مؤرخ الغد شقي١
من ذلك روايته عن جهل رشدي باشا بالصلاة، والحرج الذي عاناه عندما كان يتحتم عليه أن يصلي مع فؤاد الأول، وكيف يتوسل إلى سعد زغلول قائلًا: الحقني يا سعد! الله يسترك، أنت يا حبيبي كنت في الأزهر وصليت على الأقل مليون صلاة، وما أظن أنك نسيت، فما رأيك فيمن يريد أن يتتلمذ لك حتى يتعلم فروض الصلاة. وكانت كما يقول زكي مبارك ضحكات وفكاهات، فقد أخذ سعد يعلم زميله الفاتحة والتحيات، ولكن ذلك لم ينفع؛ لضعف ذاكرة رشدي باشا ولصعوبة الموضوع، وأخيرًا قال سعد باشا لزميله: ما عليك! أنت ستصلي بجواري وتصنع كما أصنع، وهذه كل الحكاية. وقد ذهبوا بالفعل للصلاة، غير أنه لسوء الحظ كان الإمام يطيل الركوع والسجود، فقال رشدي باشا بالفرنسية وهو ساجد: شيء ثقيل. وفي ذلك الحادث الطريف قال حافظ إبراهيم:
قرأت هذه العبارة فزادتني إيمانًا بسوء حظ المؤرخ الشقي، الذي يُقضى عليه غدًا أن يعتمد في تاريخ مصر الحديث على روايات الأدباء والصحفيين، ولا يكلف نفسه عناء المراجعة والتثبت من صحة الرواية، وصحة المناسبة قبل ذلك.
فالبيتان كما قالهما حافظ إبراهيم لم يرد فيهما ذكر سعد، وإنما قالهما عن الوزارة التي اشترك فيها عدلي ورشدي في عهد أحمد فؤاد بتوصية من اللورد اللنبي، بعد إسناد وظيفة المندوب السامي البريطاني إليه؛ فكان عدلي ورشدي يدعيان لمصاحبة الملك إلى المساجد التي يختارها لصلاة الجمعة، وفي ذلك قال حافظ ملمحًا إلى يد اللورد اللنبي في تأليف هذه الوزارة …
فلم يبق إلا أن يصلي معها:
والبيتان من شعر حافظ الذي كان بعض أصحابه يسميه بالديوان الشفوي، ومنه أبياته التي يقول منها عن الملك فؤاد:
ومنها القصيدة التي اشتهرت بين متداوليها باسم «عام سعاد» لقوله في مطلعها:
وفيها يشير إلى الوزارة الصدقية قائلًا عن رئيسها:
وقد يُعذر الراوي الذي تختلف روايته لأكثر هذه القصائد «الشفوية»، التي كانت تنتقل من فم إلى فم ولا تُكتب في الأوراق؛ خوفًا من حملات التفتيش والتحقيق، ولكن لا عذر لمن يخطئ في رواية البيتين اللذين أقحم فيهما اسم سعد بدلًا من اسم عدلي؛ لأن المناسبات الواقعية خليقة أن تصحح له خطأه أو سهوه، وخليقة أن تفضح كذبه إن كان متعمدًا ولم يكن ساهيًا ولا مخطئًا في الرواية.
فلم يجتمع سعد ورشدي قط في وزارة واحدة لعهد أحمد فؤاد.
ولم يكن سعد من الرؤساء الحكوميين الذين يدعون لشهود صلاة الجمعة مع الملك أو رئيس الدولة؛ لأنه كان على رأس المعارضة القومية للوزارة، أو كان خارج الوزارة كلها رئيسًا لمجلس النواب، وفي هذه الفترة أيضًا كان رشدي رئيسًا لمجلس الشيوخ، ولم تكن دعوته إلى صلاة الجمعة أول عهده بالصلاة مع رئيس الدولة في المساجد، إذا فرضنا أنه دُعي إلى مصاحبة الملك وهو رئيس لمجلس الشيوخ؛ إذ كان قد حضر الصلاة الجامعة مرات في عهود عباس الثاني وحسين كامل وأحمد فؤاد.
