ألوان التأليف في الغرب١
أما في هذه المرة فهو كشكول كبير بمعنى الكلمة، وبأكثر من معنى الكلمة؛ لأنه تصنيفة من الكتب لا يرتسم لها طابع واحد، ولا تلتقي منها عدة كتب تحت عنوان واحد إلا بمشقة عظيمة، ولكنها على ذلك يمكن أن تدلنا على اتجاهات واضحة في الكتابة الأوربية منذ سنتين، أو على اتجاهات واضحة في السنة الرابعة والخمسين بعد التسعمائة بعد الألف للميلاد.
قحط في القصة، نشاط في الشعر، كثرة في كتب الكشوف على أنواعها، عناية بدراسة النفسيات التي تشمل طبائع الأحياء من الإنسان إلى الحشرة إلى ما دون ذلك.
قحط في القصة
فانصراف القراء الأوربيين والأمريكيين عن القصة ظاهرة محسوسة مقدرة بالأرقام، وعليها شاهدان من كلام النقاد ومن إحصاءات الناشرين، وكلاهما يدل على انحدار سريع في الكم والكيف، كما يقولون في لغة المناطقة، أو انحدار سريع في عدد القصص التي ظهرت وعدد النسخ التي وزعت منها، وقيمة هذه القصص من الوجهة الأدبية والوجهة الفنية على السواء.
وكاتب هذه السطور أول من يتفاءل بهذه الظاهرة؛ لأنني أحس من مبدأ الأمر أن أساس الإقبال على القصة كسل في النفس وتقديم للتسلية على الذوق والفهم والشعور الصادق، وأن جمهور القصة الشائعة هم طوائف الجهلاء وأشباه الجهلاء، ومن يتخذون القصة بديلًا من علبة السجائر أو تكملة لها عند الضجر من التدخين.
وفي القصة نوع رفيع — بل رفيع جدًّا في بعض الأحيان — يكتبه عباقرة الفن وأقطاب البلاغة، ولكنه يضيع بين القصص التي يطلبها الجهلاء وأشباه الجهلاء، ويحسب قراؤه بالمئات حيث يحسب قراء المهازل والخزعبلات بمئات الألوف.
وقد راجت قصة من القصص؛ لأن امرأة متزوجة كتبتها لتذكر فيها علاقاتها وغواياتها ومقدمات تلك العلاقات والغوايات، على علم من زوجها قبل النشر، وبعد النشر بطبيعة الحال!
ومثل هذه القصة لو تحولت إلى مناظر من الصور الشمسية الخليعة، لصادفت من الرواج ما صادفته القصة المكتوبة وزيادة.
وإنه لغافل أو مخطئ من يقول إن القصة بدعة حديثة بين الفنون الإنسانية؛ فإنها أقدم ما عرفه الأطفال في المهود والعجائز حول مواقد الشتاء، ولكن الأقدمين كانوا على شيء من الوقار فتركوها في مكانها بين ألاعيب الأطفال وثرثرة العجائز، ومضت ألوف السنين ولم يبق من تلك القصص أثر، ولم ينقص منها شيء يحس بنقصه؛ لأنها تخترع من جديد على نحو واحد في كل جيل، ثم تُعاد وتُعاد على النسق القديم.
ومنذ مائة سنة قيل ما قيل عن بدعة القصة في عالم الفنون، فظهر منها ما ظهر واختفى ما اختفى، ولم يبق من الظاهر المأثور إلا الذي يقرؤه طلابه لغير القصة التي فيه: يقرءونه للصور الشخصية أو للدراسات النفسية أو للقدرة على خلق المواقف والتعبيرات.
ثم ندر هذا النوع من القَصص الرفيع ولا يزال يندر في الأعوام الأخيرة، فعسى أن تكون هذه الندرة مؤذنة بزوال سلطان الجهلاء والغوغاء على الفن والأدب والثقافة.
ويدعونا إلى التفاؤل أن الإعراض عن القصة يصحبه إقبال على موضوعات أخرى، تجمعها كلها جامعة التعريف بالحياة وبالعالم وبأسرار الأرض والسماء؛ ومنها كتب الكشوف السماوية والتاريخية، وكتب البحوث في الطبيعة وما وراء الطبيعة، وكتب النفسيات والخصائص التي ركبت في طبائع الأحياء.
وإذا كان هذا هو البديل فليس انصراف الناس عن القصة دليلًا على إهمال العواطف والنفسيات، ولكنه دليل على إدراك هذه العواطف والنفسيات من طريق غير طريق التسلية وتزييف العاطفة بغرائز الشهوات.
والشعر ينشط
ومن الدلائل الحسنة أن الشعر ينشط في السنة الأخيرة، وأن عوامل البناء فيه أكبر من عوامل الهدم والفساد.
