شرق وغرب١
-
انتهى عصر الحقنة.
-
لماذا أعتقوا مالنكوف؟
عصر الحقنة
مضى على ما نعتقد «عصر الحقنة» المنبهة أو «المفوقة» في عصر النهضة الشرقية.
مضى عهد المفاخرة بالحق وبالباطل لاستنهاض الهمم واستثارة النخوة، وتحريض العزائم على محاكاة الأجداد والتشبه بهم في المجد العريق.
مضى عهد الحقنة التي نأمن أوائلها ولا نأمن عواقب الإفراط فيها إذا عولنا عليها وحدها ولم تعول على قوة البنية ومناعتها.
أما اليوم فنحن في عصر «الغذاء الصحي»، الذي نختار منه للبيئة ما ينفعها وما تعتمد فيه على وظائفها الصحيحة وقدرتها التي لا شك فيها.
ولهذا يكفينا أن نقول اليوم ونحن على يقين إن ظهور الأديان في الشرق دليل على اهتمام الشرق بالروحانيات وشعوره بالحاجة إليها، وحسبنا اليوم أن نحافظ على هذه المزية التي لا غنى عنها في عصرنا هذا على الخصوص؛ لأنه العصر الذي أفرط، غربًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا، في عبادة الماديات.
أما أننا نحن الشرقيين قد احتقرنا المادة قديمًا أو حديثًا فيفتح الله ثم يفتح الله.
هذه «ألف ليلة» وما شابهها من كتب الشرق تفيض بالماديات و«الحسيات»، التي لا فرق بينها وبين الغرق في بحار المادة والحس فعلًا إلا أنها موقوفة التنفيذ.
وهذه أسماء «السيف» يقال إنها بلغت المئات في اللغة العربية فلا يفهم من ذلك، بداهة، أنه دليل على «الموت في حب السلام».
كلا، ذلك دليل على الموت في سبيل الحرب، وليس بدليل على الموت في سبيل السلام.
فلنعرف أنفسنا على حقائقها كما ينبغي أن نعرف جميع الحقائق.
وإننا لنعلم إذا عرفنا أنفسنا على حقائقها أننا نحب المادة وأننا أحببناها من قبل، ولكننا نعلم كذلك أننا نهتم بالروحانيات ولا نزال مهتمين بها، وفي هذا الكفاية للخلاص إذا عقدنا الرجاء على الخلاص من ربقة المادة بقبس من عالم الروح.
وعلى الله تحقيق الرجاء.
ومفاخرهم أيضًا
ومفاخر الغربيين أيضًا في هذا الزمن عرضة للمناقشة وإعادة النظر، إن لم تكن عرضة للتفنيد والإنكار.
إنهم يزعمون أنهم أصحاب العقول التي احتكرت فضيلة «الاختراع» والابتكار، وينسون ألوف السنين من أجل مائة سنة أو مائتين على الأكثر في تاريخ الاختراع الحديث.
فالواقع الذي لا نكران له أن المبتكرات الكبرى جميعًا من عمل الشرقيين، وأنها هي المخترعات التي نقلت الإنسان في الخطوة الأولى وهي أصعب الخطوات، ثم تلتها خطوات أخرى قد تقل عنها في صعوبتها ولكنها لا تقل عنها في آثارها الباقيات.
من الذي روض الحيوان والنبات؟ من الذي صنع السفن؟ من الذي أقام البناء؟ من الذي نسج الثياب؟ من الذي أبدع الآلات؟
لقد قيل في تعريف الإنسان إنه الحيوان الذي يستخدم الآلة، وهو التعريف الذي يضع الحد الفاصل حقًّا بين أرقى أنواع الحيوان وأسفل أنواع الإنسان.
هذه البقايا متقاربة في الأعمار، يذهب بها بعضهم مئات الألوف من السنين، ويقنع بعضهم بعشرات الألوف.
والإنسان الشرقي هو الذي وجدت معه صنوف الآلات التي لم توجد مع إنسان في القارة الأوربية، فهو صاحب فضل في الاختراع الأول من أعرق الأصول.