والمناسبة لذكر اللنبي مع عدلي ورشدي مفهومة؛ لتشكيل الوزارة كلها برأي المندوب السامي بعد ثورة سنة ١٩١٩، وقد كان سعد أبعد الناس عن القصر في ذلك الحين، وكان اللنبي يخاطب حكومته في محاكمة سعد بتهمة الخروج على العرش وتوجيه «التهديد الشخصي» إلى السلطان، فلا محل لاقتران اسمه باسم عدلي ورشدي عند ذكر الوزارة.
والرواية المنقولة عن الدكتور زكي مبارك كافية وحدها لنفي العجب عن صلاة سعد؛ لأنها تقول إنه قد أقام الصلاة مليون مرة قبل هذا الحادث.
على أن سقوط الرواية كلها ظاهر من سياقها المضطرب المتناقض؛ لأن تعليم رشدي كيف يشترك في صلاة الجمعة لم يكن يقتضي حفظه لسورة الفاتحة ولا حفظه للتحيات وعدد الركعات؛ فإنه لا يجهر بهما في صلاة الجمعة، ولا يصعب عليه أن يركع ويسجد مع مئات المصلين أمامه ومِن حوله، بغير حاجة إلى مصاحبة سعد أو سواه.
وهكذا تروى أخبار الأدب، وهكذا تروى حوادث التاريخ، وهي على مدى أعمار الأحياء من أبناء الجيل!
الفابية بين المذاهب الاشتراكية٢
قرأنا في الأسابيع الماضية مناقشات حول الفكر الاشتراكي، اختلفوا فيها حول آراء كينز في الإصلاح، وحول مناقشات الفابيين في الفكر الاشتراكي، ولم نقرأ رأيكم في هذه الموضوعات، فهل يجد القارئ العربي رأيكم على صفحات الأخبار؟ ولكم الشكر والتقدير والاحترام.
يقال عن الزوبعة في غير طائل إنها زوبعة في فنجان، ولكن هذه الزوبعة التي أشرتم إليها ليست بزوبعة وليس لها فنجان، وهي أولى أن يقال فيها ما كان يقول فقيد الجيل في أمثالها: إنها غير ذات موضوع!
فليس في الجماعات الاشتراكية العالمية جماعة أوضح تاريخًا وأدق تسجيلًا وتدوينًا من جماعة الفابيين، وليس في دعوتها ولا في أسلوبها ولا في أعمالها وتطبيقاتها صفحة واحدة مجهولة أو مذهب واحد غير مدروس بتفصيلاته، منذ قامت في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٨٤) إلى اليوم.
والفوارق بينها وبين مذهب كارل ماركس وغيره من مذاهب الشيوعية والاشتراكية، معروفة الأصول والحدود بلا اختلاف وبغير لبس أو غموض.
وأهم الفوارق بينها وبين الشيوعية، أنها لا تؤمن بحرب الطبقات، ولا بضرورة الانقلاب الدموي؛ لتحسين أحوال الأُجَرَاء، وتعميم العدالة، وتمكين الجميع في فرص المساواة.
وربما كان أهم من ذلك أن مبادئ الجماعة تقوم على الأسس الأخلاقية قبل قيامها على الأسس المادية الاقتصادية، ووجهتها الكبرى هي بناء المجتمع على أرفع المثل العليا في الآداب الإنسانية، ويرجع ذلك على الأكثر إلى قيامها على آثار الجماعة الخلقية، التي كانت تسمى بجماعة «الحياة الحقة»، وكان يبشر بها توماس دافيدسون المشهور.
والفابيون «تطوريون» وليسوا بانقلابيين. وعندهم أن نشر المعرفة، وتأليب الأنصار من جميع الطبقات، والتوسل بالوسائل الديمقراطية إلى ولاية الحكومة للمرافق العامة؛ أصلح لتحقيق الغرض المقصود من الاشتراكية؛ وهو منع الاستغلال والاحتكار، والتسوية بين الناس في فرص الأعمال، والمشاركة في إدارة الأداة الحكومية.