رأي لا نجزم به ولا نتعجل بقوله على علاته، ونحب أن نعلقه على ما بعده حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذه الظلمات.
إن المجموعة التي بين أيدينا تختار مائة قصيدة من نحو عشرة آلاف قطعة لألف وستمائة ناظم.
فالرأي الذي نراه يصدق على نخبة من هذه القصائد المختارة، ولكننا لا ندري شيئًا عما وراءها من المئات المرفوضة والأسماء الخاملة، فلعلها من صنف آخر لا يشبهها في نزعاتها وأساليبها، ولعلها من هذا الصنف ولكنها تختلف بنصيبها من الجودة والإتقان.
لا ندري …
وإن كنا نستطيع أن ندري يقينًا أن اشتغال ألف وستمائة شاب بالنَّظم، علامة على اهتمام لا شك فيه بالشعر وموضوعاته التي لا تُشاركه فيها الفنون الأخرى.
ونقول ألفًا وستمائة «شاب»؛ لأننا نرى في المجموعة أسماء أناس ولدوا بعد سنة ١٩٣٠، ولا نرى فيها إلا القليل جدًّا ممن بلغوا الشيخوخة وبدءوا بالنظم قبل الحرب العالمية الأولى.
فهذه النخبة إذن ترجمان صادق للنزعة الفنية، وعلامة على روح جديدة في النظر إلى الحياة، وتتمثل هذه الروح في العطف على الطفولة، وفي العطف كذلك على السلف الذي باد أو كاد يبيد، ومن أمثلة ذلك قصيدة يقول ناظمها إنه يرثي للشيوخ، الذين يسمعون كلام الأبناء عن فجائع الحرب الأولى كأنهم يتكلمون عن حرب طروادة ووقائع الرومان؛ لأن كلامهم هذا ينتزع من حياة المجاهدين قطعة حية ليحيلها سمرًا من الأسمار.
وموقفهم مما وراء الحياة لا يصدق عليه وصف اليقين والإيمان، ولكنه لا يدخل في باب اليأس المصطنع أو الهدم المعتسف، أو قلة الاكتراث المقصودة في الباطن باكتراث شديد.
وقد تصور هذا الموقف قصيدة في المجموعة، يقول ناظمها إنه لا ينتظر آخر النهار إلا أن يسمع منه قبل احتجابه صفوة بليغة مما حدث فيه واستحق الذكرى والتعبير، فإذا جاء الليل بعد ذلك فلتغمض العينان في انتظار الأحلام، أو على انتظار كيف كان.
روح طيبة لا ريب فيها.
وكل ما نلاحظه عليها أنها تتفاهم مع البشرية كأنها في نادٍ أو نزهة خلاء، وقد كان شعراء أمس ينظمون لإخوانهم من بني الإنسان كأنهم أبناء بيت يشتركون في أعراسه ومآتمه وفي وفره وفقره وفي سره وجهره، فأما هؤلاء الشعراء الذين تتحدث عنهم البشرية عندهم «أعضاء ناد»، لا يباح فيه للعضو المهذب إلا إشارة يلفت بها الزميل المذهب إلى منظر هنا أو صيحة هناك، ثم يكتفي بالإشارة ولا ينتظر الجواب.
على أنهم، بعد كل ما يقال، خير من شعراء البشرية التي يفتح فيها المتكلم فمه ليقول إنه لا يهتم بمن يخاطبه وإن من يخاطبه لا يهتم به، والسلام عليكم ورحمة الله، أو لا سلام ولا كلام ولا رحمة ولا لعنة ولا يحزنون ولا يفرحون!
قرأت للأديب الأستاذ أنيس منصور في إحدى أسبوعياته القريبة كلمة يسأل فيها: هل يوجد فن بغير قواعد؟
يا سيد أنيس! لا يوجد في الدنيا ولن يوجد لعب بغير قواعد معلومة للاعبين، فما ظنك بكرة القدم التي تلقى في كل اتجاه؟ وما ظنك بالشطرنج الذي ترمى حجارته أو تتغير بحجارة أخرى في كل دور؟ وما ظنك بالسباق من غير مجال ومن غير مسافة ومن غير ميعاد؟
يا سيد أنيس، القاعدة مع من يطلب الفن بغير قاعدة أنك تصفعه على قفاه!
أما أن تناقشه مناقشة الجد، فمن طول البال الذي قد يُطلب من عباد الله الصالحين في الصوامع، ولستَ منهم ولا نحن بحمد الله!
نعم، ونحمد الله أيضًا لأن الشعر الجديد يفتح باب الأمل في زوال الفوضى على الأقل، فلا شيء غير الفوضى بغير قواعد وبغير حدود.
كشوف الأرض والسماء
أما السيل الذي لا ينقطع بالقياس إلى هذه الجداول والقنوات، فهو سيل الكتب التي تصدر عن الكشوف بأنواعها، وهي في هذا الزمن كثيرة الأنواع.
