من الشمال إلى اليمين١
يوميات وسنويات
قرأت في يوميات الأستاذ مصطفى أمين أن الثورة الروسية تتمخض عن ثورة أخرى في داخلها مناقضة لها في وجهتها، وأنه قرأ مقالات الصحفية العالمية مرجريت هيجنز، فاستوقفه منها أن البلاد الروسية «على أبواب تطور ضخم، وأن مالنكوف بدأ يسمح للأبناء بأن يرثوا الآباء، وأن إعلانات ضخمة في شوارع موسكو الآن تقول: ابن بيتًا لك، ليملكه أولادك من بعدك. ثم هناك إعلانات ضخمة تشجع العمال على التأمين على حياتهم لمصلحة أولادهم.»
ومضى الأستاذ مصطفى في تعقيبه على مقالات الصحفية العالمية فقال: إن النظام الشيوعي «كان يسهل الطلاق، وفجأة بدأت حملة في صحف روسيا ضد الطلاق؛ تمهيدًا لتقييد هذه الإباحة التي كانت تجعل الطلاق مسألة سهلة كشراء تذكرة دخول السينما.»
قال: «ومن قراءة التحقيقات الصحفية الأخيرة عن الحياة في روسيا، أشعر أن هناك ثورة في داخل الثورة، وأن الشيوعية في طريقها إلى تطور جديد.»
قديمة
وهذا في جملته خبر قديم مسبوق!
ولا ضير على الأستاذ مصطفى في هذه «التشنيعة» الصحفية؛ لأن الخبر مسبوق في الأخبار الجديدة نفسها، وقبل سنة من هذا التاريخ نشرت الأخبار الجديدة تحقيق وكيل الصحف المتحدة بعد ثلاثة أشهر قضاها في البلاد الروسية، ثم خرج منها يقول إنه وقف على أخطر تطور في روسيا للثورة البلشفية، إن في روسيا الآن ثورة تتطور في هدوء وبسرعة، وقد أم هذه الثورة الجديدة في روسيا مديرو المصانع وأساتذة الجامعة والعلماء والمهندسون وضباط الجيش ورؤساء العمال.
وإني أذكر هذا الخبر؛ لأنني عقبت عليه في حينه قائلًا إن الكرة الأرضية في العام المقبل تدور يمينًا، وإن خبر الوكالة الصحفية المستعجل ليس بالخبر الحديث عندنا؛ لأننا توقعناه قبل ثلاث سنوات، فقلنا في رسالتنا عن فلاسفة الحكم في العصر الحديث إن كارل ماركس مخطئ في تقديراته، وإن الصناعة الكبرى لا تؤدي إلى النتيجة التي تقعر غاية التقعر في الإنباء بها، وإنما تنشأ «طبقة غير طبقة أصحاب الأموال وغير طبقة الصناع والعمال، تشرف على أدوات الإنتاج، ولا يتأتى الاستغناء عنها في المجتمع القائم على الصناعات الكبرى، وهذه هي طبقة المديرين الفنيين، وخبراء الصناعة وما إليها.»
ومن عهد لينين
ولم يشعر زعماء الشيوعية اليوم — فقط — باستحالة تطبيق الخرافة الماركسية في عالم الواقع، بل بدءوا يشعرون بها حين بدءوا بالتطبيق، فأباحوا للفلاح في المزرعة الجامعة أن يقتني بيتًا؛ يعيش فيه مع عائلته ويربي فيه دواجنه ويتركه لذويه الذين يحلون في عمل المزرعة محله، واضطر مديرو المصانع إلى مضاعفة الأجر على حسب القطعة، وزيادة الدخل السنوي على حسب المقدرة والبراعة، ثم وجدوا أن الإغراء بزيادة الأجر والدخل لا يحفز النفوس إلى مضاعفة الجهد والمثابرة ما دامت الزيادة لا تجلب لهم شيئًا غير الضروريات، فأطلقوا العنان لتجارة الترف والزينة، وأصبح من معروضات الدكاكين عندهم قوارير للعطر وأكسية من الحرير والمخمل تُباع بمئات الجنيهات.
الأطوار النفسية
والأطوار النفسية أهم جدًّا من هذه الظواهر المادية؛ لأنها جميعًا تدل على إفلاس الماركسية من الداخل، وتنبئ عن أحداث المستقبل التي لا مناص منها طوعًا أو كرهًا، وعلى هوى الدولة أو على غير هواها.