وإمام هذه الطائفة جون ستيوارت مل، وليس لكارل ماركس إمامة فكرية أو اجتماعية بينهم، بل هم يناقضون فلسفته المادية ولا يكلفون أنفسهم مشقة تعديلها وتنقيحها كما يفعل الماركسيون الذين اشتهروا حديثًا باسم المنقحين، ولا يخفى أن المتصوفة الروحية المعروفة «آن بيزانت» كانت من أوائل الفابيين، كما كان منهم كثير من المفكرين الروحيين غير الماديين.
وقد كان للفابيين الفضل الأول في تأسيس حزب العمال البريطاني، بعد استبطاء العمل على إقناع المحافظين والأحرار بالمبادئ التي تؤدي إلى الملكية العامة وإلغاء الاحتكار، ويعزى إلى سدني وب وزوجته بياتريس بوتار أكبر الفضل في التقريب بين الجماعة والمشرفين على نقابات العمال، وقد كان سدني وب وزوجته وبرنارد شو وولز من طلائع الفابيين العاملين في البحث ونشر الدعوة والتوفيق بين طوائف العمال، ولهذا أرادت وزارة العمال أن ترفع برنارد شو إلى رتبة من رتب النبلاء، فكان جوابه على أسلوبه المعهود من التهكم والاستعلاء إنه لا يرتضي لقبًا أقل من لقب «الدوق»، ولا يقنع بهذا اللقب لو كان لقب البرنس مما يمنح لغير أفراد الأسرة المالكة، فلا داعية — إذن — للإنعام عليه بما هو دون قدره!
واسم جماعة «الفابيين» يدل على خطتها في الإصلاح؛ لأنها استعارت اسمها من اسم القائد الروماني «فابيوس»، واتبعت في خطتها الاجتماعية خطة هذا القائد في حرب هانيبال. وكان مدار هذه الخطة كلها، على المناوشة والمفاجأة والإرهاق واجتناب اللقاء مع العدو في معركة واحدة، مما يسمونه في تاريخ الحروب بالمعركة الحاسمة، وشعارهم: «إلى الساعة الملائمة فلتنتظر، فإذا حانت هذه الساعة فاضرب.»
وقد ظهر دستور الفابيين في مجموعة من المقالات سُميت بالمقالات الفابية، وطبعت سنة ١٨٨٩ وراجت في البلاد الأوربية رواجًا واسعًا مطردًا، إلى أن صدرت المجموعة الثانية بعد ذلك بنيف وستين سنة (١٩٥٢).
ولم يكن في الدستور الأخير شيء ينقض دستورها الأول، ولكنها أعادت دراساتها ومباحثها على أضواء التطبيقات الواقعية، بعد قيام الثورة الروسية وظهور التنقيحات العملية والفكرية لفلسفة كارل ماركس والمنشقين عليه، وكان من حجتها القوية أن تجربة الخطة التي اتبعتها فعلًا في الإصلاح والبحث ونشر الدعوة، كانت أوفى بتحقيق الأغراض الاشتراكية من خطط الهدم والانقلاب، وأوفق للديمقراطية الصحيحة من التجارب الأخرى في القارة الأوربية وسواها.
ولقد كانت الاشتراكية الفابية نصب عيني حين كتبت في تعزيز الفلسفة الاشتراكية والرد على خصومها قبل أكثر من خمسين سنة، ولا تزال الفابية كما بقيت إلى اليوم أقرب إلى اعتقادي من سائر الجماعات.
مذهب كينز
أما مذهب كينز فهو من مباحث الاقتصاد ولا يُحسب من المذاهب الاشتراكية، إلا من بعض نواحيه التي يتناول بها مسألة البطالة ومسألة الادخار ومبلغ أثره في تعريض المجتمعات لمساوئ رأس المال. وقوانينه المشهورة، عن البطالة والاستهلاك والادخار وصك العملة، يمكن أن توضع عند الاشتراكيين وغير الاشتراكيين موضع التطبيق، وليس للقواعد الأخلاقية في مذهبه ذلك الشأن الأصيل في قواعد الآراء الفابية.
ونظن أن الفنجان قد يسلم من الرجرجة — فضلًا عن الزوبعة — إذا احتوى جملة هذه الآراء، إلا نقطة أو نقطتين لا تسقطان بعيدًا عن طبق الفنجان!
