ليس بفارس ولا راجل؟ وقد كان علي — كرم الله وجهه — يخلع درعه أحيانًا، فهل كلمة التاريخ فيه أنه كذلك ليس بدارع ولا صاحب عدة للقتال؟
على أن المؤرخ الذي يهمل أثر المترجم له في نفوس الناس غير جدير بكتابة التاريخ، وقد كان أثر علي الفارس في نفوس الناس أبلغ الآثار، فكان السعدي شاعر قومه يسميه فارسًا وهو يركب الدلدل بغلته الموروثة، كما جاء في قصائد البستان الفارسي، وقد ذكره حافظ في العمرية فسماه فارس عدنان:
وما كان لقب الفارس أولى بذي شجاعة من قاتل عمرو بن ود فارس الفرسان، أو قائد خيل المسلمين إلى اليمن، وهي أول خيل لهم دخلت تلك البلاد. ومن جاز أن يكون قائد حملة الخيل وفيها خالد بن الوليد، جاز أن يرسم على ظهر فرس في صفحة غلاف.
وبعدُ، فلماذا نمسك بحبات المسبحة، ولا نمسك بتلابيب الموضوع واقعيًّا منهجيًّا ذاتيًّا مع الشاهد الحي من شخص الشيخ أمين؟
لقد رأينا الشيخ بخمسة أزياء في مدى شهرين اثنين: رأيناه يلبس الفيصلية والقميص المفتوح والسروال القصير، ورأيناه يلبس الجبة على «الياقة» المنشاة وفي يده أساور النشا بالأزرار الذهبية، ورأيناه يلبس الجلباب البلدي والصندل في قدميه، ورأيناه يلبس الجاكتة والبنطلون عاري الرأس أو لابس العمامة، ورأيناه ورأيناه ورآه مثلنا الطلاب والأساتذة في الجامعة كما رأيناه …
فمن من هؤلاء هو «الخولي العلمي التاريخي الموضوعي»؟ ومن منهم يبيح التاريخُ وضع صورته على غلاف ترجمته؟ ومن منهم تبطله كلمة التاريخ؟
يأيتها المسبحة المنهجية الطويلة، الألفية!
كفاية …
كفاية قلبة دماغ بهذه الفقاقيع، وكفاية على ما نظن جوابًا لقرائنا الكرام عما تحت هذه الفقاقيع، وليسرح بها من يحتاج إليها موضوعيًّا كان أو غير ذي موضوع.