ومن هذه الأطوار إقبال الملايين على الكنائس، واستطاعة هذه الكنائس أن تجمع النفقات لترميم ما تخرب منها أثناء الحرب والثورة من تبرعات المصلين دون غيرها؛ لأن الدولة — كما هو معلوم — لا تنفق على المعابد شيئًا من خزانتها، بل تنفق من الخزانة على المعاهد التي تفتحها وتديرها لمحاربة الدين.
ومن هذه الأطوار تحول الأدباء من أدب الآلات إلى أدب النفوس البشرية، وإعلانهم ذلك غير مرة في السنة الأخيرة، كما لخصناه في أخبار اليوم منذ سبعة شهور.
وأخطر من ذلك أن «العقد النفسية» التي طالما سمعنا من الماركسيين أنها مرض لا محل له في المجتمعات الشيوعية، قد أخذت تنفجر في أخلاق الجيل الجديد وعاداته على نحو لا نظير له في البلاد التي يسمونها ببلاد رأس المال.
فالخلاعة والتأنيث في ملابس الشبان والعربدة الفاضحة والولع بالمقامرة؛ قد أصبحت اليوم من موضوعات العظات الدورية في الصحف والنشرات، وقد عادت الدولة إلى السماح للآباء بالإشراف على سلوك أبنائهم وبناتهم، وتبليغ المراجع الحكومية عن الشذوذ أو التهتك الذي يلاحظونه عليهم، ومن أخبار هذه التبليغات أن أبًا وجد في حقيبة بنته مجموعة من الصور الشائنة والمناظر الشاذة، فأسلمها إلى الإدارة المختصة وأدى الشهادة عليها، فكان جزاء البنت — وهي في السابعة عشرة — أنها أودعت دار الإصلاح! وأبيح للشرطة والآباء معًا أن يبلغوا شبهاتهم عن كل شاب يخرج إلى الطريق بالملابس المزركشة والألوان الصارخة والأصباغ التي لا تجمل بالرجال.
وباء جارف لا مرض متفرق
والواقع أن العقد النفسية في البلاد الشيوعية وباء جارف، لم يبد من أعراضه حتى الآن إلا القليل.
ولا يمكن أن يكون غير هذا في بلاد يحسبون فيها أن التعبيرات النفسية حيلة يخترعها المالكون لزمام الإنتاج الاقتصادي في كل مجتمع قديم أو حديث.
فإنهم على هذا الحسبان يفرضون التعبيرات النفسية في الأدب والفن، ويظنون أن الحكاية كلها حديثة في مكان حيلة قديمة من مخترعات رأس المال.
ومن قراراتهم أن «الفواجع» أو التراجيديَة لا موضع لها في المجتمع الشيوعي؛ لأنها كانت لازمة في المجتمعات التي يتخبط فيها الفرد مع المجتمع على غير جدوى وبغير رجاء.
ومن دواعي الحيرة للمؤلف أن الفواجع ممنوعة، وأن الضحكات لا تباح إذا كان مدارها على نقد المجتمع ونقد ولاة الأمور، ولم يكن هدفها المقصود بطلًا من أبطال البرجوازية أو رأس المال، وكل شيء ميسور إلا أن يضحك الإنسان بالأمر وعلى وفاق أحكام المراسيم.
وقد أصدرت إحدى المطابع «الأميرية» كتابًا نفدت طبعته من مؤلفات «بتروف»، فأصابها التوبيخ والتحذير ولم تغن عنها المعاذير.
وشاع الرياء في تلفيق الشعور الطبيعي، فاستحقت الرضى والتشجيع رواية مدارها على بطل «مثالي» يحن إلى المصنع قبل انقضاء أيام الإجازة، ويترنم بمحاسن المكنات التي غابت عن نظره كما يترنم العاشق بمحاسن ليلاه.
مثل هذا الكبت الحيواني لخوالج النفوس الحية لن يكون له أثر معقول غير العقد النفسية، التي يقولون عنها إنها مرض من أمراض البرجوازية ورأس المال!
لا جرم ينتحر ثلاثة من الأدباء النابهين؛ هم مايكوفسكي وإيسنين وباجرتسكي، ويموت آخرون في ريعان الشباب، ومنهم من يقترن موته بالريبة وتحوم الظنون فيه على الغيلة أو الانتحار.
ولا جرم يتعدى الكبت شعور الكاتب والفنان، إلى شعور القارئ الذي يحس كابوس النفاق جاثمًا على صدره، ولا يستطيع أن يغالط نفسه فيزعم لها أنه يقرأ تعبيرًا صادقًا عنها فيما يقرؤه من أدب المكنات والآلات.
