من عالمنا إلى العالم الآخر١
أذاع البرق من أمريكا، منذ أسابيع، خبرًا مفصلًا بعض التفصيل عن كشوف جديدة في كوكب المريخ، وصل إليها أحد العلماء الأمريكيين، فوجدنا أن تلك الكشوف مشروحة في الكتب الفلكية المبسطة وغير المبسطة التي طُبعت قبل عدة سنوات، ونقلنا ما أثبته الفلكيون في تلك الكتب عن لون الكوكب وعن الماء والأكسجين الطليق فيه، وعن النبات الذي يجوز أن ينبت في جوه، ومنه ما هو مذكور باسمه؛ كالصبير وجزار الصخر أو زهرة الحجر التي يعرفها أبناء الكرة الأرضية.
ومن الواجب أن نقول إن تلك الكشوف مسبوقة؛ لأنها في الواقع مسبوقة لا يجوز أن يقال عنها بلسان البرق إنها كشف جديد لم يُعرف قبل الآن.
فلنفرض جدلًا أن الخبر كما نشر لا يحوي جديدًا، فإنه ليس بخافٍ على الأستاذ العقاد أن من أصول البحث العلمي، أيًّا كان نوعه، تكرار المشاهدات والتجارب التي أجريت حتى منذ مئات السنين.
ونقول نعم، هذا من أصول البحث العلمي التي لا تخفى على أحد، ولا يمكن أن تخفى عليه لو أراد أن يخفيها عن نفسه، فإن البحث العلمي لا ينقطع ولا يبطل فيه تكرار المشاهدة، ولكن ليس من أصول البحث العلمي في هذه الحالة أن يقال عن القديم السابق إنه جديد غير مسبوق، وإنما تقضي أصول البحث العلمي أن يقال إن هذا الكشف يؤيد الكشوف التي سبقته حيثما اتفق التأييد.
وللأستاذ علينا حق الشكر؛ لأنه أراد أن يدهشنا بشيء عجيب في هذا الزمن الذي لا عجيب فيه.
ولكنه نوى أن يدهشنا فكُتب له ثواب النية دون أثرها ومقصدها، فإن خبرًا عن بحوث إراتستين لن يدهشنا؛ لسبب بسيط لا حيلة للأستاذ ولا لنا نحن فيه.
وعلى خطوات من ذلك المقياس بئر أخرى لا تقلُّ عن بئر المقياس خطرًا، ولا تقصر عنها عراقة وأثرًا؛ تلك هي — على عهدة الرواة — بئر إراتستين التي اهتدى منها إلى قياس محيط الأرض، وأدرك على قاب لمحة فيها ما لا يدركه الآخرون بغير طواف الأعوام والشهور، وعرف قبل المسيح بقرنين ما أيده العلم بعد المسيح بقرون.
كتبنا هذا قبل أكثر من ثلاثين سنة، وسمعنا قصته قبل أكثر من أربعين سنة؛ لأن المكان الذي عرف فيه العالم الإسكندري زاوية الفلك بين أسوان والإسكندرية، إنما كان حيث ولدت، على مقربة من مسقط رأسي، ورأيناه وعرفنا قصته على غير اختيار منا كما نرى البيوت والآثار من حولنا، ثم تتبعنا الجديد في هذه القصة بعد القديم، فلم نر فيه تعديلًا لقاعدة ولا تخطئة لنظرية، ولم نعلم أن دقة أكثر من تلك الدقة أضيفت في الزمن الحديث إلى القاعدة التي اعتمد عليها العالم القديم؛ لأن هذه القاعدة لا تتغير ولن تتغير ولا يمكن أن تتغير؛ وهي أن العلم بطول الجزء من المحيط يعرفنا بطول المحيط كله.
هذه هي القاعدة التي اعتمدها إراتستين، وهي لا تتغير في هذا الزمن، ولن تتغير أبد الآبدين ودهر الداهرين، وليس الخطأ منها، ولكنه من حسبان أسوان وإسكندرية على خط مستقيم، ومن حسبان الأرض كرة تامة التدوير.
ولا شان للآلات الحديثة بهذه الحقيقة؛ لأن تغيير الآلات لا يغيرها، ولكنه يغير قياس المسافات الأرضية، سواء أخطأ إراتستين أو أصاب، وكذلك تتجدد المقاييس والضوابط ولا يحتاج العلم بالجديد منها إلى أكثر من النظر بالعين.
فلا جديد فيما قاله الأستاذ الفاضل أخيرًا، ولا فيما قاله وكلاء الأنباء البرقية، ومقطع الرأي أن يذكر لنا الدكتور «إمام إبراهيم» حقيقة الكشف الجديد، ووجه القول بجدته من اختلاف المقادير والمسافات.
ويومئذ نستطيع أن نحيله على مرجع سابق يذكر هذا الاختلاف بمقاديره، أو نعلم حقًّا أن الكشف الجديد غير مسبوق فيما علمناه من كتب الفلك التي يقرؤها غير المختصين!