فلسفة الحكيم١
والحكيم هنا اسم وصفة.
إنه اسم زميلنا الكاتب القصصي الموهوب الأستاذ توفيق الحكيم.
وأما الصفة فهي الفيلسوف التي ترادف صفة الحكيم، وهي الصفة التي اتسم بها الزميل في كتابه الجديد عن «التعادلية» ليشرح فلسفته الجامعة في مسائل الكون والحياة.
وخلاصة هذه الفلسفة، كما يدل عليها اسم الكتاب، أن «التعادل» هو الحقيقة الأولى في كيان الأرض وكيان الإنسان.
قال في الصفحة السابعة عشرة إن الأرض «كرة تعيش بالتوازن أو التعادل بينها وبين كرة أضخم هي الشمس … فإذا اختل هذا التعادل ابتلعتها الشمس أو ضاعت في الفضاء … التعادل إذن هو الحقيقة الأولى لحياة الأرض، فهل صفة التعادل هي أيضًا الأولى في كيان الإنسان؟ فلننظر أولًا كيف يعيش الإنسان من حيث هو كائن مادي، إنه يعيش طبعًا بالتنفس، ما هو التنفس؟ هو حركة تعادل بين الشهيق والزفير، فإذا اختل هذا التعادل بأن طال الشهيق أكثر مما ينبغي طاغيًا على الزفير، أو امتد الزفير أكثر مما ينبغي جائرًا على الشهيق؛ وقفت حياة الإنسان. فإذا تركنا التركيب المادي إلى التركيب الروحي وجدنا عين القانون، فالتركيب الروحي للإنسان له هو أيضًا شهيقه وزفيره فيما يمكن أن نسميه الفكر والشعور، أو بعبارة أخرى العقل والقلب، والحياة الروحية السليمة هي أيضًا تعادل بين الفكر والشعور.»
بين الرصيفين
تلك هي خلاصة «الفلسفة التعادلية» التي يدين بها الحكيم الكاتب، والحكيم الحكيم.
ويبدو لنا أن الأستاذ دخل في البحث بهذه الفكرة، ولم يخرج بها بعد البحث في هذا الكتاب على الأقل: كتاب التعادلية.
ومن الجائز أن الأستاذ — في حياته الفكرية — بحث ثم انتهى إلى هذه الفكرة، وأخذ بالمقدمات زمنًا طويلًا ثم استطرد منها إلى النتائج في خاتمة المطاف.
ولكنه في الكتاب قد طرق الباب وفكرة «التعادل» معه على الباب.
ونحن نؤمن برسالة الفن في توضيح الأفكار، ونؤمن بأن التصوير الفكاهي — أو الكاريكاتور — هو خير وسيلة لإبراز فكرة تحتاج إلى الإبراز.
ولهذا نعمد إلى هذا التصوير، الكاريكاتوري، لنقول إن السلامة في رأي صديقنا الفيلسوف هي السير في وسط الطريق بين الرصيفين.
لا على الرصيف الأيمن ولا على الرصيف الأيسر، بل في مكان متعادل بين الرصيفين.
ولا بد من الاستعداد قبل ذلك بنمرة الإسعاف!
مقابلة وضعية
إن حرص الأستاذ الحكيم على الأمثلة التعادلية قد أنساه أن التقابل بين الأشياء ضرورة وضعية آلية، أو أنها على أحسن تعبير ضرورة لغوية اصطلاحية!
فماذا تكون المواضع إن لم يكن فيها يمين ويسار، وأسفل وأعلى، وأمام وخلف، وأبيض وأسود، وحر وبرد، وحركة وسكون، وجمال وقبح، وصحة ومرض، وشيء يقابله شيء في كل وضع وفي كل تعبير.
فالتقابل بين الأشياء ضرورة وضعية لا محل فيها — أكثر الأحيان — للقيم الأخلاقية والمعاني الفكرية، وإنما هي ضرورة الوجود المحدود بالنسبة إلى غيره من الموجودات، وما يكون فوق هذا يكون تحت ذاك، وما يكون على يمينِ سائرٍ يكون على يسار غيره، وما يكون حسنًا في وضع من الأوضاع يكون سيئًا في وضع سواه.
حتى التقابل بين الفكر والشعور
ونستطرد من المتقابلات الوضعية إلى المتقابلات التي تمتزج بالمعاني والآراء، وقد ذكر منها الأستاذ توفيق متقابلين اثنين مهمين في مذهبه الفلسفي؛ وهما العقل والقلب أو الفكر والشعور.
ويرى الأستاذ توفيق أن الإيمان من عمل القلب والشعور، وأن التفكير المجرد من العاطفة يؤدي إلى الكفر والتعطيل.