ولا نحسب أن الصيحة التي صاحها سيمونوف وأهرنبرج والشاعر فردوسكي والشاعرة أولجا بدجولتز؛ كانت تنطلق في روسيا ويُسمح لها بالانطلاق، لولا تفاقم الخطر وبلوغه مبلغ التهديد والإزعاج، الذي يوقظ الغافلين ويصدم تلك الأدمغة الملتوية، فتدرك على الرغم منها أن الأدب من طبيعة الإنسان، لا من حيلة محتال ولا من تدبير العمل أو رأس المال.
عرض زائل
ونحن لا يخامرنا الشك لحظة في استحالة بقاء الشيوعية كما وضعها كارل ماركس وإنجلز وسائر هذه الزمرة من دعاة القرن التاسع عشر؛ لأنها مجموعة ألفاظ أغاليط لا تقبل البقاء، وكلما مضى على تجربتها عام ابتعدت من قواعدها وأهدافها على السواء، ثم لا تزال تبتعد وتبتعد لا يبقى منها إلا ما ينكر الماركسيين وينكره الماركسيون.
منذ بضع سنوات كتبت أقول إن الشيوعية لا تصمد للتجربة عشر سنوات.
فلما أعلنوا في الصين أنهم دانوا بالشيوعية، جاءني من العراق سؤال نشرَته مجلة الاثنين ينتفخ بالجهل والتحدي ويسألني مرسله: ألا تزال على اعتقادك أن الشيوعية لا تصمد للتجربة عشر سنوات؟
والذي يخدع أمثال هذا السائل في الحركات الاجتماعية أنهم يأخذونها بعناوينها وأسمائها، ويحكمون على «حسن» بأنه «حسن»؛ لأن اسمه حسن بشهادة أبويه وشهادة الأوراق الرسمية وشهادة من يناديه!
والشيوعية التي أُعلنت في الصين إنما هي بقية الثورة الصينية التي نشبت سنة ١٩١١ قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل الظروف الداخلية والخارجية التي استفاد منها لينين وزملاؤه في إقامة الحكومة السوفيتية.
ولو لم تحدث في روسيا ثورة ولم يقم بعدها انقلاب، لتسلسلت الحوادث من ثورة سن ياتسن إلى ثوره «ماوتسي» وما يشبهها، ثم لا تلبث أن تستقر على الغرار الصالح للبقاء بعد ذهاب الرغوة وانجلائها عن المحض الصريح.
وسيرى المخدوعون بأعينهم أنه لا ثورة الروس ولا ثورة الصين تسفر غدًا عن شيوعية ماركسية، وأنها في هذه اللحظة لا تثبت من الماركسية مقدار ما تنفض وتهدم؛ فلم تبق من الماركسية اليوم نظرية واحدة يعتمدها الثقات من أساطين الاقتصاد، وليس في وسع دعاة الروس أن يدلوا الناس على نظرية منها وُضعت موضوع التطبيق فأسفرت عن نجاح.
وإن غدًا لناظره قريب.
ولكن …
ولكننا نقول مع الأسف الشديد إن أعداء الشيوعية يخدمونها حيث يتخاذل عنها الأصدقاء والأتباع.
فهؤلاء «الديمقراطيون» الذين يزجون بأصابعهم في كل مكان بحجة الخوف من الشيوعية، إنما يخنقون الأنفس ويخلقون فيها الريبة، ويحاربون العدوان المنظور بعدوان واقع يكظم الصدور وينفي عنها الأمل ذات الشمال وذات اليمين.
وكأنما الدنيا كلها قد أصبحت وليس فيها غير اللون الأحمر يصبغ به الشيوعيون كل شيء؛ لأنهم يحبونه، ويصبغ به «الديمقراطيون» كل شيء؛ لأنهم يحذرونه، وتعمى العيون إذن عن كل لون وعن كل نور غير هذا البلاء المحيط.
إن أعداء الشيوعية يحسنون صنعًا في محاربة الشيوعية كلما عرفوا للأمم الشرقية حقوقها ولم يتخذوا من خوفهم حجة للعدوان والافتيات على تلك الحقوق، ذلك الافتيات الذي لا يجدي شيئًا غير إثارة المخاوف في قلوب الآمنين.