وقد وجدت أصول الخيل والإبل في القارة الأمريكية، ولكنها لم تعرف كيف تستخدمها قديمًا حتى عادت إليها بعد كشفها الأخير.
ولا خلاف على فضل الشرق في مخترعات وادي النيل ووادي النهرين وشرق البحر الأبيض، فليس للغرب إذن أن يستطيل بدعواه من أجل مائتي سنة، وليس لنا نحن الشرقيين أن نستطيل عليه باحتقار المادة، ولا سيما في هذا الزمان، فإن أكثر ما نستطيل به من ذلك «قصر ذيل»، وحسبنا أننا سبقناه إلى العناية بالروحانيات وسبقناه إلى القدرة على الاختراع.
فإذا جاء الغد وكُتب لنا أن ننقذ العالم بروحانية جديدة من حاضرنا أو ماضينا، فليقل يومئذ من شاء ما يشاء، وربما أغناه حسن الفعال عن حسن الثناء.
ومن الحضارتين إلى الكتلتين
ولا بد من حديث الكتلتين بعد كل كلام يدور على الشرق والغرب في هذه الأيام، فإنه المدار الذي ينطوي فيه العالم بما رحب، ويدور على عقبيه كما يدور إلى الأمام في طريق المستقبل المجهول.
ذلك حديث الصراع بين زعماء الشيوعيين بعد موت ستالين وما سيكون له من الأثر في علاقات الأمم وفي علاقات الحرب والسلم على التخصيص.
ولقد توسعت صحافة العالم في التعقيب على هذه الأحداث الخطيرة، وقلبت ما يعرض لها من الاحتمالات على جميع الوجوه من ناحية السياسة بين الدول الكبرى، فلا ننوي أن نعرض لها من هذه الناحية في هذا المقال.
ولكننا نراها أهلًا للتعقيب الكثير، إذا نقلناها إلى ذلك المدار الواسع الذي يرتبط بتاريخ الإنسانية ومصير العقائد الاجتماعية في هذا الحين وبعد حين.
إن أحداث روسيا الحمراء تهدم مذهب كار ماركس من أساسه، ولا تدع منه إلا أنقاضًا تلحق بما تقدم من آثار الهدم والانتقاض في تاريخ العالم.
فقد كان قوام المذهب كله على فكرة واحدة؛ وهي أن القضاء على رءوس الأموال يبطل الاستغلال، ويفضي بالأمم إلى مجتمع لا طبقات فيه ولا داعية فيه، من ثم، للتصارع على السلطان.
وهذه فكرة سخيفة نقضها الباحثون الاقتصاديون من وجهتها العملية الواقعية منذ عشر سنين، ولخصنا مباحثهم هذه في كتابنا عن فلاسفة الحكم في القرن العشرين الذي صدر منذ أربع سنوات، فقلنا في الصفحة اﻟ (١٠٦) من ذلك الكتاب إن حساب كارل ماركس اختل في هذه المسألة، وإنه «من هنا نشأت طبقة غير طبقة أصحاب الأموال وغير طبقة الصناع والعمال تشرف على أدوات الإنتاج، ولا يتأتى الاستغناء عنها في المجتمع القائم على الصناعات الكبرى، وهذه هي طبقة المديرين الفنيين الذين حذقوا أسرار الصناعة، أو حذقوا أساليب تنظيمها وتصريفها وترويج مصنوعاتها، وهم بين مهندس وعالم طبيعي وخبير بتسيير العمل في المكاتب أو نشر الدعوة.»
ثم مضينا في التلخيص فقلنا إنه متى تداعى رأس المال، فتلك علامة من التطور الطبيعي الذي لا يرجع إلى الوراء، وسينقضي عهد الشيوعية في روسيا وفي غيرها، فلا يلزم من زواله أن تعود الأمم إلى نظام رأس المال كما كانت قبل التجربة الشيوعية، وإنما تبطل التجربة الشيوعية لتعقبها ولاية المديرين الفنيين حيثما وجدت الصناعة الكبرى، فإن لم توجد فالبلاد التي تخلو منها تظل معلقة بدولاب من دواليب الأمم الصناعية الكبرى إلى أن تتمالك قواها وتتمكن من الوقوف على قدميها.