والذي نراه نحن أنه لا تقابل بين الفكر والشعور، حتى في هذه المسألة التي يخطر على البال أنها مسألة فكر وشعور قبل كل شيء.
إن في العالم اليوم ملايين من الخلق لا باعث لهم على الكفر والإلحاد غير باعث الشعور بغير تفكير.
إنهم يشعرون بالكراهية والسخط ويصبون غضبهم على الكون كله؛ لينكروا فيه كل معنى ويجحدوا فيه كل جميل.
إنهم يشعرون بغواية الشهوات والموبقات ويشعرون بالعوائق التي تصدهم عنها من جانب الدين، فيمرقون عن الدين ذهابًا مع الشعور بالمنعة، والشعور بالانطلاق، أو الشعور بالفوضى والتمرد على الأوامر والنواهي والمحرمات والمحللات.
ومن الناس من يكفر بالله على سبيل التحدي والمناجزة؛ لأنه يحسب أن الله يُحابي ذوي النعمة والجاه، ويريد أن يثور على هذه المحاباة فيجعلها ثورة في صورة الإنكار والإلحاد.
ومن الناس من يهديه الفكر وحده إلى الإيمان؛ لأن الفكر لا يناقض الإيمان بطبيعته، بل يمشي معه في طريقه، ولكنه لا يستطيع أن يبلغ الغاية من هذا الطريق؛ إذ كان الفكر محدودًا والغاية من هذا الطريق بغير حدود.
والحياة ليست على الحياد
والحياة، بعدُ، ليست على الحياد بين هذه الموجودات، كائنًا ما كان وضعها من التقابل أو التعادل.
الحياة على الدوام خروج على الحياد إلى جانب من الجوانب، وقدرة تقاوم دواعي التعادل إذا اقتضى الحال، وكثيرًا ما يقتضيه.
مثال ذلك حرارة الجسم وحرارة الهواء.
إذا تساوت حرارة الجسم وحرارة الجو فلا حاجة إلى وقاية من الملبس أو المسكن.
ولكن الحياة تخرج دائمًا على الحياد لتزيد هنا أو تنقض هناك، ولولا هذا الخروج على الحياد، لما كانت الملابس ولا المساكن ولا المناجم ولا العلوم التي تُعنَى بخصائص المواد والتوفيق بين درجات الحرارة ومطالب الحياة.
والمثل الذي ضربه الأستاذ توفيق للتعادل من دوران الأرض حول الشمس أو ضياعها في أجواز الفضاء، إنه لو كان مثلًا للحياد بين قوتين لأصيبت الأرض والشمس بالشلل، ولم تتحرك هذه ولا تلك بانتظام ولا بغير انتظام.
ولكن الأرض تحركت؛ لأن هناك شيئًا خارجًا على الحياد بين الجاذبية والاندفاع، ولولا أن الأرض تملك ذلك الشيء الذي يقاوم جذب الشمس ودفعها على السواء، لسقطت بغير حراك.
ربح وخسارة
وبعدُ، فإن الحياة «لعبة» لم تُخلق ليخرج منها اللاعبون متعادلين «كيت» على سواء.
وإنما خُلقت الحياة لتقاوم ما حولها وتتغلب على كل مقاومة، وإنها لحية قادرة ما دامت «تُقاوم» وتتغلب، فإذا تعادلت قوى العمل والسكون، أو قوى البناء والهدم، وقفت وآذنت بالانحلال ثم الزوال.
الحياة قوة تعمل وتقاوم الحوائل دون عملها، وظهورها بين عناصر المادة نفسه إنما هو ظهور شيء يتجه مع الدوافع والبواعث، ولا يقف متوسطًا بين جميع الاتجاهات، وكلما ارتقت الحياة تبين ارتقاؤها في وسائل الاتجاه لا في وسائل الوقوف والسكون بين الأطراف، فهي إذا أرادت عملت، وإذا عملت قدرت على المضي إلى وجهتها وتوسلت لها بوسائلها، ومقياس الارتقاء بين حياتين أن الحياة الأرقى مريدة فعالة، وأن الحياة التي دونها تخضع لما حولها وتتكيف بالمؤثرات ولا تُؤثر فيها.
ولنضرب مثلًا بالأستاذ توفيق نفسه، وهو يهم بتأليف الكتاب عن التعادلية.
فماذا كان يحصل لو تعادلت أسباب الكتابة وأسباب السكوت؟
لا توجد فلسفة التعادلية.