ومن مصائب الدنيا أننا نعالج خوف الشمال بخوف اليمين، ثم نقف بينهما حائرين لا نملك إلا أن نتمثل شاعرنا الحكيم:
المذاهب والتعليم
في هذا الأسبوع تلقيت خطابًا من «معلم» يسألني فيه رأيي عن تدريس المذاهب الشيوعية في مدارسنا، يسألني بصفة خاصة عن فصل من كتاب عنوانه «مشكلات فلسفية»، مكتوب عن الاشتراكية الماركسية بقلم الأستاذ «عبده فراج» على نمط لا يرتضيه المعلم صاحب الخطاب.
وأحب أن أقرر قبل الإجابة عن السؤال أنني أدعو إلى تدريس المذاهب جميعًا للمتقدمين من الطلاب، ولا أقيد هذا التدريس بقيد غير التحقيق العلمي والتنزه عن الدعاية.
وأقرر كذلك أنني لا أعرف وسيلة لمقاومة الكتاب غير الكتاب، فإن الخطأ لا يثبت على النقد الصحيح، ولا سبيل إلى القضاء عليه أقوم من سبيل الإقناع.
وعلى هذا الميزان — ميزان التحقيق العلمي — أعرض ذلك الفصل الذي يسألني عنه كاتب الخطاب.
رجعت إلى ذلك الفصل فوجدت كاتبه يقول: «إن الاشتراكية وجدت أكبر دعاتها في كارل ماركس، الفيلسوف اليهودي الألماني الذي قدر لمذهبه أن يطبق بنجاح في روسيا الحديثة، ليصبح أقوى ما أنتجه الفكر السياسي تأثيرًا في السياسة العالمية المعاصرة.»
ثم يقول: «إن ماركس كان متأثرًا بفيلسوف مادي من تلاميذ هجل، هو فورباخ الذي رفض فلسفة أستاذه الروحية واعتنق الفلسفة المادية، وكانت هذه منتشرة في ألمانيا إذ ذاك بفضل تقدم العلوم الطبيعية الباهر.»
ثم يقول: «استعار ماركس المنطق الجدلي وهذبه، وتأثر بما ذهب إليه هجل من وجوب التفرقة في تفسير التاريخ بين الحقائق العميقة الهامة مثل رغبات الأمة وآمالها، وبين الظواهر السطحية التافهة كالشخصيات التاريخية.»
ولم ينس الأستاذ أن يضيف إلى ما تقدم «أن نجاح النظام الاشتراكي في روسيا يرجع إلى لنين ومواهبه الفلسفية العملية وأسلوبه الصلب المرن في آن واحد، وقد اضطر لأن يجاري الظروف الواقعية ويحيد أحيانًا عن التفصيلات الماركسية.»
ثم يختم الفصل بكلمة عن نبوءات كارل ماركس يقول فيها: «إن كثيرًا منها لم يتحقق، وإن علة ذلك أن الرأسماليين يتبعون هم أيضًا منهجه الجدلي، فيزيلون أو يخففون في نظامهم العوامل التي تدعو إلى تذمر العمال أو إلى انهيار الرأسمالية.»
والخطأ في هذا كله كثير، وفيه مصداق لما يعتقده من خوض الأكثرين عندنا في هذه المذاهب على غير معرفة واستيعاب، معتمدين على الملخصات أو القشور التي لا يُفهم منها مذهب قط على وجه مفيد، ولو كان كاتب هذا الفصل على علم بما يكتبه، لما قال في مقدمته عن «إنجلز» شريك ماركس إنه «أحد رجال الأعمال الإنجليز»، وهو ألماني صميم أعرق في الألمانية من كارل ماركس الذي ينتمي إلى بني إسرائيل.
فمن الخطأ أن يقال: إن مذهب كارل ماركس طُبق بنجاح في روسيا، وإنما يطبق في روسيا نظام لا فرق بينه وبين النظام النازي الذي كان يُطبق في البلاد الألمانية، فالطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها لنين وستالين ومالنكوف كالطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها هتلر وجوبلز وريبنتروب، وتجنيد العمال هو تجنيد العمال، وإشراف الدولة هنا هو إشراف الدولة هناك، وليس في جوهر الأمور فرق واحد بين النظامين في غير الكلمات الجوفاء، وقد تقاربت هذه الكلمات الجوفاء حين أصبحت العصبية السلافية دينًا للأمة الروسية، تنتحل باسمه المفاخر لعظماء الروس وعلمائهم دون سائر العظماء والعلماء، وتدخل الحرب فتسميها الحرب القومية أو الوطنية، وتنسى القول بتفاهة الشخصيات التاريخية، فتبني لزعيمها ضريحًا لم يبنه القياصرة للأسلاف «المقدسين».