فالذي يحصل في روسيا اليوم نتيجة معروفة للذين ينظرون إلى هذه المسائل العالمية في مدارها الكبير، الذي لا ينفصل من تاريخ الإنسانية في جملتها، وإنما هو صراع بين نفوذ الصناعة الكبرى ونفوذ الساسة والمستوزرين، وما كان مالنكوف في الواقع غيورًا على معيشة العامة والفقراء حين أراد تحويل الصناعة الكبرى إلى إنتاج اللوازم المعيشية وتيسير الضروريات للمحتاجين والمعوزين، ولكنه أراد أن يهدم منافسيه بهدم الأساس الذي يقومون عليه، وهو أساس الصناعات الثقيلة والمصنوعات التي تخرجها، وفي مقدمتها الأسلحة الضخام والطيارات والدبابات والمصفحات، وسائر هذه المصنوعات التي يهتم بها القادة العسكريون كما يهتم بها المهندسون والمديرون والفنيون.
فلا جرم إذن يتفق بولجانين وخروشيشيف سكرتير الحزب الأول، والرجل الذي يدل اسمه أو لقبه الشائع بين الروس على أنه يترقى على عجل، ويتقدم بسرعة كأنها سرعة الدواليب!
ومن الواجب أن يحسب بولجانين من المديرين والخبراء الفنيين قبل أن يحسب من القادة العسكريين؛ لأنه كان مدير مصرف الدولة أو «الجوسبانك» الذي يتبعه ثلاثة آلاف فرع في البلاد الروسية، وكان قبل ذلك مدير مصلحة التعمير التي تممت مهمتها على يديه في ثلاث سنوات بدلًا من السنوات الخمس المقررة في المشروع، ولا شك أن القوم قد اصطنعوا الدهاء إذ نقلوا مالنكوف من السياسة إلى إدارة المصانع الكبيرة؛ لأنهم بذلك قد وضعوه على اللولب الذي يدور به حيث تدور الصناعات الثقيلة، فيعمل لها في مستقبله أو يقضي على نفسه بيديه ولماذا أعتقوه؟
والسؤال الذي يسأله الناس في عجب: كيف نجا مالنكوف من الموت؟ ولماذا سقط من أعلى مراكز النفوذ وهو بقيد الحياة، خلافًا «للعُرف المرعي» في روسيا الحمراء؟
وجواب هذا السؤال يهدم المذهب الماركسي من جانب آخر؛ وهو جانب العلل التي تدفع بطلاب الجاه والسلطان إلى التنافس عليهما والاستئثار بهما في كل مكان.
فعند كارل ماركس أن هذه العلل محصورة في استغلال «الفلوس» … وعند الواقع في روسيا كما في غيرها أنها هي أهواء النفوس وأواصر القرابة، وما إليها من وشائج الصداقة والوفاق.
فالرفيق خروشيشيف صهر مالنكوف، والجنرال بولجانين زميله في مدرسة كاجانوفتش منذ اختاره ستالين لتدريب الشبان المرجوين لخدمة الدولة في المستقبل، فكان مالنكوف وبولجانين في مقدمة النخبة المختارين، وربما كانت المودة «الأوثق» من هذه المودة بينهما أنهما اشتركا في كراهة بريا، والتآمر على إسقاطه وقتله وتفريق شمله.
والعجيب أن مالنكوف وصهره معًا قد أفاضا في الكلام على «المحسوبية» الشخصية في الخطاب الذي ألقاه كلٌّ منهما على مؤتمر الحزب التاسع عشر، فدلا بالكلام وبالعمل على أن أهواء النفوس، أهم من حساب الفلوس، حتى في بلاد الروس!