وفلسفة التعادلية على كل حال شيء خارج على الحياد، وينبغي أن يكون خارجًا على الحياد في الساعة التي يحاول فيها إقناعي بالتعادلية، ويحاول فيها أن يصل إلى يدي ثم إلى إرادتي ثم إلى عقلي، ثم إلى عملي بعد الفراغ من الإقناع.
وحمار الحكيم
وننتقل من الحكيم إلى حماره القديم.
لكنه هنا حمار له زميل أولى بالتقديم، وهو حمار «بريدان» المشهور في التعادل بين حزمتي البرسيم.
ضربوا المثل بحمار «بريدان» فقالوا إنه يهلك جوعًا بين حزمتي البرسيم عن يمينه وعن يساره، إذا تساوت الحزمتان في اللون والمقدار والرائحة وسائر المشهيات والمرغبات.
وكان من المضحك أن يصور الفلاسفة حمارهم على هواهم، وأن يتخيلوه واقفًا على الحياد بين الحزمتين، فلا يميل إلى هذه أو إلى تلك إلا بمرجح في إحدى الحزمتين.
وهذه فلسفة لن يعترف بها الحمار، ولن يعمل بها في ذلك الموقف ولا في موقف غيره؛ لأنه لا يقف فيه على الحياد، ولا يلبث أن يُطالب نفسه بالاختيار بين شيئين لا بين حزمتين من البرسيم.
لا يلبث أن يُطالب نفسه بالاختيار بين الأكل أو الموت جوعًا، ومتى اختار الأكل فإنه ليأكل يمينًا أو شمالًا ولا يُبالي ذلك التعادل المزعوم بين برسيم اليمين وبرسيم الشمال، فإنه هو لا يقف على الحياد بين الموت جوعًا وأكل البرسيم حيث كان.
كاتب المسرحية كمفكر
ومن المصادفات أن كتاب «التعادلية» كان أول كتاب قرأته بعد الفراغ من كتابين وصلا إلى مصر في الشهر الماضي، وكلاهما يتكلم عن المسرحي المفكر أو القصاص المفكر، أو عن الفكرة التي يعمل لها كُتاب المسرحيات والروايات.
أحدهما كتاب «مؤلف المسرحية كمفكر»، لصاحبه إريك بنتلي أستاذ الأدب المسرحي بجامعة كولمبيا الأمريكية.
والآخر كتاب «مقالات أدبية وفلسفية بقلم سارتر» مترجمة بقلم أنيت مكلسون من الفرنسية إلى الإنجليزية.
فكان الإغراء بالتطبيق قويًّا بعد قراءة الآراء والقواعد والملاحظات، ثم قراءة الفلسفة التي يكتبها بقلمه كاتب عربي في طليعة المؤلفين التمثيليين، وإن لم تكن رواياته المفرغة في القالب المسرحي مما يُمثل على المسارح في جميع الأحيان.
من العودة إلى التسلية
وفي وسع القارئ أن يتصور «برج بابل» على الطراز الحديث إذا استمع إلى الآراء المضطربة المتناقضة، التي جُمعت في هذين الكتابين.
فمن هذه الآراء أن الدراما، كما قال لويس قبل ثمانين سنة، تتحول من المراسم الدينية إلى العبارة الفنية إلى التسلية وتزجية الفراغ، وأنها لا تنقذ نفسها من هذه الحطة التي تنحدر إليها إلا إذا تخصصت لفكرة تدعو إليها، أو لحالة اجتماعية تعرضها معرض النقد والتصوير.
ومن هذه الآراء أن الصور المتحركة قد أبطلت الدرامة الواقعية كما بطل تصوير الملامح والأشباه بعد ظهور الصور الشمسية، فلا حاجة اليوم إلى «المذهب الواقعي» أو المذهب الطبيعي على المسرح؛ لأنهما مذهبان متوافران على اللوحة الفضية بغير مجهود.
ومن رأي «بنتلي» أن الدراما العصرية مصابة بالجفاف واليبوسة، وأنها إذا قرئت بعد شكسبير وشعراء اليونان كانت أشبه «بالسناريو» الذي ينتظر الملء والحشو خلال التمثيل.
وإذا كانت الفكرة هي التي تنقذ الدرامة من حطة اللعب الماجن والتسلية الرخيصة، فكيف يعالجها المفكر على أسلوبه الفني دون أن يخرج على أصول الفن أو وظيفة الفنان؟
يريد ماسون من المؤلف أن يختفي عن النظر وعن الفكر أثناء عرض الرواية، ويعيب على سارتر أنه يفتأ يشد الخيوط ويتدخل بين الشخوص كما يفعل صاحبه جويبتير في التطفل على الواقع لتنفيذ مقاديره وإرسال بروقه ورعوده.