ومن الخطأ أن يقال: إن المذهب المادي ينتشر «بفضل تقدم العلوم الطبيعية الباهر»؛ فإن تقدم العلوم قبل عصر كارل ماركس لا يُذكر بالقياس إلى تقدمها في عصر بلانك وهيزنبرج وأدنجتون وجينز وأوليفر لودج، ومنهم مع ذلك من تلهمه تلك العلوم أن الكون كله «فكرة رياضية»، وأن المادة لم يبق منها إلا الحسبة التي تقاس بالرياضيات.
وتقدمت الفلسفة المادية في بلاد اليونان على الفلسفة الروحانية أو المثالية في تاريخها وترتيبها، وظهر بين العرب الجاهليين من يقول كما جاء في القرآن الكريم إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ، ومن يقول: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.
وليس في وسع باحث في العصر الحاضر أن يزعم أن الفلاسفة الماديين أكثر أو أكبر من الفلاسفة المثاليين، وهذه الفلسفة المادية الجدلية نفسها لا يوجد في العالم فيلسوف معدود من دعاتها المؤمنين بها، ولا استثناء لروسيا الشيوعية إلا في أسلوب المخاتلة والمداراة.
أما أن نبؤات كارل ماركس لم تصدق لأن الرأسماليين قاوموها، فذلك غير صحيح، وإنما الصحيح أنها لم تصدق لأنها تناقض الواقع مناقضة القطبين المتقابلين، وخلافًا لما قال قد رأينا أن البلاد التي سلمت منها هي البلاد المتقدمة في الصناعة الكبرى والتعليم، وأن نسبة انتشار الشيوعية عكسية على حسب التأخر والجهل والإهمال، فأسلم الأمم الأوربية من الشيوعية هي أكثرها صناعة وثقافة ومعرفة بالحقوق، وعلى نقيض ذلك سائر الأمم التي تعرضت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ولم تغلب الشيوعية حتى اليوم على أمة بعيدة من جوار روسيا وسلطانها المتحكم فيما حولها، ولم تغلبها الشيوعية إقناعًا بل غلبتها بحكم ذلك الجوار وذلك السلطان.
ولن نذهب بعيدًا في الاستطراد إذا قلنا قياسًا على ذلك إن زيادة في العلم بالشيوعية زيادةٌ في العلم بأخطائها وخرافاتها، وإننا لا نعرف وسيلة لبيان حقيقتها خيرًا من الأمانة في تعليمها، فإن وجد بعد ذلك من يتمادى في لجاجاتها، فليس هو بصاحب فكرة أو صاحب مذهب، ولكنه صاحب غرض يُساق إليه أو يؤجر عليه، ومثل هذا لا يضيرنا تعليم المذاهب على اختلافها بالنسبة له؛ لأنه على الجهل أو على العلم مسوق إلى حيث يُساق.
وردُّ غطائها
وعندنا كلمة ورد غطائها في سيرة أخرى من سير الشيوعية والشيوعيين مع كاتب هذه السطور.
والكلمة خطاب من أحدهم ينكر فيه أشد الإنكار أن الذين يخصون كاتب هذه السطور بحملاتهم الهزيلة شيوعيون يتعصبون للشيوعية في تلك الحملات، ويكاد يقسم أنهم يبغضون الشيوعية، أو أنهم على الأقل لا يعطفون عليها.
وليكن صاحبنا هذا صادقًا كما يشاء، وليكن زملاؤه أعداء للشيوعية لا ينكرون أنها خطر على المجتمع ولا يعطفون عليها.
مليح، وقل كذلك صحيح.
فكم كلمة مدح وجهوها إلى كاتب هذه السطور مكافأة له على خدمة المجتمع وجهده في حمايته، ولو أغضب الشيوعيين المؤمنين والمأجورين المسخرين؟
أليس في جهاد ثلاثين سنة في هذا الميدان ما يستحق كلمة مدح أو تقدير إذا كانت هذه الطائفة حقًّا تحمد هذا الصنيع ولا تحقد عليه؟
والا إيه؟
كلمة مدح واحدة إن كانوا صادقين، وندركهم قبل أن يبذلوها أو يضنوا بها فنقول لهم إننا نحول هذه الكلمة مقدمًا إلى الجهة التي يختارونها، وعليهم أن يشفعوها بالعنوان، فلا تمضي ساعة بعد وصولها إلينا، حتى نبعث بها إلى الممدوحين المختارين.