الكشوف السماوية والرحلات بين الأفلاك العليا.
والكشوف في أعماق البحار، والكشوف في قمم الجبال، والكشوف عن أصل المادة وجوف الذرة، والكشوف الحفرية عن آثار الأقدمين وتواريخ الأمم والحضارات.
ومما وصل إلى مصر من هذه الكشوف الأثرية الأربعة مصنفات بأقلام المشتركين في الحفر، أو الباحثين بين طباق الزمن القديم عن كنوز التاريخ.
منها كتاب جديد بقلم ليونارد وولي؛ حجة الباحثين في حفائر العراق عن تاريخ إبراهيم الخليل.
ومنها طبعة جديدة لهذا المؤلف لكتابه الذي جعل عنوانه «مدن ميتة وأناس أحياء»، وتكلم فيه عن حفرياته في مصر وإيطاليا وتركيا والعراق، ومنها كتاب شامل عن فتوح الإنسان من أقدم الأزمان.
وأظرفها كتاب بعنوان «نفرتيتي عاشت هنا»، للسيدة ماري شوب التي أغرمت بتل العمارنة وتعقبت «نفرتيتي» في كل بقعة من الأرض خطرت عليها بقدميها.
وتلخيص هذه الكتب جميعًا تضيق عنه الصفحات، ولكننا نعبرها بكلمة عن كل كتاب في الطريق على سبيل التحية من قريب.
فالكتاب الذي أثبت فيه «وولي» لقاياه وأشار إلى لقايا الآخرين، خليق أن يُعلم المتحذلقين درسًا في أدب العلم، فلا يسرع أحدهم إلى كل خبر من أخبار الأولين بالتكذيب والسخرية، ويتواضع قليلًا ليفهم أن الصحيح في تلك الأخبار أكثر من صحيح أخبار هذا العصر الذي نعيش فيه.
والطبعة الجديدة عن كشوف مصر وإيطاليا والشرق الأوسط، تعيد القديم من تواريخها جديدًا نستغربه كأننا لم نسمع به قبل الآن، وبعض ما فيه عن الأحياء أعجب من حكايات الموتى الخالدين والموتى المنسيين.
والكتاب الشامل عن فتوح الإنسان من أقدم الأزمان يسجل الكشوف التي لا شك فيها والكشوف التي يعتورها الشك الكثير، وعلى حسب هذه الكشوف المشكوك فيها نعلم أن أمريكا وأفريقيا الجنوبية ومجاهل القارات جميعًا قد كُشفت مرات قبل عصر كولمبس وفاسكودي غاما ولفنجستون، ونعلم أن مصر قد كانت لها اليد السابقة في معظم هذه الكشوف.
رقص الصعيد في إسكس Essex
وكتاب السيدة «ماري شوب» عن معاهد نفرتيتي ومآلفها قصة حقة تنبض بالحياة، وأسلوبه الذي اختارته السيدة تغلب فيه عواطف المرأة على تحقيقات العالمة المؤرخة، ولا سيما الأسلوب الذي تصف فيه حفلات الفلاحين وأغانيهم ومراقص الرجال والنساء في الصعيد.
ولعلها جاءت فيه بمعلومة عن الرقص الصعيدي؛ تعتبر عند المصريين من أهل الصعيد والريف خبرًا مفاجئًا لم يسمعوا به قبل الآن.
ففي إحدى الحفلات التي أقامها الفلاحون لتوديع البعثة يرقص الفتيان رقصة تعجب الحاضرين والحاضرات، ويقول أحدهم «رالف» متسائلًا: أين يا ترى شهدت هذه الرقصة بعينها؟ أين رأيت هذه الخطوة بعينها وهذه الحركات من الذراعين بعينها؟!
ثم يذكرها بعد هنيهة فيصيح قائلًا: عجبًا! إنها هي بعينها رقصة موريس التي رأيتهم يرقصونها في إسكس.
ثم قال: هذا أو ربما كانت بعض ما عاد به الصليبيون من الشرق إلى البلاد الإنجليزية!
وإنه لظريف حقًّا أن يقدم الكشافون من إنجلترا للبحث في أرض الصعيد، فيكشفوا عن تاريخ بلادهم نفسها قبل تاريخ هذه الأرض المباركة، ويتذكروا فتنفعهم الذكرى … ولعلها تنفعنا أو تنفع الذين يرقصون منا، ويحسبون أن كل خطوة يخطوها الراقصون على سطح الكرة الأرضية تستحق منهم أن يتعلموها ويتعبوا في تعليمها، إلا الخطوات على الأرض المصرية في الجنوب أو الشمال.
الذئب أرحم
ونختار من كتب الدراسات النفسية كتابًا قيمًا عن نفسية الحيوان.
