من أسرار التاريخ والأدب١
الكتاب الأسود
أما قضية الكتاب الأسود، فقد كان الباعث عليها تمثيل رواية «شلومة»، التي مُثلت في باريس وبرلين قبل أن تُمثل في البلاد الإنجليزية، وكان تمثيلها محظورًا على المسارح العامة، فمثلتها جماعة المسرح المخصوص وقصرت حضورها على المشتركين في الجماعة.
ولما وصل الشاهد على سرد الأسماء، قاطعه القاضي وأمره بالسكوت وقال له في حدة وغضب: «إنني لم أعترض أقلَّ اعتراض على تصريحك باسمي في هذا الصدد، ولكنني أصر على حماية الغائبين عن الجلسة!»
ودُعي للشهادة في هذه القضية لورد ألفريد دوجلاس، عشيق أوسكار وايلد الذي كان يومًا من الأيام موظفًا بالوكالة البريطانية في القاهرة، فسُئل عن ترجمته للمسرحية من الفرنسية إلى الإنجليزية، فكانت شهادته وتعقيبات المعقبين عليها وصمة لا حاجة بنا إلى تفصيلها، ولكنها هي وما شابهها — مما هو أقذر من كل مجونيات أبي نواس — مدونة في تقارير النفسانيين، وبعضهم علماء مختصون يرتفعون بنسبة الشواذ في ألمانيا نفسها — حيث يُحفظ الكتاب الأسود — إلى أكثر من عشرة في كل مائة، ويرِد في هذه التقارير أسماء غليوم وبيلوف وطائفة من زعماء النازيين.
وقد سئل المحلفون عن رأيهم في بمبرتون هل هو مذنب أو غير مذنب، فاتفقوا بعد اجتماع قصير على أنه غير مذنب، واضطر القاضي دارلنج إلى إعلان براءته. وهي براءة لا يخفى ما تدل عليه.
ثم عاش بمبرتون إلى أن تُوفي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنتين، فعاد الحديث عن القضية لهذه المناسبة، وضمنها مونتجمري هيد من رجال القانون والبرلمان كتابًا خاصًّا عن القضايا التي غيرت القانون.
فليست فضائح لندن وبرلين وباريس ونيويورك بأهون من فضائح بغداد، وليس الراقصون بالليل والنهار بأشرف ممن لا يرقصون، وليس إحصاء الكتاب الأسود في عاصمة واحدة بأقل من إحصاء الديوان النواسي وما احتواه من القصائد والأبيات.
وتهميشات
وننتقل إلى الهامش فنقول «أولًا» إنها سواء كانت حربًا أو غير حرب، فماذا يضير الأستاذ سلامة منها؟ إنه لخليق أن يوقن بالتطوع لمؤازرته من أولئك الذين يعنيهم العقاد جدًّا، أو يعنيهم جدًّا جدًّا، فيقولون الأرض كلما قال السماء، ويقولون اليسار كلما قال اليمين، ويقولون لعنه الله كلما قال حياه الله!
وواحد منهم على ما نظن يخصنا بعنايته في اختيار الصور، ونطمئنه على ذخيرته فنؤكد له أن عندنا صورًا لنا نحفظها «أشوه» من كل صورة في يديه، فإذا نفدت الصور التي عنده فلا يخف ولا يحزن، فإن الصور التي عندنا في الخدمة حين يشاء!
ونقول «ثانيًا» بعد انتقالنا إلى الهامش إن صديقنا الأستاذ الشناوي يتواضع حين يذكر المعارك القلمية وينسى حصته المباركة فيها.
قال فيما قال: «وقامت معركة عنيفة بين الأستاذين الكبيرين عبد القادر حمزة في البلاغ ومحمد توفيق دياب في الجهاد.»
ونسي أن يقول: «وكان الأستاذ الشناوي يتناول التلفون ليتحدث لحظة إلى الأستاذ أنطون الجميل في الأهرام، ويتحدث بعدها لحظة إلى الأستاذ دياب، ويتحدث بعدهما أو قبلهما إلى الأستاذ عبد القادر حمزة، ويعمل جهده في هذه المحادثات الفنية للتهدئة والتوسط واستدراج حفني محمود — رحمه الله — إلى الوساطة بين الخصوم، وأنه نسي في جميع هذه المحادثات أن يذكر اسمه مستترًا بأسماء غيره وغيرهم، ومبالغًا ثمة في التواضع ونكران الذات.»
وهي حصة ينساها الأستاذ الشناوي ولا يصح أن ينساها التاريخ.
وعلى فكرة …
نعم على فكرة، لا تنسى أيضًا كلما ذكرت عجائب المصادفات، وينبغي أن نذكرها لنذكر دائمًا أن المصادفة تأتي بالخوارق في كثير من المناسبات.
إن الأستاذ الشناوي يكتب يومية الثلاثاء عن الحروب القلمية، فيقول فيها ما قال عن حرب البلاغ والجهاد.
ثم يكتب بعدها على الأثر يومية الأربعاء عن تشابه الأصوات.
فيا للعجب! هل لتشابه الأصوات يد في إحدى هذه المناسبات؟
الله أعلم، ومن الناس من يعلمون وينسيهم التواضع نصيبهم المأثور فيما يكتبون.