ويرد عليه بنتلي قائلًا إنه لم يلاحظ هذا التطفل والاقتحام على مسرحيات سارتر، وإنه — لحسن الحظ — قرأها قبل أن يطلع على فلسفة سارتر، فبدا له أن القارئ يستطيع أن يتلقى أفكارها بداهة وإن لم يسمع من قبل باسم كيرجارد وهيدجار.
ونعود إلى سارتر فنسمع منه العجب في نقد الفكرة الروائية؛ لأنه — وهو الفيلسوف الوجودي الملحد — يكتب عن الكاتب الكاثوليكي مورياك فيقول: «إن الكُتاب المتدينين أصحاب «عقلية» صالحة لكتابة الرواية؛ لأن المتدين حر، ولعله يغيظنا بيقينه؛ لأنه شيء مكتسب، ولكنه إذا كان كاتبًا روائيًّا فهذه الصفة فيه مزية.»
ثم يقول: «إنه حتى فكرة الخطيئة توافق أصلًا من الأصول اللازمة لكتابة الرواية.»
ثم يفاجئ الكثيرين من الوجوديين المتشبهين به في مصر والبلاد الشرقية حين يقول إن الفكرة المادية تناقض الحرية بل تناقض طبيعة الفكرة؛ لأنه كما جاء في مقاله عن المادية والثورة: «إذا كان الواقع النفساني تحت سيطرة الواقع البيولوجي، وكان هذا الواقع البيولوجي تحت سيطرة الأحوال الطبيعية في العالم؛ فمن الجائز أن يكون الفكر دالًّا على سببه، ولكنه لا يجوز أن يكون دالًّا على قصده وموضوعه.»
برج بابل
وكن على يقين أنك تسمع الرأي ونقيضه من كل ناقد قبل أن تنتقل من البحث إلى غيره، أو من الفصل إلى ما بعده؛ لأن المصيبة العظمى في هؤلاء النقاد أنهم مولعون بإعطاء الأسماء وإقامة الحواجز وتقييد الآراء في سياق البحث عن حرية التفكير، وكلهم تعنيه فكرة واحدة مسلطة على رأسه وهو يكتب أو يتعرض بالنقد لمن يكتبون، وتلك الفكرة الواحدة هي تبرئة الفن من تهمة «الفقر العقلي» أو التجرد من القدرة على التفكير، وعلى هذا يحشرون الأسماء المصطنعة حشرًا ليطلقوها على أفكار فجة كفقاقيع الصابون لا تقوى على نسمة هواء، وأظن أن هذه الحركة لا تزال على مشابه وثيقة من الحركة النسوية في عالم السياسة؛ فإن المرأة التي تمتلئ بفضائل جنسها لا تعنيها مساواة الرجل في حقوقه ولا في واجباته، وإنما تطمح إلى مساواته حين تشعر بالفقر النفساني أو العقلي بالنسبة إليه، فلا يرضيها إذن إلا أن تكون كالرجل في جميع الصفات، لو كانت هذه الصفات من العيوب.
والخلاصة
والخلاصة أن الفن لا يخلو من الفكر ولا يمكن أن يخلو منه؛ لأنه «فن إنساني» يعبر عن «الشخصية الإنسانية».
وليس من المعقول أن يوجد فنان كبير بغير فكرة أو بغير فهم بديهي للتفكير، ولكننا على هذا لا نزال نشعر بوظيفة للفنان ووظيفة أخرى للفيلسوف، وقد نقترب بهذه الحقيقة من المشاهدات اليومية؛ إذ قلنا إن الرجل العظيم لا يخلو من خلق عظيم، ولكننا نطالبه بغير عمله حين ننتظر منه بحثًا في حقائق الفضائل ودخائل المحاسن والعيوب التي يتصف بها العظماء وغير العظماء.
مكان التعادلية
وبعدُ، فأين مكان «التعادلية» من فلسفة الحياة؟ وأين هي من الفكرة التي تشيع في روايات الحكيم؟
الحق أن «الفكرة» في روايات الحكيم الفنان أقوى من الفكرة في كتاب الحكيم الحكيم.
هناك لا تعبر فصلًا من رواية دون أن تلقاك فكرة صائبة أو فكرة جميلة على لسان شخص من شخوصها، يقولها ولا يُباليها.
وهنا في كتاب الحكيم الحكيم تفتتح الكتاب من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة على فلسفة وتفكير، ولكنك لا تأمن إذا أسلمت زمامك للحكيم الحكيم أن يدلك على أسلم الطرق في الحياة: طريق التوسط بين الرصيفين.