إذا وجدت بين يدي كتابًا عن النفسية الإنسانية وكتابًا عن طبائع الحيوان، فقليلًا ما يساورني التردد في البدء بالكتاب الذي يُعنَى شيئًا عن طبائع الحيوان.
ولا أميزه بالتقديم لأنني أفضل الحيوان على الإنسان، وإن جاز هذا في عرف المؤمنين بالتطور والقائلين باحترام الأجداد والأسلاف!
كلا! لا أبدأ بطبائع الحيوان لأنها أفضل من خلائق الإنسان، ولكني أبدأ بها لأنها في رأيي كالمسودة التي تكشف لنا المقاصد الخفية قبل التنقيح والتعديل، وأبدأ بها لأنها أبسط من التركيبة الإنسانية التي تخدعنا ونغالط فيها أنفسنا، ولا خداع ولا مغالطة في طبائع الحيوان الأبكم، من طريق الكلام أو غير الكلام.
صاحب هذا الكتاب الدكتور كونراد لورنز مرجع موثوق به في لغة الطير والسباع وسائر الأحياء.
واسم كتابه خاتم سليمان؛ لأن سليمان الحكيم كان يعرف لغة الطير بفضل هذا الخاتم المعجز، وصاحبنا يحب أن يزعم أنه قد عثر بنسخة من الخاتم القديم مفرغة في قالب حديث، يفهم أحياء هذا الزمن كما كان سليمان يفهم أحياء زمانه، ولا فرق في النهاية بين الفريقين.
وليس في المختصين بدراسة الحيوان من ينكر على الرجل دعواه، فإنه يستطيع أن يناغي كل طائر بلهجته وخصائص نطقه، فيجيبه الطائر ويصدع بأمره، ويتفق أحيانًا أن يفاجئه بعضهم وهو يخاطب الإوز سهوًا بلغة البط أو البجع أو طيور الماء، فيُسرع معتذرًا كأنه يخاطب إنسانًا بلسان غير لسانه: عفوًا عفوًا، إنما أردت أن أقول كواك كواك!
هذا السليمان الحديث يروي لنا تجاربه مع الأحياء الضارية المخيفة والأحياء الوادعة الأليفة، ثم يخرج منها بنتائج محققة لا موضع فيها للفلسفة ولا للمجاز والكناية، وإنما هي صور حرفية لما رآه وأعاد رؤيته سنوات بعد سنوات.
من تجاربه أن الحمامة لا ترجع عن خصمها إذا حُبست معه في قفص واحد حتى تُجهز عليه، وأن السباع عامة تجري على سنة غير هذه السنة في صراعها مع أبناء نوعها؛ فلا يعتدي الذئب على الذئب الذي يقاتله إذا استسلم له هذا وطأطأ أمامه بعنقه ليكشف له مقتله، وهو قادر على قتله بعضة واحدة لو شاء.
ولكنه لا يشاء، ولم يحدث قط شذوذ عن هذه السنة في كل ما شاهده صاحب الكتاب أو سمع به من زملائه في هذه التجارب العلمية.
ولا يجزم الرجل بتعليل لهذه العادة العجيبة، ولكنه يقول على سبيل الترجيح إن سلاح الذئب مركب في جسمه، وإن كل تركيبة في جسم الحيوان فإنما يُراد بها حفظ النوع، وتنتهي مهمتها إذا فرغ الحيوان من الدفاع عن نفسه. ولو أن الوحش قتل كل وحش من نوعه يستسلم له في صراعه، لانقرض النوع بعد بضعة أجيال وانعكست الآية من تزويده بذلك السلاح.
وهنا يسمح العالم لنفسه بقليل من الفلسفة، فينتقل من عادة الحيوان إلى عادة الإنسان في الحروب بين القبائل والأمم، ويبدو له أن المصيبة مع هذا الإنسان أن سلاحه غير مركب في بنيته، وأنه يصنعه بيديه ليقتل به عدوه، فلا يقتنع بالدفاع ولا يمنعه مانع أن يشتط غاية الشطط في استخدام السلاح.
سيأتي اليوم الذي تقف فيه الأمم فريقين متناجزين، ويواجه كل فريق منهما فرصة سانحة للقضاء على عدوه، وسيأتي اليوم الذي ينقسم فيه نوع الإنسان بين معسكرين متناحرين، فهل تراه يسلك يومئذ مسلك الحمائم أو مسلك الذئاب؟!
وظاهر أن الأمل الوحيد مُرْتهن بحكمة الإنسان وإيثاره مسلك الذئب على مسلك الحمامة.
وصدق أبو العلاء حكيم كل زمان حيث قال:
ولم يخل في حكمته من محاباة؛ لأنها على قول سليمان الحديث أظلم من الصقور والبزاة!