تاريخ عهد الاحتلال
على أكبر قدر من الإغضاء والتسامح، لا يسعنا أن نعتبر رواياتنا المكتوبة عن عهد الاحتلال الأخير أكثر من «كناشة مسودة» في حقيبة سائح مستعجل، تجمع بين الخبر والإشاعة، وبين الحكاية الواقعية والأسطورة الخيالية، وبين المبالغة والانتقاص، وبين التلفيق عن جهل وعجلة والاختلاق عن قصد وسوء نية، وبين ما يستحق الإثبات بعد مراجعة كثيرة وما يستحق المحو والإهمال بعد مراجعة واحدة، ولا بد لها من إعادة بعد إعادة بعد ثالثة بعد رابعة، قبل أن تخرج من مكتب التحرير إلى صفاف الحروف، ثم تعرض بعد ذلك لدور آخر من أدوار الحذف والتصحيح.
والقصة الأخيرة التي عرضنا لها في اليوميات الماضية عن صلاة «حسين رشدي باشا وزملائه»، ليست إلا مثلًا واحدًا من أمثال كثيرة، لا تقل عنها في التلفيق الواضح والحاجة الشديدة إلى المراجعة والتحقيق.
يذكر راوٍ في العراق أبيات حافظ كما أثبتها الدكتور زكي مبارك في بعض كتبه وهو يقحم اسم سعد في الأبيات لغير مناسبة، بل على خلاف كل مناسبة، فينقل الأبيات على الرواية التالية:
ولا حاجة إلى مراجعة طويلة لإظهار ما في رواية الدكتور زكي مبارك من خطأ لا يحتمل الخلاف؛ فإن سعدًا لم يكن من الرؤساء الذين يدعون إلى المساجد لصلاة الجمعة مع الملك أحمد فؤاد في صحبة حسين رشدي، ولم تكن صلاة رشدي مع أحمد فؤاد أول صلاة له في المساجد حتى يضطر إلى تعلم الفاتحة والتحيات من سعد، ولم تكن هناك ضرورة تدعوه إلى حفظ الفاتحة والتحيات؛ لأنه لا يجهر بهما في صلاة الجمعة. وقد عرف حركات الصلاة قبل ذلك عشرات المرات، منذ كان يصلي مع الخديو عباس الثاني إلى أن تولى رئاسة الوزارة مرة أخرى بعد إعلان الحماية، إلى أن دخل الوزارة مع عدلي بعد موت حسين كامل وتولية أحمد فؤاد.
ولكن الروايات عن صلاة حسين رشدي في المساجد لا تنتهي بهذه القصة، ولا يكتفي رواة أخبارها باستجهال الرجل وعجزه عن حفظ الفاتحة والتحيات … ولكنهم يتقولون في هذه الأحدوثة أقاويل شتى، سمعنا بعضها وننقل بعضها كما ورد إلينا في إحدى رسائل اليوميات من الأديب «شوقي عطية»، الطالب الحقوقي بجامعة عين شمس، وقد سمعناها بشيء من التحريف لا يخرج بها عن فحواها المقصود.
قال الطالب الأديب مما تواتر على سمعه: «إن المرحوم حسين رشدي» حضر إحدى الصلوات بمسجد الرفاعي لمناسبة دينية، فلما أقيمت الصلاة قام مع القائمين وسجد مع الساجدين، حتى إذا حان وقت التسليم الأخير لم يذكر «السلام عليكم ورحمة الله»، ولم يجد مخرجًا من حرجه إلا أن يقول: بونسوار مسيو، يمينًا وشمالًا! وراجعه الوزير الجالس إلى جواره فأجابه: «إن الفرنسية لغة دولية، ولا بد أنها محترمة في السماء كما هي في الأرض، فهل كان رشدي على هذا الجهل بلغة بلاده؟ …»
ونقول للطالب الأديب: كلا! لم يكن رشدي على هذا الجهل في معرفته باللغة العربية، بل كان نطقه المفخم للقاف والطاء والظاء وما إليها، مفارقة من المفارقات التي يتندر بها حافظ إبراهيم — أيضًا — في معرض الحديث عن المفارقات المصرية، إذ كان يقارن بين قاف رشدي ابن الترك وقاف سعد ابن الفلاحين، وهي كما يذكر سامعوه قريبة من الكاف، فيقول: آمنت أننا في بلد المفارقات!
ولن يبلغ من جهل أحد — كائنًا من كان — بعد أن عاش في مصر أكثر من نصف قرن أن يجهل كلمة «السلام عليكم ورحمة الله»، وهي مما يسمع في كل يوم وفي كل مكان ومن جميع الطبقات، مئات المرات.
ومهما يبلغ من ضعف الذكاء — وقد كان حسين رشدي من أصحاب الذكاء المتوقد — فليس بالعسير على أحد أن يحتال بالتمتمة التي لا تسمع مع أصوات الناطقين بالتسليم، ولا أن يفهم أن التسليم باللغة الفرنسية المسموعة ليس بالمخرج المقبول من الحرج الذي يخشاه، بل هو الحرج كل الحرج؛ إذ لا حرج على الإطلاق في السكوت أو في التمتمة والغمغمة بغير صوت مسموع.
ورواية أخرى من روايات الأبيات المنسوبة إلى حافظ ينبهنا إليها الأديب «شريف سامي»، طالب الهندسة بجامعة أسيوط، وخلاصتها أنه يتذكر أنه قرأ هذه الأبيات بعبارة أخرى، وأنه بالرجوع إلى هلال نوفمبر سنة ١٩٤٨ وجد النبذة التالية مكتوبة إلى جانب مقال الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني بعنوان: صديقي حافظ إبراهيم. وقد جاء في النبذة أن جمعًا من الوزراء ذهبوا للصلاة مع الملك أحمد فؤاد في جامع القلعة، عقب المناداة باستقلال مصر في سنة ١٩٢٢، وكان منهم أحمد مظلوم وحسين رشدي وإبراهيم فتحي، فأراد حافظ إبراهيم أن يداعبهم لهذه المناسبة فقال:
قال الطالب الأديب: «وإني أبعث إليكم بمقالي هذا عله يسهم في الوصول إلى الرواية الصحيحة.»
ونقول للطالب المهندس إن «هندسة البيت» الأول قد تقنعه بأن اسم «عدلي» أحق هنا بأن يقرن إلى اسم رشدي، لأسباب كثيرة غير النسق الصوتي؛ وأهمها أنه كان معه في الوزارة من قبل ولاية أحمد فؤاد، وأن صلاة أحمد مظلوم — الذي كان يقال عنه إنه من وزراء «الدقة القديمة» أو وزراء «الالاتركا» — لم يكن فيها من الغرابة ما يدعو حافظًا إلى إثبات اسمه ونسيان اسم عدلي في هذا المقام.
وأصاب الطالب المهندس حين قال إن رواية هذه الأبيات بالصيغة التي نقلها عن الهلال، قد تسهم في الوصول إلى الرواية الصحيحة؛ فإنها على الأقل تبعد اسم سعد غاية الإبعاد في هذه المناسبة، وهي مناسبة إعلان الاستقلال في سنة ١٩٢٢؛ فإن سعدًا كان على رأس المنادين بنقص هذا الاستقلال، وكانت مناداته بنقصه سببًا لنفيه إلى جزائر سيشل قبل إعلانه.
•••
ومما ورد إلينا تعليقًا على قصة هذه الأبيات، خطاب مفصل من الأستاذ حسين غالب رشدي، سفير الجمهورية العربية المتحدة سابقًا، يعتب فيه على الذين يتجاهلون تاريخ والده هذا التجاهل، وينسون في سبيل النكتة سيرته الحافلة بالجد والفخار في خدمة بلده وقيادة حكومته، مع ما اشتهر به من النزاهة النادرة التي أجمع أصدقاؤه وخصومه على الشهادة بها، والتنويه بالثناء عليها «حتى مات فقيرًا من المادة، غنيًّا بما أسداه لوطنه من جليل الخدمات، فدخل بذلك التاريخ من أوسع أبوابه، واستحق تقدير الوطن.»
ويشير السيد السفير السابق إلى صداقة سعد ورشدي، ثم إلى الخصومة بينهما فيقول: «إن الهجوم من زعيم المعارضة على رئيس الحكومة كثيرًا ما كان مدبرًا ومتفقًا عليه؛ تسهيلًا لمأمورية الوزارة، وتمكينًا لها من الوصول إلى أهدافها.»
وقد كنا نود أن ننشر هذا الخطاب من «الابن البار»؛ إنصافًا لوالده مما يُفترى عليه جدًّا أو هزلًا، وقصدًا أو على غير قصد، لولا أن صفحة اليوميات تضيق عنه، ولولا أن هذه الإشاعات وما هو من قبيلها جميعًا ستظل بحاجة إلى التصحيح الشامل في مقام أوسع من هذا المقام.
ولن يفوت التاريخ إنصاف الوزير رشدي في كل ما هو من حقه، وهو كثير، ولكن العزاء للصابرين على أباطيل هذه الأقاويل أن علاقتها «بالقافية» التي تهذر ولا تعذر في عرف البلد ليست مجهولة عند بنيه!
المسلمون والنظام العسكري
قرأت للأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، في كتابه تاريخ الأدب العربي، أن «النظام العسكري حتى بعد الإسلام كان غير ثابت ولا منظم؛ لأن المرءوسية والتجرد عن الشخصية، وهما الركنان الأساسيان في العسكرية، يتضادان مع إعجاب العربي بنفسه واعتداده بشخصه.»
وعلى الرغم من مكانة المؤلف، قد ساورني شك في صحة هذا الكلام؛ لأن التاريخ يحدثنا أن المسلمين تناسوا ما بينهم من فروق شخصية … وكانوا يدينون بالولاء التام لقائدهم الأعلى صاحب الدعوة الإسلامية، ألم يقل له زعيم منهم: «لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك»؟! أليس في قبول خالد العزل ورجوعه إلى صفوف الجند دلالة واضحة على مدى فهم المسلمين للروح العسكرية؟
لقد أثير جدل كثير حول ما كتبه الأستاذ الزيات، ونحن مترقبون قولكم في هذا الخلاف …
إن ما قرره الأستاذ الزيات صحيح، ولا يغض من صحته ما ذكرتموه من الوقائع والأدلة التاريخية؛ لأن الرياضة على الطاعة بسلطان الدين تثبت النزعة المستقلة في طبائع الأفراد المتفرقة، وكفى بهذه النزعة قوة أن تحتاج إلى رياضة لا تقل في قوتها عن سلطان الإيمان.
لكن «المضادة» بين الطبائع البدوية في الجاهلية وبين النظام الجندي، ليست من الظواهر التاريخية المقصورة على بادية الجاهلية وبادية الإسلام؛ فإن قبائل الترك والجرمان الأقدمين كانوا أهل قتال وحرب، ولم يُرَاضوا على النظام المطاع إلا بعد مئات السنين، وقد كان جنود السلاطين العثمانيين إلى القرن التاسع عشر يثورون على الأوامر العليا كلما خالفت أهواء قادتهم أو تقاليد عسكرهم على العموم، وكانت الفتن والقلاقل بين طوائف الغالبين مضرب المثل على عهد القادة الرومان، وعلى عهود القادة الأسبقين من صميم الجرمان.
ولا يزال الشقاق في صفوف المقاتلين سنة معهودة بين شعوب اللاتين وجيرانهم من أبناء أمريكا الجنوبية.
وربما كان النظام «القبلي» أو نظام العشيرة بين العرب الأولين أسبق نظام عسكري في تواريخ الأمم القديمة قبل الإسلام أو المسيحية، وقد كانت عقوبة «الخلع» حقًّا على كل من يخرج على النظام في قتاله للجماعات أو للأفراد من أبناء العشائر الأخرى؛ فلا يؤخذ بثأر الخليع ولا يُحسب وزره على القبيلة، وقد كان خوف البدوي من الخلع أشد من خوف الجندي العصري من الطرد أو الجزاءات البدنية.